Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"لقد خسرنا كل شيء" لسان حال أستراليين شردتهم حرائق الغابات الكارثية

أجبروا على التخلي عن مقتنياتهم وحيواناتهم ويخشون الأسوأ على منازلهم

قلبت كارثة نيران الغابات حياة الأستراليين رأساً على عقب، إذ استولت مشهدية النار والدخان على الأشياء كلها (أ.ب.)

عند الساعة السادسة صباحاً من اليوم ما قبل الأخير من 2019، تلقت لين بروان البالغة من العمر 76 عاماً اتصالاً يتوسّل إليها إخلاء منزلها على الفور ومن دون تأخير.

وفيما كانت ترد على الهاتف، ألقت لين نظرةً خاطفة على الخارج. فرأت وهجاً أحمر مشؤوماً يُعانق السماء العابقة بدخانٍ أسود قاتم عند "باتمانز باي" في "نيو ساوث ويلز". ولم يكن الوهج آتياً من شواظ الشمس الأسترالية.

وعلى جناح السرعة، وضبت لين جواز سفرها وجواز سفر زوجها ومجوهراتها وحفنة من متعلقاتها الثمينة. وانطلقت. وما حدث معها بعد ذلك، يصعب عليها تذكره والحديث عنه.

ونقلت لين إلى صحيفة "الاندبندنت" إنها "مازلتُ أحاول تجاوز الصدمة المريعة التي عشناها ذلك اليوم. ومجرد التفكير بالأمر يُصيبني بالرعشة. أنظر إلى يدي الآن، إنها لا تتوقف عن الارتعاش".

في ذلك اليوم، غادرت لين مع زوجها باري (80 عاماً) منزلهما على عجل، وراحا يقرعان باب كل بيت من البيوت الموجودة في الشارع الذي يقطنان فيه. "إنها منطقة سياحية، ومعظم المنازل فيها غير مزود بخطوط أرضية مثلنا"، تُوضح لين. ولكنهما لم يجدا أحداً. وعلى ما يبدو، أُصيب الأهالي بالذعر وغادروا مع صغارهم بسرعة البرق.

وقبل أن تتوجه لين إلى مركز الإجلاء، حاولت إنقاذ "بوني"، قطة جارهما الطاعنة في السن. لكن "بوني" لم تدع لين تقترب منها. "كانت تعض وتخدش. لذا كان علينا الرحيل من دونها"، تروي لين متنفسةً الصعداء.

وعلى الرغم من تقليل رئيس الوزراء الأسترالي سكوت موريسون من شأن حرائق الغابات الكارثيّة ودوره في التصدي لها، وعلى الرغم من نفي بعض الأطراف في في ائتلافه الحكومي أن يكون للتغير المناخي علاقة بها، إلا أن هذه الحرائق تشكّل من دون شك أكبر كارثة طبيعية تُواجهها أستراليا في تاريخها، متجاوزةً حرائق الغابات التي تجتاح المنطقة سنوياً، ومتفردةً عنها بوحشيتها ووتيرتها وتوقيت اندلاعها خارج موسم حرائق الغابات المعتاد.

إذ التهمت ألسنة النيران المستعرة مساحةً تُوازي مساحة كوريا الجنوبية (10،3 مليون هكتاراً) وأودت بحياة 25 شخصاً، والأرجح أن تُلحق بالاقتصاد الأسترالي أضراراً جسيمة تصل إلى 4.4 مليار دولار (ما يُعادل 4.3 مليار جنيه إسترليني). إضافة إلى ذلك، يُقدر الخبراء أن الحرائق تتسبّب في نفوق حوالى مليار حيوان ووصول سحابات دخانها القاتمة إلى نيوزيلندا والأرجنتين. في الوقت الراهن، تمر الحرائق الأسترالية في فترة استراحة مؤقتة، ومن المتوقع أن تستعر من جديد مع تدهور الأحوال المناخية في وقتٍ لاحق من الأسبوع الجاري.

