Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

قصور اليمن... وحشة الخرائب تتحسس بقايا التاريخ

شُيدت قبل ظهور المباني الحديثة بـ6 آلاف سنة... وأشهرها غمدان ودار الحجر والقعيطي

قصر الأمير حسين الهبيلي بعد تعرض جزء منه للتدمير على يد ميليشيات الحوثي قبل ثلاثة أعوام (اندبندنت عربية)

ماضٍ شامخ كذكرياتها العامرة التي سادت ثم بادت في معترك بلد لا يهدأ، وحاضر موحش كخرائب أعماق الحرب.

أطلال منكسرة، تتحسس بقايا التاريخ المنيف الذي طاول سحب الزمن، فلا تجد غير بقايا السور المتآكل الذي فتح المجال لغزوات الإهمال على مصراعيه، فأحالت البقايا لركام من أسى حطه الخذلان من علٍ.

قمم مخذولة، وكأن لهاث الحرب أخمد بركانه في أعماقها، فانداحت صرعى، لوعتها المنكسرة، توشي للتذكير بجمالها الفارع الذي لمع كالشمس بين سحب زمان ساد، ثم ما لبث أن انفرط كالعقد الملتاع، من بين أصابع مرتعشة لا تقوى الإمساك بنفائس التاريخ!

بلد القصور المنيفة

وأرّخ التاريخ الإنساني قصص العديد من القصور اليمنية التي نالت الدهشة وتواترت أخبار عظمة بنائها وجمالها، ومن أشهرها، قصر غمدان بالعاصمة صنعاء، ذلك العَلم الذي لم يبق منه سوى مكان، بعد أن عُد من أقدم القصور في التاريخ، وقصر دار الحجر بضواحي صنعاء (شمالي اليمن)، وقصر القعيطي بالمكلا، وقصر الكثيري في سيئون بمحافظة حضرموت، وقصر الشريف ببيحان في محافظة شبوة (شرقي البلاد)، وغيرها الكثير، من معالم تاريخية طاولت الزمن، حالها اليوم يدمي مقلة التاريخ الذي يغار من اختفاء بريقها بعد أن ظل يلهم الحادي والملاح، وكأني به يتلوّع من وراء السهوب المقفرة: حنانيك، فسيول دموع أسى الدهر، لا تفي لتعجن لك من تربة وديان وصحارى التاريخ العطشى، تراباً لازباً يرمّم ما هدمه إهمال أبنائه وحكامه الذين لم يكونوا يوماً بقدر جمال وعنفوان شموخها. ذلك حال جل القصور التي ذُكر بعضها في القرآن، في تأكيد على عظمتها التي لم تجد من يقدر إرثها الإنساني الفريد.

عظمة قرآنية

ووصف القرآن عرش الملكة بلقيس، ملكة سبأ، على لسان هدهد النبي سليمان "إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم". (سورة النمل).

وعد المؤرخون قصور اليمن القديمة بأنها أول ناطحات سحاب في العالم، أي أنها قبل ظهور المباني الحديثة بستة آلاف عام منذ أيام مملكة سبأ وقبلها في عهد النبي نوح، كما هو حال قصر غمدان التاريخي بصنعاء، الذي بناه سام بن نوح (مؤسس صنعاء)، والذي يعدّه المؤرخون أقدم قصور العالم وأندرها.

وعن قصة بناء قصر غمدان، فجاء في كتاب "الإكليل" للمؤرخ الحسن بن أحمد الهمداني، أن "سام بن نوح فكّر في السكن في أرض الشمال، فأقبل طالعاً من الجنوب يرتاد أطيب البلاد حتى صار إلى الإقليم الأول فوجد اليمن أطيبه مسكناً وارتاد اليمن فوجد حقل صنعاء أطيبها".

 

 

تحفة مندثرة

وتورد الموسوعة اليمنية قصة بناء قصر غمدان وتهدمه فتقول "لقد تهدم بحكم تقادم العهد ومن انهياره انهيار معاقل الحضارة اليمنية القديمة وزوال ممالكها العظيمة، والأرجح أن هدمه قد مر بمراحل منها ما أصابه من حريق أيام الغزو الحبشي لليمن (525 للميلاد) وهدم جزء منه في حياة النبي محمد، ثم تهاوى ما بقي منه في أيام الخليفة عثمان بن عفان".

أطلال بيحان

وخلال سيرنا مع الطريق الرابط بين بيحان وعتق، استوقفنا في واجهة منطقة النقوب، قصر منيف واسع الملامح، أبلج الصورة، يخال لنا أننا نستشرف أحد قصور أباطرة الرومان، إنه قصر أمير بيحان، حسين ابن أحمد الهبيلي، مؤسس الإمارة الهبيلية الهاشمية التي بدأ حكمها في عام 194، واستمر حكم آل الهبيلي حتى سقوط إمارتهم في 19 سبتمبر (أيلول) 1967 على يد ثوار الجبهة القومية المناهض للاحتلال البريطاني.

