Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ريمون بطرس... السينمائي الهارب من التسلط السوري الى ضفاف العاصي

رحل عن 70 عاما... وأفلامه المشبعة بالجماليات تمثل آمال جيل وخيباته

السينمائي السوري ريمون بطرس (يوتيوب)

قضى  السينمائي السوري ريمون بطرس (مواليد حماة 1950) الأيام الأخيرة من حياته في غرفة العناية المشددة، مشيّعاً سبعين سنة من عمره الذي صرف جلّه في إخراج الأفلام السينمائية الروائية منها والوثائقية، ليغمض عينيه إلى الأبد، تاركاً خلفه عشرات الأفلام والمشاريع التي كان يحلم في إتمامها منذ عودته إلى وطنه، متخرّجاً من معهد السينما في كييف عام 1976.

أنجز بطرس عدداً كبيراً من الأشرطة التي ستظل في الذاكرة، منقّباً في جدلية السلطة والإنسان الهارب من جحيم الانقلابات العسكرية، وعسف الأنظمة الشمولية، وفساد أجهزتها الإدارية، حالماً ببلاد يسودها العدل والحرية والمساواة الاجتماعية. وكانت مدينة حماة هي موقع معظم أحداث أفلامه التي استشرفت المعضلة السورية، وذلك من خلال مقاربة الفترة التي يرويها فيلمه "الترحال - 1997" عن أسرة مسيحية من حماة يذهب معيلها عام 1948 إلى القتال مع جيش الإنقاذ العربي في فلسطين، ليعود مع عشرات المحاربين إلى سوريا حقبة الانقلابات العسكرية حتى نهاية عام 1954.

وكما في فيلمه الوثائقي "الشاهد"، نقل بطرس عبر بصرية شاعرية صورة عن العادات الاجتماعية على ضفاف نهر العاصي، محاولاً مقاربة ما يشبه "جنّة حمويّة" تدير النواعير نهرها الخالد، بينما تصدح أغنيات بصوت المخرج نفسه تحكي كيف تحوّل ماء النهر إلى دماء: "نزلت عالعاصي لعبّي مييّ، لقيت النهر من دمّك يا خييّ". أما في فيلمه "الطحالب - 1991"، فقد عالج ريمون تلك النوعية من البشر التي تتسلّق على الجميع من أجل مصالحها الشخصية، وذلك عبر شخصية كاتب محكمة يكون بمثابة الشاهد على مجموعة من الجرائم التي تعصف بمدينة حماة، مثلما تعصف بأسرته التي يقتتل فيها الأشقاء، وينغمس كل منهم في انتزاع حقه من الورثة، وصولاً إلى موت الشخصية الرئيسة بنوبة قلبية، تنهي أرشيفاً من الجرائم الشخصية والعامة وتأييدها ضد مجهول!

الهوية السورية

في رصيد هذا المخرج عددٌ كبيرٌ من الأفلام الوثائقية التي حاول من خلالها البحث في الهوية السورية، لعل أبرزها "صهيونية عادية - 1974" و"همسات - 1999" و"خطوات - 2002" و"ترانيم - 2006"، إلا أنّ بطرس ظلّ مثل كثيرين من أبناء جيله مخلصاً لموجة سينما المؤلف التي بزغت مع عودة هؤلاء من أكاديميات السينما السوفياتية، في السبعينيات والثمانينيات من القرن الفائت، ليحققوا معظم أفلامهم عن بيئاتهم التي خرجوا منها، من خلال كتابة سيرة حياتهم الشخصية للشاشة الذهبية. فلم يكن بطرس نشازاً عن تلك الخيارات التي اختص فيها كل مخرج بتقديم صورة أقرب إلى العائلية عن تلك البيئات، ناقلاً سيرة حياته إلى شاشة السينما كمعادل موضوعي لحياة السوريين في تلك البيئات، والظروف الاجتماعية والسياسية التي واكبت صعود النخبة السينمائية السورية إلى واجهة الحدث الثقافي والفني في البلاد من مثل محمد ملص وسمير ذكرى وعبد اللطيف عبد الحميد وأسامة محمد وغسان شميط.