ووسط هذه العناوين المفجعة والمحطمة للقلوب، ثمة قصص صغيرة مفعمة بالأمل والقدرة على الصمود، ومنها قصة "بوني"، القطة الطاعنة في السن. إذ لما دخلت لين مركز الإجلاء الكائن داخل ملعب لكرةٍ القدم، لحظت وجود "بوني" التي نجح أحد الجيران بإدخالها إلى قفصٍ صغير وإحضارها إلى مكان تجمع فيه 4 آلاف شخص وعشرات الكلاب والقطط والأحصنة.

كانت لحظة فرح نادرة بالنسبة إلى لين في "ذاك اليوم التعيس". وفي "باتمانز باي"، بدا الواقع مختلفاً جداً عما بيّنته الصور التي حصدت عدد مشاهدات كبيرة إذ أظهرت سكان المنطقة مفترشين رمال الشاطئ. "قيل لنا أن نبقى بعيداً عن البحر، إذ قد تصبحون في مأمن من النيران ولكن لن يكون بوسعكم التنفس"، تروي لين.

وداخل مركز الإجلاء، لم تكن التحضيرات على مستوى الكارثة. لم يكن هناك ما يكفي من الطعام أو الماء أو الأمل. ولم يكن هناك كهرباء أو نفط أو هواتف. كانوا محتجزين. "كان المتطوعون رائعين. لكن الناس كانوا مستائين وخائفين ويبحثون عمن يُلقون اللوم عليه. كنتُ أبكي. وعانقني أناس ممن يعرفوني وهم ينتحبون ويُتمتمون "خسرتُ منزلي وكل ما أملك"... تكرّر ذلك أكثر من مرة".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفيما كان الزوجان لين وباري في طريقهما إلى المركز، التقيا بجارٍ أكبر منهما في السن (88 عاماً). وجداه تائهاً في الشارع وهائماً على وجهه، فطلبا منه أن ينضم إليهما ليهربوا معاً. "بدا مركز الإجلاء مريع جداً، لذا قررنا مغادرته وعبور الطريق باتجاه نادي كرة المضرب"، وفق لين.

جاء خروجهم في التوقيت الأسوأ على الإطلاق. "فجأةً، صار لون السماء برتقالي، وتحول نحو الأسود الحالك مع أننا في وضح النهار. لم يكن بوسع أحد منا أن يرى أمامه. تنفسّناً رماداً. وبدونا كالخارجين من المقلاة إلى النار مباشرة"، تردف لين.

وعلى حين غرة، انطلقت صفارات الإنذار من كل زاوية وسُمع صوت قرقعة شفرات معدنية تصم الآذان. فنظرت لين إلى الأعلى حيث مصدر الصوت، ووجدت طائرة مروحية تقذف موقف الحافلات الموازي لمركز الإجلاء بقنابل مائية. وسمعت صوت تكسير وتدفق ماء. حينها، كان المتقاعدون الثلاثة مكشوفين بالكامل.

"كلنا كبار في السن هنا. واجهنا الكثير في حياتنا، لكننا لم نر مثل هذا من قبل. لذا شعرنا بالخوف الشديد"، على حد تعبير لين.

وفي مركز الإجلاء، ظهر عمال إغاثة مثل أماندا لامونت التي تتطوع في "الصليب الأحمر الأسترالي" منذ عشر سنوات. وعقب وقوع الأزمة، قدمت أماندا إلى المركز التابع لـ"الصليب الأحمر" في شرق جيبسلاند بولاية فيكتوريا. وهناك، رُصِفتْ الفُرُش على الأرض وانهمرت الدموع على الوجوه وتغلغلت "المشاعر الجياشة" في الهواء الملوّث بالدخان.

"إنه مكانٌ حزين. لكننا نحرص على منحه أجواء أمان وراحة وأمل حتى لا يكون على قدر كبير من الكآبة"، تشرح أماندا. ووسط الحشود المترقبة سماع خبر احتراق منازلها بالكامل في كل لحظة، ثمة بصيص من الأمل والتفاؤل العنيد. وبحسب أماندا، "هناك ما يكفي من القصص الجيدة لرفع معنويات المنكوبين".

