Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"متنزّه شان دي مارس": الرئيس نجما سينمائيا

أسئلة الإبداع من خلال أيام فرانسوا ميتران الأخيرة

بوستر الفيلم

 

لم يتنفس محبو ورفاق ومساعدو الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران في نهاية الأمر إلا يوم الخامس من شباط (فبراير) 2005 حين كان العرض الأول لفيلم "متنزّه شان دي مارس" وأيقنوا أن ما كانوا يخشونه لم يحدث وأن الفيلم لم يدن حقا من أي من "الفضائح" المتداولة المعزوّة إلى زعيمهم الراحل. وهم لئن كانوا واثقين قبلا من ذلك ولا سيما أن الكتاب الذي أُخذ عنه الفيلم، لم يكن بدوره شريرا في التعامل مع سيرة السنوات الأخيرة من حياة أول رئيس جمهورية إشتراكي في تاريخ فرنسا، والأخير بين سياسييها الكبار، فإنهم كانوا على قدر ما من التوجس لعلمهم أن السينما في صورها وطابعها الشعبي، أشد خطورة من الكتاب في اشتغاله على الكلام وطابعه النخبوي... وبالتالي لخوفهم من أن يسيء الفيلم إلى سمعة الرئيس بأكثر مما فعل الكتاب. لكنها "جت سليمة" كما يقول التعبير المصري، ونفد ميتران بجلده من محاكمة الشاشة الكبيرة له.

ليس أبي لكنه يشبهه

في الحقيقة أن "المتنزّه..." لم يكن لا أول فيلم عن ميتران ولا أول فيلم عن رئيس من أبناء الأزمنة المعاصرة، لكنه كان، في مشروعه أصلا يتسم بخصوصية كبيرة. فميتران كان شخصية مثيرة للجدال في سياساته ولكن كذلك في حياته الشخصية... ولم تكن سنوات عديدة قد انقضت منذ رحيله، كما أن أنصاره أنفسهم كانوا من الصراع معه في آخر سنوات رئاسته لفرنسا وزعامته للحزب الإشتراكي، بحيث أن أقلّ شيء في الفيلم قد يكون من شأنه إشعال المعارك بين "الورثة". لكن ذلك لم يحصل حتى وإن كان لافتا تعليق مازارين، إبنة ميتران غير الشرعية أمام الصور الأولى للممثل ميشال بوكيه وهو يلعب دور ميتران: "هذا ليس وجه أبي حقاً... لكني أقر بوجود تشابه بين الوجهين". ومن البديهي أن تمثل تلك الكلمات نوعا من ضوء أخضر جعل كل شيء ممكنا بل سهلا. فعُرض الفيلم وحقق نجاحا، وانتهى الأمر بلعبة مقارنة فنية بين الكتاب الأصلي والفيلم، بدلا من أن تكون مقارنة سياسية بين الكتاب والفيلم من ناحية، والحقائق التاريخية من ناحية أخرى.

في النهاية أتى الفيلم ممجّدا لميتران ولأفكاره يصور أيامه الأخيرة حين، بعد انتهاء ولايتيه الرئاسيتين، اشترى دارة في الدائرة الباريسية السابعة غير بعيد من متنزه شان دي مارس المحاذي لبرج إيفل حيث راح يتريض يوميا بدعة وهدوء متأملا العالم من حوله وفرنسا التي سيتركها والعالم عما قريب... غير أن هذا كله إنما أتى منظورا إليه من وجهة نظر الصحافي الشاب جورج بن عمّو الذي قبل الرئيس بأن يرافقه في حلّه وترحاله في تلك الأيام مسجلا أقواله وأفعاله بما في ذلك تأملاته الفكرية وتهكماته على الآخرين ولؤمه تجاه رفاقه الإشتراكيين واحتقاره لمعظم السياسيين الآخرين، ورضاه عن نفسه بسبب ردود الفعل التي تركتها سياساته الخارجية في العالم، ثم خاصة نسفه لمقولة كانت ترى أن فرنسا لن تعرف سياسيا كبيرا يضاهي شارل ديغول في مكانته. فهي عرفت ذلك السياسي الكبير المنشود في شخصه هو بالذات ما أضفى عليه كل تلك الطمأنينة وهو على وشك الرحيل من جراء مرض عضال أصابه.

بين كتاب وفيلم

كل ذلك شكّل موضوع الكتاب الذي كان جورح بن عمّو أصدره قبل فترة من تحقيق الفيلم والذي قُرئ على نطاق واسع مضفيا على الصحفي الشاب، ذي الأصول العائلية الجزائرية والشيوعية، شهرة ومكانة لا بأس بهما. والحال أن المخرج روبير غيديغيان، الأرمني الأصل وذا الميول الشيوعية، إنما الميترانية أيضا، حين رأى أهمية أن يُحوّل الكتاب إلى فيلم سينمائي، آثر أن يشتغل على مشروعه بصورة مواربة: حقق الفيلم عن الكتاب وليس عن الرئيس تحديدا. وبالتالي جاء الفيلم عن ولادة الكتاب بأكثر مما جاء فيلما عن موضوعه. صحيح أن الفارق بين الحالين ضئيلا لكنه لا يخلو من أهمية. فنحن لسنا هنا أمام فيلم "يتبنى" الكتاب ويتنطح لملاحقة حياة ميتران في سنوانه الأخيرة، بل أمام فيلم يفعل ذلك من خلال تبني وجهة نظر الصحفي الشاب محمّلا إياه بالتالي مسؤولية كل ما يقوله الفيلم. جاء الكتاب إذا يحكي عن مهنة الصحافي بقدر ما يحكي عن مهنة الزعيم السياسي. وذلك هو المغزى الرئيسي بل حتى المسألة الأكثر أهمية التي تكشف عن إدراك غيديغيان سرّ لعبته بشكل ندر أن أُُدرك من قبل. لقد حدد غيديغيان هنا ذلك الفارق الأساسي بين ما يُصوّر على الشاشة مباشرة ولا سيما حين يتعلق الأمر بنقل نص ما (سيرة، أو أسطورة، أو تاريخ معيّن أو حتى رواية كبيرة الخ...)، وما يقدّم من كل ذلك على شكل لغة، كلمات أو تعابير مكتوبة بشكل عام.

إذاً ما نحن بصدده هنا هو فيلم عن ولادة كتاب وكذلك عن نهاية رجل كبير. والتزاوج واضح هنا بين تلك البداية وهذه النهاية. تزاوج خلاق بين ميتران وهو يكتشف إصابته بالسرطان مدركا أنه لن يعيش طويلا، وبين الشاب بن عمو وقد نال موافقة الرئيس على أن يصحبه في فترة انتظار النهاية تلك، ما سيشكل بدايته الخاصة ككاتب معترف به. وبالتالي سيبدو في غاية الأهمية ما يفعله الفيلم من تسلله إلى حياة الكاتب الشاب العائلية بالتوازي مع حياة الرئيس الذي اختار ذلك الشاب لبثه همومه وأفكاره فيما هما يتنزهان معا في ذلك الفضاء الأخضر الكبير – ومن هنا جاء عنوان الكتاب وعنوان الفيلم بالتالي -. ولكن الفيلم لم يكتف بتلك النزهات الخضراء بل نراه ينقلنا، في الطائرة مثلا، حين يصطحب الرئيس الصحفي إلى لقاء جماهيري، أو إلى لقاءات حزبية حيث يصل التواطؤ بين الإثنين إلى ذروته فيما يتابع الشاب كيف يراقب العجوز بنشوة - ربما يكون بن عمّو الوحيد الذي يلتقطها في حقيقتها – رفاقه من بارونات الحزب وهم يتخبطون في "سياساتهم الخرقاء". وأحيانا حين لا يتوانى ميتران عن استخدام ابتسامته الصفراء كوسيلة تعبير حتى وهو على فراش المرض أو الموت.

أسئلة الإبداع نفسها

ولنكرر هنا، للأهمية، ما أشرنا إليه أعلاه من أن أهمية اللغة السينمائية هنا هي أن كل ذلك لا يقدم الينا بصورة مباشرة، بل من وجهة نظر بن عمّو الذي بقدر ما يعيش ميتران آلامه الصحية طوال ساعتي الفيلم، يعيش هو آلامه الإبداعية في "صراعه" مع الكتاب: آلام المخاض بالأحرى، ولا سيما عبر تحمّله ما يمكننا أن نسميه نزوات "صديقه" الكبير، أو عبر اضطراره من ناحيته، لمجابهة أسرته الشيوعية الناقدة لميتران وغير المرتاحة لخوض ابنها تجربة الكتابة عن ذلك "العدوّ السياسي" الذي ترى العائلة أنه كان في مقدمة العوامل التي دمرت الحزب الشيوعي، بخلق ذلك البديل القوي الذي صاره الحزب الإشتراكيّ في عهده متهمة ميتران بـ"الخيانة الطبقية" للأفكار الإشتراكية "الحقيقية".

من خلال ذلك كله ربما سيكون في مقدورنا أن نقول أنه لئن كان ميتران وبن عمّو هما الشخصيتان الرئيسيتان في الفيلم، فإن من الحريّ بنا أن نقول أن ثمة بطلا آخرا ربما يفوق في حضوره في الفيلم حضور هذين البطلين: الكتاب نفسه. ويبدو الأمر هنا وكأنه تطبيق عملي للنظرية التي ينقلها الأرجنتيني بورخيس عن لوتريامون وفحواها أن كل أحداث العالم وشخصياته تبدو وكأنها لم توجد في نهاية الأمر إلا لكي ينتهي أمرها داخل كتاب، فما يحدث أمامنا في الفيلم ليس سوى هذا: إن الكاتب الشاب لا يهتم أساسا إلا بإنجاز كتابه، فيما يعيش الرئيس أيام حياته الأخيرة متخبطا فيها ما يجعل بن عمّو في سباق مع الزمن، يدور جزء من صراعه من حول أخلاقية الكتابة: حين نكتب عن تاريخ ما، ما الذي نختاره منه؟ ولماذا؟ وكيف؟ وما الفيلم كله سوى محاولة نزيهة للإجابة... والغوص في قضية الإبداع في علاقته بالواقع في الآن عينه.

المزيد من ثقافة