Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تعابير

ضاعت فلسطين... ولم نتعلم العِبَر

"كم شاباً عربياً قتلنا أحلامه قبل أن نقتله في سجون الديكتاتوريات المتوحشة باسم فلسطين" (غيتي) 

جميلة هي كلمة تعابير المشتقة من عبر كجمع لكلمة تعبير، غصت في بحر هذه الكلمة، فوجدته عميقاً يصعب التعبير عنه، ورحت أتعمق في مبدأ من مبادئ علم المعاني "تشابه الشكل يعكس غالباً تشابهاً بالمعنى".

العبارة كلمات، يحاول الواحد من خلالها أن يعبر بالفكرة من رأسه إلى عقل مستمعه، مثلما يعبر الصياد نهراً بالعبّارة، تماماً كما عبر اليهود البحر الأحمر، بعدما شق لهم موسى بعصاه بحسب المعتقدات الدينية كما ورد في التوراة اليهودية، فصاروا عبريين أو عبرانيين، إذاً التعبير حركة وتنقل، حركة للفكرة ولعابري البحار والأنهار، بل وحتى للعشاق والمحبين! ألم يغنّ سعدون جابر "اعبر على جفوني بحلم بس كون عينك سالمه، خلّيك عاشق بالاسم وخذ روحي بيك الهايمه".

كما اشتقت منها كلمة "عِبري" وهي لغة اليهود التي تُعدُّ من أقدم اللغات السامية، لكن العبري - بكسر العين أيضاً - هو المسافر الذي يركب وسيلة مواصلات لا يملكها، أو من يقف على الطرقات ليومئ بيده للسيارات المارة ليركب مجاناً.

والعبير يعكس حركة الانتقال أيضاً، فالرائحة الفواحة الجميلة تنتقل من الورود التي على الغصون إلى أنف من يشتمّها.

وللتعابير معان تفوق الكلام، فتعابير الوجه قد تتحكم بتفسير الكلمة، فمن يحيّيك "صباح الخير" متجهماً تختلف عبارته عمّن يحيّيك بها متبسماً.

ومن ينشر التفاؤل ترتسم على محيّاه تعابير بهجة وسرور تختلف عن تعابير الوجه المدلهم العبوس، ويتفاءل الناس بمَن ترتسم على وجهه تعابير السعادة والابتسامة، عكس ذلك الذي يقول عنه المصريون "وشّه بيقطع الخميرة من البيت" كناية عن أنه يجلب النحس ولا يجلب الخير بطلعته وطلّته، إذ إنّ الخميرة لعمل العيش- أي الخبز باللهجة المصرية- دليل على الوفرة وكثرة الخير.

كانت تعابير وجه الرئيس الأميركي دونالد ترمب تعكس مشاعره.

المشهد... الكونغرس الأميركي يوم الثلاثاء الماضي، يدخل ترمب ويسلّم رئيسة مجلس النواب- نانسي بيلوسي- خطاب حالة البلاد، ثم، وفي موقف لم يسبق له مثيل، يشيح بوجهه عنها بعدما مدت يدها له لتصافحه. حاولت الحفاظ على رباطة جأشها، لكن تعابير وجهها فضحت شعورها بالإهانة، عبّرت عن ذلك الشعور بتصرف غير مسبوق في تاريخ البرلمانات، فأمام الملأ، بل أمام العالم كله بوجود الكاميرات التي تنقل الحدث حيّاً على الهواء، مزّقت خطاب رئيس أكبر دولة في العالم ولسان حالها يقول "نقّع خطابك واشرب مايه".

والعَبرة بفتح العين تختلف عن العِبرة بكسرها، فالعَبرة تعني الدمعة، "وهلت عباير العين" باللهجة تعني جرت الدموع على الخد. وفي التراث، أناشيد وقصائد كثيرة يذكر بها الصب نزول دموعه لوعة على من فارقه أو هجره من قريب أو محب، كمطلع القصيدة التي لا أعرف قائلها: الله من عينٍ تهل العباير * هَلْ المزون الممطرات الكثيفة.

لكن العِبرة هي الدرس الذي يتعلمه الإنسان بعد تجاوز مرحلة أو تجربة مريرة، يُقال إنّ الخبرة بالحياة هي عدد الأخطاء التي يرتكبها الإنسان، فمن لا يخطئ لا يتعلم، ومن لا يأخذ العِبْرة من تجاربه وأخطائه، سيذرف العبرات حسرة وندامة.

تذكرت فلسطين! كم قتلنا من بعضنا بشعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"؟ كم شاباً عربياً قتلنا أحلامه قبل أن نقتله في سجون الديكتاتوريات المتوحشة باسم فلسطين وباسم المقاومة؟ كم نقتل اليوم في سوريا باسم المقاومة؟ وكم يقتل الحوثيون بشعار "الموت لأميركا والموت لإسرائيل"؟ وكم يموت من الليبيين غدراً وغزواً واسترزاقاً على جثث شعبها؟ وكم يُقتل من شباب العراق كل يوم من دون توقف لعيون ملالي إيران- قادة المقاومة ضد إسرائيل؟

كم أنهار من الدموع ذرفنا على ضياع فلسطين؟ بل وكم ندمنا على الفرص الضائعة "لإنقاذ ما يمكن إنقاذه منها"؟ وهو شعار كان عملياً للتعامل مع الواقع بعقلية "خذ وطالب".

ضاعت فلسطين، ولم نتعلم العِبَر، لكن سيل العَبرات لم يتوقف منهمراً... عَبْره ورا عَبْره بكينا فلسطين، وراحت سنين العمر نبكي عليها.

المزيد من آراء