في تلك اللحظة، وضعت أماندا مشاعرها جانباً "للوقوف إلى جانب الناس ورؤية بهجتهم أو انهيارهم، وكلاهما سيان... إذ لا يتعلق الأمر بنفسي ومشاعري بل بالشخص الآخر الذي لا بد أن يعرف أنه ليس لوحده في مصابه". يملك "الصليب الأحمر الأسترالي" طريقة ممتازة في استخلاص المعلومات. وفي إطار هذه الطريقة، يتولى متخصصون في الصحة النفسية الكشف على حالة المتطوعين النفسية بعيد كل حادثة. وحدا ذلك الأمر بأماندا إلى العودة في كل مرة للتطوّع واستمرارها على هذه الحالة عقداً كاملاً.

إلى جانب التطوّع في "الصليب الأحمر"، تتطوّع أماندا في مكافحة الحرائق. إذ يعوّل بلد كبير بحجم أستراليا على المتطوعين في الدفاع عن مجتمعاته، ما يفرض على السكان المدربين على إدارة مخاطر الحرائق، العمل على حماية ممتلكاتهم. ولدى سؤالها عن السبب الذي يدفعها إلى التطوع، تجيب أماندا، "هناك حاجة لفعل شيء ما، فلم لا أقوم بهذا الشيء بنفسي؟ أنا أستطيع إذاً أنا أتطوع. لو اندلع حريق في منزلي، سيكون على المتطوعين أن يُساعدونني على إخماده... لا يوجد من يمتهن الإطفاء في المكان الذي أعيش فيه".

هذا بالنسبة إلى أماندا لامونت. في المقابل، يعمل غرايمي أيست، 67 عاماً، متطوعاً في كتيبة الإطفاء في ولاية فيكتوريا منذ خمسين عاماً. وفي حديثه عن كارثة هذا العام، يرى غرايمي إنها "موجعة إلى حد كبير". وعن جيرانه الذين فقدوا كل ما يملكونه في الحياة. ووفق كلماته، "إنه أمر صعب. يتمنى الواحد منا لو بمقدوره أن يُقدم المزيد، لكنه للأسف لا يقدر".

وفي السياق نفسه، يُحكى عن لجوء بعض الأشخاص إلى صفحات [على الإنترنت مخصصة لجمع أموال] التمويل الجماعي بهدف مساعدة أفراد أسرهم أو أصدقائهم الخائبين. نذكر من بين هؤلاء مثلاً، لورين كروكر (29 عاماً) التي أنشأت صندوق "غوفاندمي" الخيري بهدف جمع المساعدات لوالديها اللذان خسرا منزلهما في "لينوود" جنوب أستراليا قبل أيام من عيد الميلاد.

وتكتب لورين، "يشكّل ذلك المنزل ثمرة عمل أهلي الدؤوب طيلة 22 عاماً والدار التي خلتُ أنها ستأويني في شيخوختي... كل من يعرف والدي يعرف أنهما الأكثر رقياً وحناناً والأقل أنانيةً ولن يطلبا المساعدة أبداً".

في الوقت الحاضر، يعيش أهل لورين معها في "بريسبان" الواقعة على بعد ألفي كيلومتر تقريباً من "لينوود". وإبّان عيد الميلاد، ومع حقيبتين من المقتنيات، حاولا اللجوء إلى روح المشاغبة التي يشتهر الأستراليون بها، في تفسير ما يحدث. "بعد الموت والمرض، (ما أصاب والدي) يشكل ذلك ثالث أسوأ ما يمكن أن تقوله لإنسان. لذا حاولنا أن نضحك بشأنه"، تُخبر لورين.

وبالعودة إلى لين وباري، فإنهما يعيشان حالياً بأمان مع العائلة في سيدني. ومن المتوقع أن يعودا قريباً إلى "باتمانز باي". "لم يعد هناك ما يحترق"، تذكر لين. "لقد ارتأينا العيش هناك لأننا نحب البرية. قد يظن البعض أن عيشتنا وسط أشجار الصمغ التي نعشقها ضربٌ من الجنون، إلا أن الأمر ليس كذلك بالنسبة لنا".

وتختتم لين كلامها بإبداء الأسف لأن "تلك الأشجار لم يعد لها أثر الآن"،.

يُمكن تقديم التبرعات إلى "الصليب الأحمر الأسترالي" هنا.

© The Independent

المزيد من تحقيقات ومطولات