Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أسراب نهمة من الجراد تدق أبواب أفريقيا

هرمون السعادة يحوله إلى جيش مدمر

منتصف يناير الماضي، لاحت في أفق القرى الحدودية الواقعة شمال شرقي كينيا، غيومٌ داكنةٌ تتحرك مسرعة مع اتجاه الريح. وقف شبان وأطفال من سكان هذه القرى يرقبون تلك الغيوم التي بدأت تقترب منهم شيئاً فشيئاً متسائلين عن ماهيتها، قبل أن يتوجس أهاليهم من كبار السن خيفة، بعدما أدركوا كُنه هذه الغيوم وما تحمله في باطنها من شرور: أسرابٌ جائعةٌ نهمةٌ من الجراد الصحراوي.

ومع استمرار توافد أسراب الجراد والتهامها للمحاصيل والمراعي في مناطق شتى من شرقي القارة الإفريقية، حذرت منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة "الفاو"، من تعرض المنطقة لأسوأ كارثة زراعية منذ 70 عاماً مشيرة إلى أن اجتياح الجراد قد يشمل خلال أسابيع قليلة أوغندا وجنوب السودان والسودان وإثيوبيا وإريتريا، مٌرجحةً أن تتخذ الأسراب سبيلها  إلى مصر شمالاً واليمن والسعودية شرقاً، ما يُنذر بـ"خطر مدمر" للأمن الغذائي لدول المنطقة، حسب منظمة "الفاو".

استعدادات عربية

وقد باشرت المملكة العربية السعودية اتخاذ الاستعدادات اللازمة لصد هجمة الجراد الصحراوي المرجح أن تعبر أسرابه البحر الأحمر انطلاقاً من الشواطئ الإفريقية المقابلة مع تقدمها شمالاً من سواحل إريتريا. وأفادت وزارة البيئة والمياه والزراعة السعودية أن هجمة الجراد الصحراوي الراهنة لم تحدث بهذا المستوى منذ 25 عاماً. وأعلنت تشكيل فرق ميدانية وتجهيز دعم لوجستي متكامل للحد من خطر الآفة وانتشارها. كما استنفرت مصر بدورها عشرات قواعد مراقبة الجراد المنتشرة على حدودها الجنوبية لرصد تحرك أسرابها قبل تسربها إلى أراضيها.

وأشارت منظمة "الفاو" خلال مؤتمر للمانحين عقد مؤخراً في العاصمة الكينية نيروبي، إلى ضرورة جمع 70 مليون دولار للمساعدة في رش الأسراب بالمبيدات، وهي الطريقة الوحيدة لمكافحة الجراد. لكن ذلك ليس سهلاً خصوصاً في الصومال، حيث تسيطر "جماعة الشباب" المتطرفة على أجزاء من البلاد وتهدد بإسقاط أي طائرة رش. ووصف متخصصون في مكافحة الآفات بوزارة الزراعة الكينية هجوم الجراد الأخير بأنه "ضخم للغاية"، وذكروا أن بلادهم بحاجة إلى مزيد من إمدادات المبيدات الكيميائية لرشها بواسطة الطائرات الأربع التي تمتلكها.

تطورت طرائق مكافحة الجراد مع مرور الزمن ومع تقدّم التكنولوجيا؛ فبعدما كانت تقتصر في الماضي على توجيه النار نحو أسراب الجراد، أو عرقلة تقدمها بخنادق مملؤة بالماء، أو بإحاطة جذوع الأشجار بصحائف ملساء ينزلق عليها الجراد، وغير ذلك من الوسائل البدائية، باتت اليوم تعتمد طرائق المكافحة الكيميائية. مع ذلك لا تزال بعض الجماعات المحلية في إفريقيا وآسيا تستخدم وسائل إبادة طبيعية للجراد مثل: الطيور والعناكب والعظايا التي تشكل مفترسات طبيعية لهذه الحشرة، إضافة إلى القضاء المبكّر على بيض الجراد المدفون في التراب قبل فقسه بواسطة الفلاحة وتقليب التربة. لكن هذه الوسائل وإن كانت فعّالة على المدى البعيد إلا أنها تظل غير كافية لصد هجوم مكثف للجراد الذي يبقى دواؤه الوحيد المكافحة الكيميائية بواسطة رش المبيدات.