وشُيد القصر خلال الربع الأول من القرن الماضي، كمسكن ودار حكم (شمال غربي محافظة شبوة) إبان حكم الاحتلال البريطاني، بعد أن عينته بريطانيا أميراً على كامل المنطقة.

قصر من الأحلام

أُتيح لـ"اندبندنت عربية" التجول في جنباته، والاطلاع على ما تبقى من مآثره الفريدة في جوانب هذا القصر الكبير الذي يمكن وصفه بأنه تحفة معمارية مبهرة.

ما يلفت نظر الزائر للقصر الذي طاله الإهمال، إلى المستوى الذي طُمست فيه الكثير من معالمه، النقوش والزخارف الفسيفسائية والمنمنمات ولوحات الزينة والقباب المرصعة بالزخارف التي كتبت عليها آيات قرآنية ونقوش للخناجر والجنابي اليمنية التقليدية التي تملأ كافة الغرف في أدواره الأربعة.

فيما يحتوي حوشه الواسع الذي يبلغ طوله نحو 50 متراً، كما توحي الآثار، على حدائق ومسابح على شكل زهرة وملاحق شاسعة للحرس وصالات واسعة للضيوف وحصون منيفة، كالمبينة في الصورة، بُني نصفها الأول من الحجر، فيما نصفها الأعلى بالتراب "اللِبْن الطيني" كقلاع حراسة حصينة بها نوافذ صغيرة تسمح للحراسة بكشف كافة الاتجاهات لدرء أية مخاطر، تتخللها فتحات صغيرة استُخدمت، بحسب أبناء المنطقة، كفوهات لأسلحة حراسة القصر، وحول الحصن يصطف عددٌ من البنايات التي استخدمت كمطابخ ومخازن لحفظ الحبوب والأغذية وسجون.

وأكد عدد من سكان منطقة "النقوب" التابعة لمديرية عسيلان، أن المروحيات البريطانية كانت تهبط في إحدى سطوح القصر، لتزويده بالمُؤَن والاحتياجات المعتادة أو خلال زيارات المندوب البريطاني وأعوانه، إضافة إلى تنقلات الأمير الهبيلي من بيحان إلى عدن.

وتلفت نظر الزائر، بوابات القصر الخشبية العتيقة وانتشار اسطبلات الخيول التي استخدمت بعد استقلال الجنوب اليمني كمدارس تعليمية.

مكونات البناء

بُني القصر من الحجر المُغطى بطبقة من الكلس الأبيض (النورة) على يد بناءين استقدمهم الأمير خصيصاً من محافظة حضرموت لتشييد قصره وقصور إخوته المنيفة ارتفاعاً والمشعة في محيط صحراوي مقفر تحيط به بيوت طينية متواضعة للمجتمع المحلي وأكواخ للبدو الرُحل.

تفاصيل القصر

في الدور الأول يحتوي القصر على نحو 15 غرفة، ونحو 20 أخرى في الأدوار العُلوية، وكل جناح يتبعه ملحق منعزل، عبارة عن مجموعة غرف استُخدِمت كمخازن ومطابخ ومساكن للحراس والخدام وغيرها.

إهمال وتنكر

ولضخامته وأهميته، يؤكد أبناء المنطقة، أن حكومة الاستقلال الوطني (استقل الجنوب اليمني في عام 1967 بخروج آخر جندي بريطاني من عدن) حولته إلى سكن داخلي لأبناء الفلاحين الفقراء القادمين لطلب العلم من مختلف مناطق اليمن، وحافظت عليه بالصيانة الدورية والترميم وظل تحت إشراف حكومة اليمن الديمقراطية حتى عام 1994 بعد الحرب الأهلية التي انتهت بسيطرة القوات الموالية للرئيس اليمني الراحل علي عبد الله صالح على المحافظات الجنوبية.

وتعرّض القصر حينها، لأعمال السلب والنهب والتدمير وأضحى خاوياً مهملاً حتى اليوم، بحجة أنه كان سكناً داخلياً لطلاب "مدرسة الشعلة" التابعة لجمهورية اليمن الديمقراطية ذات المرجعية الاشتراكية، وهي الحجة التي ساقها أنصار نظام صالح ذوي المرجعية القبلية الدينية المتطرفة، لنهب القصر وطمس معالمه حتى بات اليوم مهجوراً خاوياً تذروه شبه أطلال لا تزال تُذكِّر بعظمته وروعة وإتقان بنائه، لعل يد حانية تمتد لتعيد إليه الحياة في ربوعه المدهشة.

اقرأ المزيد

المزيد من منوعات