تتعثّر محادثات توحيد المؤسسة العسكرية الليبية على الدوام، فالأطراف المشاركة في هذا الحوار تصطدم بنقاط حمرٍ كثيرة، تعرقل تقدم المفاوضات وبالتالي إطالة زمن الانقسام، الذي ينعكس سلباً على دور المؤسسة العسكرية وأدائها شرقاً وغرباً.
انطلاق عملية الكرامة والفجر وبداية انقسام المؤسسة العسكرية
وقع الانقسام فعلياً مع انطلاق عملية الكرامة التي قادها في شرق البلاد خليفة حفتر في السادس عشر من مايو في العام 2014، والتي كانت تهدف إلى محاربة التنظيمات الإسلامية المسيطرة على بنغازي وقتذاك، والمتورطة في اغتيال العديد من الضباط ومنتسبي الجيش، وتعزّزت شرعية هذه العملية بعد أن تبناها مجلس النواب الليبي في جلساته الأولى في مدينة طبرق، واكتمل المشهد بانتقال الحكومة الليبية الموقتة برئاسة عبد الله الثني التي كانت حكومة لكل البلاد إلى مدينة البيضاء، ونجاحها في كسب ثقة البرلمان.
عملية فجر ليبيا
في المقابل اكتسبت التيارات الإسلامية التي يواجهها حفتر في شرق البلاد تعاطفاً وتضامناً من الجهات المتنفذة في طرابلس، خصوصاً تلك التي ترى في عملية الكرامة إعادة لعسكرة الدولة واستنساخاً لتجربة السيسي في مصر، إضافة إلى تيارات الإخوان المسلمين التي رأت في حفتر عدواً لن يهدأ له بال من دون القضاء عليها، وبذلك تعزّزت أسباب الانقسام في المؤسسة العسكرية، فالجيش في الغرب لا يتمتع بنفوذ واسع، وهو محاصر بأعداد كبيرة من الكتائب والمجموعات المسلحة، لذا كانت الأوضاع تسير إلى التقسيم وعمل كل مؤسسة وحدها، فانطلقت في منتصف يوليو (تموز) في العام 2014 عملية فجر ليبيا. كانت عملية فجر ليبيا في حاجة إلى جهة تشريعية وتنفيذية كتلك التي توفرت لعملية الكرامة في شرق البلاد، فأحيت المؤتمر الوطني العام وهو الجهة التشريعية التي انتهت ولايتها بانتخاب مجلس النواب، وأعلنت قيام حكومة الإنقاذ الوطني برئاسة عمر الحاسي، التي كسبت ثقة المؤتمر الوطني العام لتزاول مهماتها من دون اعتراف دولي.
نجاحات للجيش الليبي في الشرق وجمود نظيره في الغرب
مع توالي السنوات، نجح الجيش الليبي شرق البلاد في القضاء على التنظيمات الإرهابية في بنغازي ودرنة، كما نجح في بسط سيطرته على الحقول والموانئ النفطية. في المقابل، لم تظهر نجاحات كبيرة للمؤسسة العسكرية في الغرب، إذ فشلت في تأمين الجنوب الذي صار مرتعاً للجماعات الأجنبية، وساحة للجريمة المنظمة، كما لم تنجح في تأمين وملاحقة وضبط العديد من المجرمين ورؤساء العصابات في مدن الغرب، ولم تفلح في كبح جماح الكتائب المسلحة التي طالما روّعت العاصمة بحروبها وخلافاتها.
ظهور حكومة الوفاق ومحاولات توحيد المؤسسة العسكرية
مع بدء حوارات الصخيرات وفيينا وغيرها، ونجاح الأمم المتحدة في ترسيم اتفاق الصخيرات الذي أفضى إلى تشكيل حكومة الوفاق الوطني كحكومة وحدة وطنية تمثل كل الليبيين، ظهرت الحاجة إلى إعادة توحيد كل المؤسسات الليبية، وأهمها كانت المؤسسة العسكرية، وعلى الرغم من تعثر اتفاق الصخيرات بسبب تخبّط البرلمان في مسألة منح الثقة لحكومة الوفاق الوطني، ومبادرة الأخيرة إلى مباشرة أعمالها في طرابلس من دون الحصول على الثقة، غير أن محادثات توحيد المؤسسة العسكرية كانت محط اهتمام الأطراف الدولية المعنية بالشأن الليبي. ويقول الناطق باسم القيادة العامة للجيش أحمد المسماري وهو عضو في لجان توحيد المؤسسة العسكرية في محادثات القاهرة التي تمّت في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إن المحادثات مضت في شكل جيد، واتفقت الأطراف على نقاط مهمة، لكن لم يتمّ الاتفاق على القضايا الجوهرية، موضحاً أن استمرار الجيش في التفاوض كان تقديراً للدور المصري الذي يريد أن يدفع بهذا الملف إلى الأمام.
