لعل السبب في ذلك هو أن البعبع العالمي الكبير بالنسبة للغرب كان هادئًا جدًا في الآونة الأخيرة لدرجة أن خطاب حال الأمة هذا الأسبوع بدا وكأنه مفاجئا.
من الواضح أن صمت فلاديمير بوتين الظاهر خلال الشتاء يعكس ربما وبكل بساطة انشغاله الكبير بـ بريكست في المملكة المتحدة، ومدى انشغال الدول الأخرى، كما هو الحال في فرنسا مع السترات الصفراء، و في أوروبا "الجديدة" بمشاجراتها الدستورية، ودونالد ترمب مع جداره والكونغرس الجديد.
لكنني لا أعتقد أن الانطباع بكون بوتين أكثر هدوءًا هو خاطئ بالمرة. ففي السياق الدولي، على الأقل - وليس فقط من وجهة نظر لندن الاستثنائية - كان رئيس روسيا غائباً على غير عادته في العناوين الرئيسية.
حتى عندما أعلن الرئيس ترمب أنه بصدد تعليق معاهدة آي إن إف (INF)، وهو اتفاق رمزي على الصواريخ النووية متوسطة المدى في أوروبا - التي بقيت سارية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي - وألقى باللوم على روسيا في أربع سنوات من الانتهاكات، يبدو أن رد فعل موسكو كان مماثلا ولم يكن شرسا كثيرا.
وعلى الرغم من أن كل التقارير الغربية عن خطاب بوتين الأخير ركزت على تهديده المفترض باستهداف الولايات المتحدة بصواريخ نووية جديدة - وهو تهديد قائم فعلاً بالنظر إلى كل أنواع الأشياء السيئة الأخرى التي تحدث - يبدو أن الفحوى العام لخطابه هذا العام كان ضعيفا أيضا. لم يكن بوتين باحثا لافتعال شجار بل كان يستقر على ما قد تكون فترته الأخيرة، ويركز - كما قال هو نفسه في البداية - على الاهتمامات الداخلية.
وهذا ما قد يفعله. شهد الخريف الماضي بعضا من أكبر الاحتجاجات في الشوارع وأكثرها انتشارًا على مدار السنوات الـ 18 التي قضاها في السلطة، وذلك ردا على الزيادات المخطط لها في سن التقاعد الحكومي. وقد تراجعت معدلات شعبيته بأكثر من 20 في المائة منذ إعادة انتخابه في مارس الماضي (إلى ما يزيد قليلاً عن 60 في المائة) ، في حين أن معدلات الثقه به - وفقاً لمركز أبحاث الرأي العام (VTsIOM) يبلغ 33 في المائة، وهو أدنى مستوى منذ عام 2006. وينظر إلى الركود (أو الانخفاض الفعلي للبعض) في مستويات المعيشة كجزء من السبب، إلى جانب ارتفاع نسبة التوقعات (لدى الشعب) والتي لم يعد من الممكن تلبيتها.
وهكذا أمضى بوتين ثلثي وقته في الحديث عن الأموال التي ستخصص لتحديث البنية التحتية، وتحسين الرعاية الصحية والتعليم وتسخير التكنولوجيا للمساعدة في رفع الإنتاجية. هذا جعل الخطاب من نواح عديده كأي خطاب قد يقدمه أي زعيم بلد صناعي في أي مكان في العالم، مع التركيز الذي وضعه على القدرة على تحمل التكاليف. فالقلق على رفاهية العائلات التي تعمل بجد ليس حكرا على السياسيين الغربيين، ويحتاج القادة الروس إلى إبقاء أكثر من نصف عين على المزاج العام أيضًا.
التركيز الطاغي على الشؤون الداخلية خلق تناقضا مع خطاب السنة السابقة. لكنه لم يكن التباين الوحيد. في هذا الوقت من العام الماضي، كان بوتين يتحدث قبل أقل من شهر من الانتخابات الرئاسية – وبرغم ما يمكن قوله من أن النتيجة كانت محسومة ـ فقد ألقى خطابًا انتخابيا وعاميًا مدعومًا بأحدث الغرافيكس لتوضيح القوة العسكرية الروسية المتجددة حديثًا.
وفي حين أنه - كما كان الحال هذا العام - ما قاله بوضوح كان موجها في المقام الأول للجمهور المحلي، لكن عندما غلب عليه الإحباط وجه كلامه و بشكل مباشر وحازم إلى العالم الخارجي. شاكيا على أنه "لا أحد يستمع إلينا،" وأشار إلى التفوق العسكري الظاهر على الشاشة الهائلة، واستمر في كلمات يمكن ترجمتها بحرية على النحو التالي: "حسنًا ، ستستمعون إلينا جيدًا الآن".
كانت لهجة هذا العام مختلفة. لقد تم وضع السخط، وحتى الوقاحة، جانبا - كما يبدو.
