Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"مشهد عائلي" لبوتيرو: الجمال في الأجساد الضخمة

احتجاج على العالم أم إعادة نظر في معاييره؟

"مشهد عائلي" لفرناندو بوتيرو (1969)

حين يقال في حديث صحفي يُجرى مع الرسام فرناندو بوتيرو، أنه يُعتبر ثاني أشهر مبدع كولومبي عرفه النصف الثاني من القرن العشرين، تعرض إبتسامته متحوّلة إلى ضحكة صاخبة ويقول: "لكنكم تنسون بابلو إسكبوار وشكيرا فهما بالتأكيد أكثر شهرة مني ومن غابو مجتمعين!" وغابو هو بالطبع الكاتب الكولمبي غابريال غارسيا ماركيز الذي يعتبر أشهر كولومبيّ في العالم يليه في ذلك بوتيرو حسب الملاحظة الواردة أول هذا الكلام. أما إسكوبار فهو مهرب المخدرات الأشهر في العالم، بينما نعرف أن المغنية الكولومبية (من أصول لبنانية بعيدة) شاكيرا كانت على رأس قائمة مغني البوب في العالم خلال ربع القرن الأخير. مهما يكن فإن بوتيرو لا يقول ذلك ساخراً بل يقرر أمراً واقعاً. بيد أن ما كان دائماً شهرة نخبوية بالنسبة إليه، تحول في العقد الفائت إلى شهرة شعبية، وحتى سياسية، حين انتشرت في أنحاء العالم، اللوحات التي رسمها لسجن أبو غريب العراقي والانتهاكات التي ارتكبها الحنود الأميركيون فيه بحق المعتقلين. وحتى وإن كان كثر في العالم نظروا إلى تلك الرسوم القاسية باعتبارها رسوما كاريكاتورية، فإنها كانت في الحقيقة لوحات فنية دخلت كلاسيكيات الفن التشكيلي، السياسي على أية حال، من باب عريض. مهما يكن فإن فن بوتيرو كان في أغلب تجلياته فناً سياسياً واجتماعياً. فنا يعترض على واقع بلاده وواقع الأحوال في العالم. يعترض على الدكتاتوريين وعلى الظلم الاجتماعي. يعترض على البيرقراطية واستعباد الإنسان أخاه الإنسان. كما يعترض بشكل خاص على المعايير البورجوازية حتى للجمال. ولا ينسى الفرنسيون بالطبع المعرض الكبير في الهواء الطلق الذي أُقيم أواسط ثمانينيات القرن الفائت، لتماثيل برونزية هائلة الحجم انتشرت على أرصفة جادة الشانزيليزيه لتدهش المتفرجين وتذكّرهم بكم أن ذلك الفنان بعتبر في الزمن الحديث نسيج وحده، هو الذي حين يدهش الناس أمام ضخامة معظم شخصياته، وضآلة شخصيات أخرى بالمقارنة، يلفتهم إلى فنون المرحلة المبكرة من عصر النهضة الإيطالي حيث اعتادت أحجام الشخصيات أن تكون خارج المألوف ولو بحدود تجاوزها فنه كثيرا، قبل أن ينبّه "ولا تنسوا النساء في لوحات رينوار!". كل ما سبق يمكننا رصده في العدد الأكبر من لوحات بوتيرو، لكننا نرصده هنا في أقوى تجلياته في واحدة من لوحاته الأكثر شهرة، "مشهد عائليّ" التي رسمها في العام 1969 بمقاس ضخم كالعادة (211×195 سم) وتنتمي اليوم إلى مجموعة خاصة.

عائلة بورجوازية معيارية

في البداية يبدو المشهد بسيطا وعائليا حميما من النوع الذي قد تحمله أية صورة عائلية تحاول عائلة ما أن تؤبّد من خلاله لحظة مسروقة من عمر الزمن، ومن ثم تكبّرها لتعلقها على حائط رئيسي في صدر البيت. لكن هذه النظرة الأولى إلى اللوحة سوف تحتاج إلى ثانية أو ثانيتين قبل أن تختفي لتحلّ مكانها نظرة أخرى، قد تكون مسلّية ومضحكة، لكنها تنتمي بالتأكيد إلى عوالم بوتيرو المعهودة والتي أتى بها، تلوينا وتشكيلا من فنون النهضة كما من رينوار كما أشرنا أعلاه. فالحال أن العنصر المسلّي، بل "المضحك" في اللوحة لن يصمد طويلاً، إذ حتى لو حرص الرسام هنا على تثبيت المشهدية بالشكل المسرحي الذي عُهد دائما لديه، واقترب إلى حد ما من "بدائية" الفن الفطري – أعمال الجمركجي روسّو، على سبيل المثال – فإن ثمة أمراً لا بد من ملاحظته. وهو تلك الكآبة التي تهيمن على مناخ خلفية اللوحة، ولكن أيضا على ملامح شخصياتها. فواضح أن هذه الأخيرة لا تبدو مرتاحة في جلسة من الواضح أنها أُجبرت عليها من أجل "الصورة". ولا يغيبنّ عن بالنا هنا أن العائلة بورجوازية تُستشعر فيها هيمنة الأب ومكانة الولدين المميزة، مقابل هامشية الأم وتقديم قط العائلة عليها في تشكيل الصورة. من الواضح هنا أننا أمام لوحة تنتمي إلى حسّ موارب من النقد الإجتماعي، في نهاية الأمر. حسّ يجعل اللوحة مزعجة، بالتأكيد.