مخاطر داهمة

رغم تجاوز أعداد الجراد الصحراوي الذي اجتاح كينيا مؤخراً الـ200 مليار جرادة دمرت حتى الآن 2400 كيلومتر مربع، إلا أن تدفق الأسراب الجديدة ما انفك مستمراً من معاقلها في القرن الإفريقي. ومن شأن هطول مزيد الأمطار في شهر مارس المقبل ونمو نباتات جديدة في أنحاء متفرقة من المنطقة، أن يضاعف أعداد الجراد 500 مرة إن لم يحُدُّ الطقس الجاف من انتشاره مع بداية يونيو. وتقول منظمة "الفاو" إن الشهور الثلاثة المقبلة ستكون كارثية إن لم يتم اتخاذ الاجراءات المناسبة قبل بدء موسم التكاثر الصيفي.

تستطيع أسراب الجراد الصحراوي قطع مسافة 150 كيلومترا يومياً مع اتجاه الريح. وتشير إحصائيات منظمة "الفاو" إلى أن الجرادة الواحدة تلتهم ما يعادل وزنها تقريباً من المزروعات يومياً (نحو 2 جرام)، ما يعني أن سرباً بحجم كيلومتر مربع واحد، يضم ما بين 50 مليوناً حتى 150 مليون جرادة، يمكنه التهام زهاء 100 ألف طن من الأوراق الخضراء والأزهار والثمار والبراعم وحتى قشور النباتات في اليوم، أي ما يكفي لغذاء نصف مليون إنسان مدة عام كامل؛ ما يجعل الجراد أكبر عامل مدمر للحياة النباتية على سطح الأرض.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ما بين الفردي والجماعي

يرقى عمر الجراد، حسب تقدير علماء الأحياء، إلى ما يتراوح بين 350 و400 مليون سنة. وقد تطور شكله بمرور الزمان حتى بلغ بنيته الحالية. وللجراد نمطين خلال حياته: فردي، حين يكون عدده أقل من 500 جرادة في الهكتار الواحد، وهو هنا لا يشكل أي خطر على المزروعات ويكون تصرفه خجولاً وشهيّته للأكل محدودة، بل غالباً ما يُلحظ وجوده. أما في نمطه الجماعي، حين تتخطى أعداده الـ500 جرادة بكثير في الهكتار الواحد، فيكون جسوراً وذو شهية عارمة للأكل. والواقع أن الجراد يكون متوطِّناً المكان نفسه ولكن بحالته الفردية، بحيث لم ينتبه له أحد. فلمّا تغيرت الظروف وصارت ملائمة أكثر، تسارع نموّه وتضاعفت خصوبته وظهر بهذه الطريقة الفجائية.

لكن ما السبب الكامن وراء هذا التغيّر وكيف يحدث؟ في عشرينيات القرن الماضي عكف "بوريس أوفاروف"، عالم الأحياء الإنجليزي ذو الأصول الروسية، على محاولة كشف لغز الظهور المفاجئ لأسراب الجراد. فاكتشف أن هذه الحشرات الغازية ليست نوعا جديدا، بل إنها مرحلة متحولة من الجراد العادي (أخضر اللون صغير الحجم الذي نسميه حشرة النطاط) الذي لا يعدو كونه نوعا من الجنادب آكلة العشب التي لا تشكل خطرا على الزراعات حيث تعيش متفرقة بأعداد محدودة وشهية معتدلة. وقد تركزت أبحاث أوفاروف على الأسرار الكامنة وراء هذا التحول، فوجده يبدأ مع التغير البيئي المرتبط بالأمطار الغزيرة التي تفاجئ البيئة الصحراوية القاحلة بعد مواسم عديدة من الجفاف، إذ تخضرُّ الأرض فتزداد أعداد الجراد بشكل ملحوظ، جراء وفرة الطعام المفاجئة وتأثير الرطوبة التي يجلبها المطر، والتي تدفع البيض القديم المودع في الرمال منذ سنوات عديدة (قد تصل إلى عشرين عاما) يفقس.