 

من هنا، أراد بطرس الخروج عن هذه الموجة في فيلمه الروائي الثالث "حسيبة - 2008" عن رواية لخيري الذهبي بالعنوان ذاته، محاولاً الاقتراب من مناخ مدينة دمشق في النصف الثاني من القرن العشرين، وذلك عبر قصة امرأة تعيش تحت سلطة ذكورية مطلقة، وتعيش الحب في "حرملك" شامي، يمنع عليها الحب مثلما يفرض عليها الطاعة والامتثال والخضوع لبيت الزوجية. صورة عن "آنا كارينينا" سورية، حاول المخرج إسقاط قصتها على دهليز الحارة الشامية، وما يخفيه من صور للقمع والخوف والرغبة في الموت حباً.

السينما الوثائقية كان لها النصيب الأكبر في بيبلوغرافيا هذا المخرج، إذ رصد بكاميرا هادئة أجواء الحياة التشكيلية السورية، ولا سيما في فيلمه "أنغام الخط الشامي - 2015"، إضافةً إلى تسجيل أوابد ومعالم أثرية سورية عدّة من خلال أفلامه الوثائقية "نشيد البقاء - 2004" و"على ضفاف حلب" و"أحاديث الحجر - 2004" و"مدن الأيام القادمة - 2006" و"ملامح دمشقية - 2009". جميعها نلاحظ اللمحة الجمالية الصرفة فيها عبر تكوينات بصرية وشخصية تصويرية في نقل مشاهد كثيفة من الحياة اليومية، ومحاولة للاقتراب من الأنساق الاجتماعية المهمشة والمعزولة، مقتفياً في ذلك سيرة المستضعفين وصورتهم المغيبة، في ما يشبه بحثاً سينمائياً دؤوباً أنتجت معظمه المؤسسة العامة للسينما.

سيرة سينمائية

حاز بطرس جوائز عربية ودولية عدّة عن أفلامه، منها جائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان الفيلم العربي بباريس 1992، والجائزة الفضية في مهرجان بيونغ يانغ 1999 والجائزة الفضية في مهرجان دمشق، ليختتم هذه المسيرة عام 2014 بفيلمه الروائي المتوسط "أطويلٌ طريقنا أم يطولُ"، والعنوان الذي استوحاه من شطر بيت في قصيدة المتنبي المشهورة، حاول عبره المخرج الراحل تقديم رؤية بدت مستعجلة عن الأزمة السورية، لعل البعض تفهمّها في ظل المرارة التي كان بطرس يعيشها في السنوات الأخيرة من حياته، معتكفاً في بيته بحي مساكن برزة في دمشق، منقطعاً عن الحياة العامة وظاهراً فيها بعبارته التي كان يرددها بصوتٍ عالٍ على أسماع الجميع: "لعنة الله عليكم!" الجملة التي صارت لازمة اتّبعها المخرج للتعبير عن غضبه الطفولي ممّا آلت إليه حال البلاد، وما لحق بعشرات آلاف السوريين من تهجير وقتل وتدمير لبيوتهم ومصانعهم وحقولهم ومعالمهم الحضارية.

عاش بطرس شيوعياً حتى آخر أيامه، مؤمناً بالأممية وأفكار ماركس ولينين، إذ عمل محرراً لسنوات طويلة للصفحة الثقافية ومدير تحرير في "جريدة النور" التي تعود ملكيتها إلى الحزب الشيوعي السوري، فظلت معظم اشتغالاته في الكتابة والرسم والإخراج والترجمة منصبّة على هذه النظرية، ليقوم بإخراج مسرحية عام 1983 عن رواية "الحرب في بر مصر" للكاتب المصري يوسف القعيد، كما كتب عدداً كبيراً من المسلسلات التلفزيونية من مثل "قلوب خضراء - 1996" و"زواريب حارة منسية - 2002" و"أم هاشم - 2005"، كما عمل محرراً  للأخبار في الإذاعة السورية (القسم الروسي) بين عامي (1979- 1987) وأعدَّ فيها برنامجاً أسبوعياً بعنوان "بانوراما ثقافية" وترجم أكثر من مئة وخمسين ساعة سينمائية للتلفزيون السوري، ولديه عشرات الدراسات التي ترجمها بطرس عن الروسية لصالح مطبوعات سورية وعربية.

المزيد من ثقافة