لوحات مزعجة!

وفرناندو بوتيرو، ومنذ بدأ يخوض فن الرسم قبل نحو ستين عاما، يحقق لوحات مزعجة: مزعجة للديكتاتوريين العسكريين، وللسياسيين الكاذبين، والكهنة الذين يتاجرون بالدين، ولرجال الإدارة المتورطين في الفساد والتهريب، ولرجال العصابات الذين ينقلون المخدرات من كولومبيا إلى العالم، وخصوصاً إلى الولايات المتحدة، أحياناً بالتواطؤ مع سياسييها، وأحياناً من دون ذلك التواطؤ.
منذ بداية احترافه الرسم وبوتيرو يخوض معاركه، ولكن مع حرص دائم على سمو اللغة التشكيلية لديه، وهي لغة تصويرية لا غياب فيها للانسان وللمناخ، بحيث تبدو كل لوحة من لوحاته، جزءاً من مسرح الحياة الكبير. ولعل أكثر ما يلفت في لوحات بوتيرو، إلى التلوين المنتمي مباشرة إلى عالم سطوع الشمس اللاتيني، هو الحجم الضخم الذي يجعله لشخصيات. غير أن ثمة هنا العنصر الأساس الآخر في معظم تلك اللوحات، وهو العنصر المشهدي، حيث تكاد كل لوحة من لوحاته تشكل حكاية قائمة في ذاتها. وهي، على أي حال، حكاية تكون في العادة مستقاة من حدث حقيقي، تسجله ذاكرة الفنان، ثم ريشته..
هو يعتبر نفسه رسام الجرح العميق. ويرى أنه إذا كان يمكنه أن يقول أنه يسير على خطى سابقين له، فإنه إنما يسير على خطى كبار رسامي الجداريات المكسيكيين، ريفيرا، سيكييروس وأوروزكو. غير أن هذه الاندفاعة النضالية، وهذا الانتماء إلى أمس جدراني قريب، لا يمكنهما أن يخفيا انتماء بوتيرو في الوقت ذاته إلى جانب من جوانب الفن الايطالي النهضوي، حيث أن الناظر إلى هذه اللوحة مثلاً، لن يعدم إمكان مقاربتها، مع بعض أجواء لوحات هيروتيموس بوش، وكأن بوتيرو أراد بهذا المزج بين التفاصيل الكلاسيكية النهضوية، وبين نضالية الجدرانيين المكسيكيين أن يجعل من نفسه وريث أصالة ومعاصرة، عرفتا كيف تضعان نفسيهما دائماً في خدمة الانسان، إنما من دون جعل ذلك كله يتم على حساب لغة الفن وقيمه. وهذا ما يتجلى في كل أعمال بوتيرو، سواء أكانت لوحات يصور فيها أجواء مصارعة الثيران، أو بورتريهات اجتماعية، «كاريكاتورية المنحى» يحاول من خلالها أن يقول كلمته في الواقع الاجتماعي والطبقي، في وطنه بل في القارة كلها، أو في لوحات الصراع الذي يخوضه ضد الديكتاتوريين ورجال العصابات ومصاصي دماء الشعب، وصولاً إلى لوحات سجن أبو غريب، التي أقامت الادارة الاميركية ولم تقعدها. في كل هذه الأعمال يحضر الموقف السياسي وتحضر الرسالة والإدانة، ولكن قبل هذا وذاك يحضر المشهد كفعل جمالي، كمسرح للحياة أعادت تكوينه ريشة فنان يعرف ماذا يريد من لوحته..
 

كي يحب الناسُ الفنَّ

ولد بوتيرو، الذي يعيش منذ حين متنقلاً بين باريس ومدريد، مع إطلالات سريعة وخفية على بلده كولومبيا، العام 1932 في مدينة ميديللين، وكان في الثانية عشرة من عمره حين راح عمّ له متحمس لمصارعة الثيران يصحبه إلى المباريات حيث أثر فيه منظر الثيران في ضخامتها كما في حركتها، إلى درجة أننا حتى اليوم، لا نزال نجد الثور في لوحاته خلف الانسان ومن خلاله. وبعد سنوات مراهقته، وإذ قرر بوتيرو أن يختار الفن طريقاً لحياته، سافر إلى باريس حيث درس الفن، ثم توجه إلى فلورنسا في ايطاليا حيث تأثر كثيراً بأعمال كبار معلمي فن النهضة الايطالي ولا سيما بالرسام جيوتو، الذي انطبعت لديه أحجام الشخصيات عنده. وفي العام 1958، فاز بوتيرو بجائزة محلية في بلده مكنته من أن يعود إلى باريس ليدرس الفن مجدداً. وحين عاد إلى بلاده وضع كل فنه في خدمة لوحات تحاول أن تفضح العنف والظروف السياسية. وكان ذلك في وقت بدأت الآداب والفنون الاميركية اللاتينية تصبح على الموضة في العالم اجمع. وهكذا كانت انطلاقته العالمية وراحت معارضه تتلاحق، في العواصم الغربية، وصدرت عنه الكتب والدراسات بحيث أصبح يعرف بـ «أشهر فنان أميركي لاتيني حي في عالم اليوم». ومنذ سنوات أعلن بوتيرو أنه أهدى أربعين لوحة أساسية من أعماله إلى متحف بلاده «كي يراها الناس ويحبوا الفن» كما قال..

المزيد من ثقافة