ومع تكاثُف أعداد الجراد بعد سقوط الأمطار، يحدث الازدحام وينشأ ميلٌ إلى التقارب بين هذه الحشرات التي كانت تفضل العيش متفرقة (باستثناء فترات التزاوُج). ويترافق التزاحُم على الغذاء الوفير المفاجئ، نهم شديد تُقبل به هذه الحشرات على الغذاء الطالع بعد المطر. وتُعزِّز هذا النهم وتؤججه زيادة كبيرة في معدل التمثيل الغذائي، فتتضخم الجرادات ويتغير لونها من الأخضر الفاتح إلى الأصفر المسّود الضارب إلى الحمرة. وكلما قضت الجحافل النهمة على مساحة خضراء، تنتقل إلى أخرى لتُشبع نهمها الذي لا يهدأ، إلى أن تنتهي إلى التجمع على آخر مساحة خضراء بمجمل حشودها، فيغدو التزاحم حشرا تتلاطم فيه الأجسام، عندئذٍ يبدأ انفلات الجراد بالطيران في مجموعات يتبع بعضها بعضا، وتتكاثف مكونةً أسرابا أشبه بغيوم داكنة في صفحة السماء، تمتد بطولها وعرضها كيلومترات، وترتحل لآلاف الكيلومترات، باحثة عن كل ما هو أخضر في طريقها لتمحوه، فتصير طاعونا طائرا، وابتلاءً للأرض وما ومن عليها.

هرمون السعادة المدمر

شكل اكتشاف "أوفاروف" لذلك التحول فتحا علمياً كبيرا أُطلق عليه مصطلح "تعدد المظاهر"؛ ويعني باختصار انتقال الجراد من مظهر وسلوك هادئ "انفرادي" إلى مظهر وسلوك "احتشادي". وقد توالت إثر ذلك الأبحاث العلمية على امتداد عقود، إلى أن صدر منذ سنوات قليلة بحث لفريق من علماء جامعات كامبريدج وأكسفورد البريطانيتين وسيدني الأسترالية، حمل عنوان "كيف لمادة كيميائية في الدماغ أن تحول الجراد غير المؤذي إلى حشد من الآفات الضارة". وقد توصل الفريق البحثي الرصين إلى أن زيادة هرمون "سيروتونين" في أجزاء من الجهاز العصبي للجراد المسالم تشكِّل بداية تحوُّله إلى جراد تدميري. وأوضح البحث أن التلامس اللاإرادي الناتج عن شدة التزاحم على نباتات ما بعد المطر يكون بمنزلة الزناد الذي يطلق شرارة إفراز هرمون "سيروتونين" الزائد، ذلك أن تكرار ملامسة الساقين الخلفيتين للجراد تثير مستقبلات عصبية حِسيَّة وحركية، تعمل على زيادة إفراز هرمون "سيروتونين" في الجهاز العصبي. وهذه الزيادة هي في النهاية مسؤولة عن زيادة جرأة الجراد وتحوُّله من الميل إلى العيش الانفرادي إلى الاحتشاد في أسراب مهاجرة تدميرية.

بقي أن نعرف الأمر الأكثر إثارة للدهشة في ختام هذه المقالة؛ فهرمون "سيروتونين" يشتهر لدى البشر بمُسمَّى "هرمون السعادة"، لارتباطه في مستوياته المعتدلة بمشاعر الابتهاج والانتعاش والرغبة ومقاومة الإجهاد، فيما يؤدي نقصانه إلى الاكتئاب. أما زيادته البالغة فتؤدي إلى هياج ذهاني يتسم بالجنون التدميري؛ تدمير الذات أو تدمير الغير، أو كليهما. فهل يسرق "هرمون سعادة الجراد" لقمة عيش فقراء إفريقيا ويأتي على أخضرهم ويابسهم؟ الإجابة في الأشهر الثلاثة المقبلة.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات