Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مواقع الالتقاء والاختلاف...  بين إدوارد سعيد ومحمود درويش

كتاب يحيى ابن الوليد يجمع بين الفكر والشعر في تجلياتهما الفلسطينية

صورة تجمع بين محمود درويش واداورد سعيد ومارسيل خليفة (يوتيوب)

يظلُّ كتاب "الوعي المحلـِّق - إدوارد سعيد وحال العرب"، هو الأقرب... لا من ناحية ما استلزمه من تكثيف الحضور التحليلي فقط، بل أيضاً من ناحية ما ينطوي عليه البحث في حدّ ذاته من دلالات بخصوص قامة أكاديمية وفكرية في حجم قامة إدوارد سعيد في جبهاتها النقدية والفلسفية والجمالية والفكرية المتعدّدة". هذا ما يقوله يحيى ابنُ الوليد، مؤلّف كتاب "سرديّة فلسطين بين إدوارد سعيد ومحمود درويش" (دار العائدون - عمّان)، الذي يجمع علَمَين قلّما جاد بهما الزمن العربي، خصوصاً هذا الزمنُ الذاهب في الهبوط والانحدار على غير صعيد، إن لم نقُل على الكثير من أصعدة الحياة، بدءاً بالثقافي، الإبداعي، الأدبي والفني والفكري والنقدي، مروراً بالاجتماعي والاقتصادي والسياسي والعسكري، وليس انتهاءً بالإنساني الذي يشهد المزيد من الانهيار لأحوال الإنسان العربي، وعلى الأصعدة كافة أيضاً. علَمان يعرض لهما الباحث والناقد ابن الوليد بقَدْر كبير من الجدّة والعمق. 

وإذا كانت هذه هي المرة الأولى التي "يشتبك" فيها الناقد يحيى بن الوليد، اشتباكاً إيجابياً، مع منجز الشاعر العربي الفلسطيني (العالمي)، وعلى هذا النحو من العمق والتفرّد، فهذه ليست الأولى في ما يتعلق بمتابعته للعلَم الثاني، الفلسطيني الأميركي (العالمي أيضاً ) إدوارد سعيد، ولمشروعه الفكري النقدي الذي جسّد، مع مجموعة من المفكرين العالميين، تياراً في الفكر النظري والمادي/ العمَلي... إذ سبق لابن الوليد أن توقف مطولاً مع فكر سعيد وتنظيراته، ورصد حضوره في العالَم العربي، الحضور الباهت قياساً إلى حضوره، أي سعيد، في المشهد الفكري الهندي، على سبيل المثال، الذي كان "الأكثر تفاعلاً معه، مقارنة مع الثقافة العربية التي كان من المفروض أن تتفاعل معه أكثر". بل يشير ابن الوليد إلى حضور سعيد في إسرائيل، في نطاق ما يعرف بـ"ظاهرة المؤرخين الجدد"، ويكرر ذلك في غير موقع من مواقع تناوله المشروع الفكري "السعيدي". ولا شك أن المقصود هو الجهد البحثي والنقدي، المتضامن ولكن السجالي، المتمثل في كتابه "الوعي المحلق: إدوارد سعيد وحال العرب".

إعادة تركيب

أما لقاؤه اليومَ، وهنا في هذا الكتاب الماثل أمامَنا وضمنَ اهتمامنا وانشغالنا، مع هذين العلَمين البارزَين، محمود درويش شاعراً وناثراً بل ناقداً مفكراً أيضاً، وإدوارد سعيد بمشروعه المتعدد "الجَبهات" كذلك، فهو لقاء وتشريح وتفكيك وإعادة تركيب لكل منهما وحده، أولاً، ثم لترابطهما وتقاطعهما معاً، في الكثير من القضايا والأسئلة، خصوصاً في "مسألة فلسطين"، بحسب عنوان كتاب إدوارد سعيد الذي يخصّه ابنُ الوليد باهتمام وتعمق كبيرين. إنه لقاء الناقد الذي يمتلك مشروعه في أفق مناهضة الاستعمار والكولونيالية وما بعدها، بل يخوض معهما حربه الشرسة، من موقعه كمثقف شرس دعا ويدعو، من موقعه النقدي "المتورط في إشكالات الثقافة والفكر"، بحسب بعض ما يصرح به كلما أتيحت له الفرصة.

لن نستطيع هنا، في هذا التقديم المقتضب، عرض اللقاء المطول والمعمق بين ابن الوليد و"العلَمين" البارزَين، فهو لقاء أغنى من أن يجري اختزال عناصره الأساسية، فضلاً عن مفرداته التفصيلية، وفي كلا الحالين نحن حيال عناصر ومفردات ذات مرجعية واضحة، حتى لو لم تكن "حزبية"، لكنها منحازة إلى "الضحية"، وهي هنا الفلسطينيان درويش وسعيد (إذ نحتسب الجانب الفلسطيني، بل العربي، من إدوارد سعيد)، مقابل الجلاد، بل الجلادين، الإمبريالية والصهيونية والغرب المُتَصهين، كما يراه ابن الوليد والتيار الذي ينتمي إليه وإن من دون "تحزّب" أيضاً.