كان هناك أمل ضئيل بالتقارب مع الولايات المتحدة بقيادة ترمب بطريقة أو بأخرى، إن لم يكن بسبب معسول، فعن طريق الكلام المنمق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في هذا العام، رسم بوتين التناقض في الطريقة التي تعاملت بها واشنطن مع انسحابها من معاهدة الصواريخ النووية بالطريقة التي ألغت بها معاهدة الصواريخ المضادة للباليستية ABM في عام 2002، قائلاً إن النهج الأول كان أكثر صراحة ومباشرة، دون أي محاولة لاستخدام شكوى متأخرة ضد روسيا كذريعة. ومع إصراره على أن روسيا منفتحة على إجراء محادثات جديدة حول الحد من التسلح، فإنه وضع مسئوولية المبادرة في إطلاق مثل هذه المحادثات بشكل مباشر على الإدارة الأميركية ، قائلاً: "عملنا ما يكفي من طرق على باب مغلق".
كما خرج بوتين عن سياقه أكثر من أي خطاب آخر في الماضي كما يبدو ليؤكد على أن موقف روسيا كان دفاعياً وليس هجوميا، وأن كل ما فعلته (موسكو) كان رداً على التحركات العدائية من مكان آخر. وقال: "إنهم يصفون روسيا إلى حد كبير بأنها أكبر تهديد للولايات المتحدة...هذا ليس صحيحا. روسيا تريد علاقة مقبولة وودية و متكافئة مع الولايات المتحدة. روسيا لا تهدد أحدا. إن جميع أعمالنا في المجال الأمني هي ردة فعل وذات طبيعة دفاعية. "
وكان هناك المزيد في نفس السياق، بما في ذلك حاجة روسيا إلى السلام لتيسير "التنمية المستدامة طويلة الأجل". بعبارة أخرى، السياسة الخارجية والدفاعية في خدمة السياسة الداخلية.
سيكون هناك الكثيرون من الذين شاهدو أو قرأوا خطاب حالة الأمة لبوتين هذا الأسبوع، والذين سوف يسلطون الضوء على جوانب أكثر عدوانية ويعترضون بالقول إن المقتطفات التي ذكرتها كانت مخادعة بشكل متعمد ولا ينبغي أخذها على محمل الجد.
وبالفعل قد يكون هناك مجال للتفسيرات المتباينة. ولكن يجدر التذكير، كمثال نادرعلى القراءة وسوء القراءة ، بالردود الأولية - الرافضة – لخطاب كيم جونغ أون في رأس سنة 2018 ، والذي غلف استعداده لتقديم تنازلات والدعوة لإجراء محادثات بلغة مليئة بعبارات تنم عن القوة.
من ناحية الكياسة الدبلوماسية، فإن الكرملين متفوق بدرجة كبيرة على كوريا الشمالية. لكن المبدأ ثابت. على أي زعيم وطني أن يخفي أي شعور بالضعف خلف التظاهر بالقوة ، سواء أمام شعبه أو في الخارج.
إن شعور روسيا ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي بأنها غير متكافئة في العديد من النواحي مع الولايات المتحدة يجب أن يكون مُعطى: فقدراتها العسكرية، كبداية، أقل بكثير (من القدرات الأميركية) وبفارق كبير جدا. لكن من الواضح أيضاً من الطريقة التي قامت بها روسيا في نسخ بالجملة تقريبا بعض أشكال إن لم يكن مضامين الحياة المؤسساتية في الولايات المتحدة مثل حفل تنصيب الرئيس، وخطاب حالة الاتحاد، والذي أصبح عاما بعد عام لا أكثر من نسخة الخطاب الحقيقي.
إذا كان مستشارو ترامب يستمعون ، فقد يستخلصون الاستنتاجات التالية. في غياب شريك تفاوضي معقول في الولايات المتحدة، تبحث روسيا في مكان آخر للتخفيف من عزلتها. إنها ترغب في تطبيع العلاقات مع الاتحاد الأوروبي. إنها مهتمة بتوثيق العلاقات مع الهند، ولا يزال بوتين يأمل في إبرام معاهدة سلام مع اليابان. إن المنطق الجغرافي لكل هذا هو أمر لا شك فيه، في حين أن غياب الصين عن القائمة قد يكون واضحًا. والأهم من ذلك كله هو أن روسيا تريد ترتيبات أمنية جديدة بعيدة المدى مع الولايات المتحدة، حيث يتم التعامل معها على نحو متساوي.
لكن حتى الآن ، يبدو هذا احتمالًا بعيدًا ، وهو ما قد يكون السبب في أن رئيس روسيا في خطاب حال الأمة عام 2019، وبدون ضغط من انتخابات وشيكة، بدا متصالحًا مع انتظار طويل.
© The Independent