جُل ما نسعى إليه في مقدمتنا هنا، هو مجرد إشارات إلى عناوين وعلامات بارزة في جانب من مشروع ابن الوليد، كما يتجسّد في هذا الكتاب. إشارات إلى نقاط التلاقي حد "الطِّباق"، ونقاط الاختلاف أيضاً، بين درويش وسعيد، خصوصاً في ما يتعلّق بما يسميه "سردية" الفلسطيني في مواجهة السردية الصهيو- أميركية والغربية. وعلى وجه أشدّ خصوصية في زمن "حرب السرديات" بين الفلسطيني والإسرائيلي، حرب على روايتين متعارضتين حد الصِّدام والتصارُع الدموي للفوز بتعاطف العالَم أو كسب موقفه من "الرواية".

في تعاطيه مع كل من سعيد ودرويش، سواء على المستوى الشخصي أو الإبداعي، ينفذ ابن الوليد إلى جوانب خاصة من كلا الشخصيتين، وعلاقة كل منهما بسردية الوطن، كما في علاقتهما بالمنفى، وهي علاقة يرصدها على مستوياتها النظرية والعملية، فيظهر فيها درويش "العائد" من المنفى إلى ما يسميه "نصف عودة" إلى "نصف وطن"، محاولاً إنهاء حياة المنفى، بينما يبدو سعيد الرافض لهذه "العودة" والمتشبّث بفكرة المنفى المرتبطة بالمثقف المتمرّد والمنشق. وهذا كله يتناوله ابنُ الوليد من خلال علاقة كل من درويش وسعيد بالمؤسسة الفلسطينية الرسمية، منظمة التحرير الفلسطينية، انخراطاً فيها أو انشقاقاً عليها.

مشروعان فلسطينيان

تكشف دراسة ابن الوليد هذه عن سعة اطّلاعه، لا على منجز إدوارد سعيد فقط، وأعني منجزه الكامل، بل عن تأثيرات هذا المنجز في العالم، وحجم هذا التأثير الذي يتبدّى في حجم تعاطيه والتفاعل معه، سلباً أو إيجاباً، والمعارك التي خاضها سعيد شرقاً وغرباً، ومحاولات "الاغتيال"، الفكري والجسدي، التي تعرّض لها، خصوصاً مع كتابه الأشهر، وليس الأهم بالضرورة "الاستشراق"، وما أحدثه من تغيير في النظرية والدراسات ما بعد الإمبريالية.

وفي موازاة تعاطيه مع المشروع "السعيدي" ومفرداته، وفي التعالق مع هذا المشروع، يقيم ابنُ الوليد حلقة الوصل مع "مشروع" محمود درويش، مُشيراً، بذكاء وخفّة ظل ربما، إلى درجة من اتّكاء هذا على ذاك، وخالصاً، في واحدة من أهم خلاصاته، إلى اشتراك المشروعين، السعيدي والدرويشي، في نقاط كثيرة، أبرزُها فكرة الوطن، وسردية هذا الوطن وروايته. ولكن رواية كل منهما، كما يبنيها ابن الوليد، تذهبُ أبعد مما هو "وطني"، بل أبعد من القومي/ العروبي، لتعانق الأفقَ الكوني، العالمي، والإنساني. ومن هاتين الروايتين/ السرديتين، يبني الناقد النابه روايته هو عن كلا المشروعين، وكلتا الشخصيين، وكيف يبني كل منهما عالمه، في ظل معاناة شخصية وأخرى وطنية - نضالية لا تستسلم للسائد و"الجماهيري".

دراسة ابن الوليد هذه تبعث على الأمل بنهوض "التابع"، وإمكانية الوصول إلى قراءة مستقلة لعالم يغوص في "الزفت" كما جاء في تعبيره هو، ضمن وصفه لما آلت وتؤول إليه "أحوالنا" العربية. فهي دراسة قلّ مثيلها في تناولها العميق والجدي لقضايا العالم، من خلال تناول المنجز الخاص والمتميّز لدرويش وسعيد، اللذين تمكّنا من "تصدير" فلسطين وروايتها إلى العالم، وإدخال العالَم إلى فلسطين وقضيتها، لتكون فلسطين قضية عالمية وإنسانية، في مواجهة العدو العنصري وروايته التي تحتل الزمان والمكان.

الخلاصة الأولية والأساسية في دراسة ابن الوليد هذه، هي أننا حيال "رواية" جديدة عن كل من سعيد ودرويش، رواية تمدّ جذورها في "أصول" كل منهما ومآلاته، ورواية "يصنعها ابن الوليد بحنكة ودراية وخبرة لا مثيل لها، وتجعلنا نعيد التأمل في صورة كل من المبدعين البارزين، صورته الخاصة من جهة، وصورته في العالَم من جهة ثانية، وصورتهما معاً، وتشكّلات هاتين الصورتين وتحولاتهما في جحيم الصراع مع "الآخر" الذي، لسوء الحظ، هو العالَم المهيمن.

المزيد من ثقافة