المبادرة المصرية ومحاولة تقريب وجهات النظر
قدمت اللجنة المصرية المعنية بالملف الليبي، مسودة اتفاق توحيد المؤسسة العسكرية، إلى الأطراف العسكرية الليبية الممثلة للواء المتقاعد خليفة حفتر، ومجلس رئاسة حكومة الوفاق الوطني، تتضمن خمسة بنود، وتحديد الاختصاصات والمهمات، وتفصيلات مختلفة حول المبادئ الحاكمة، والهيكل التنظيمي للقوات المسلحة، وعلاقة المؤسسة العسكرية بالسلطة المدنية، وتكوين واختصاصات المستويات القيادية للجيش، والأحكام الختامية. وأكد البند الثالث من المسودة أن "تخضع المؤسسة العسكرية إلى السلطة المدنية وفق الأصول الديمقراطية والدستورية، والضوابط التي يحددها الدستور والقوانين التي تنظم الشأن العام عموماً والشأن السياسي أو العسكري على الوجه الخصوص". ونصّ هذا البند أيضاً على أنه "لا يجوز للعسكريين تقلّد الوظائف أو المناصب السياسية إلا في الأحوال الخاصة التي تجيزها التشريعات وتتطلبها بعض المراحل، وهو ما يعكسه أداء القسم (الدستوري والقانوني) للقادة العسكريين كالقائد العام ورئيس الأركان العامة أمام السلطة التشريعية أو رئيس الدولة وفق النظام السياسي"، مشدداً على التعهد باحترام الدستور والتشريعات النافذة، وأن تتجسد علاقة المؤسسة العسكرية بالسلطة التنفيذية من خلال مجلس الأمن القومي، ومجلس الدفاع الوطني، ومجلس القيادة العامة. ويتحدث البند الرابع حول تكوين واختصاصات المستويات القيادية للجيش الليبي، إذ يتكوّن الجيش من ثلاثة مجالس قيادية، هي مجلس الأمن القومي، ومجلس الدفاع الوطني، ومجلس القيادة العامة، ويلتزم كل مجلس باختصاصات معينة. وفي ما يخصّ القائد الأعلى للجيش، وفق المسودة، يتولى رئيس الدولة قيادة القوات المسلحة ويعتبر القائد الأعلى، وتخضع القوات المسلحة لإشرافه وتوجيهاته، ويمارس صلاحياته في ما يتعلق بإدارة المؤسسة العسكرية طبقاً للتشريعات الدستورية والقانونية التي تخصّ المؤسسة العسكرية.
لا اتفاق على منصب القائد الأعلى للجيش الليبي
بند القائد الأعلى للجيش كان محور الخلاف بين الطرفين، إذ يصرّ ممثلو حكومة الوفاق الوطني على أن يكون فائز السراج في منصب القائد العام، لكونه رئيساً للمجلس الرئاسي المعترف به دولياً، ولكن ممثلي الجيش يرفضون ذلك، مطالبين بأن تكون القيادة من نصيب الشخصية التي ينتخبها الشعب كرئيس للبلاد، إذ يرفضون أن تكون قيادة الجيش بإمرة قيادة مجلس مكون من تسعة أشخاص، فضلاً عن كونهم خاضعين لتأثير المجموعات المسلحة في طرابلس وسيطرتها. وتعثّر مفاوضات توحيد الجيش قد يستمر، خصوصاً بعد حراك القوات المسلحة وزيادة رقعة الأراضي التي تسيطر عليها، بعدما بسطت نفوذها على المنطقة الجنوبية والحقول النفطية، في حين لم تعد المؤسسة العسكرية في طرابلس تملك إلا سيطرة غير واضحة المعالم على مناطق ومدن في المنطقة الغربية من البلاد.
يستمر حظر السلاح مع غياب أفق حل قريب
إلى ذلك، يستمر مجلس الأمن الدولي في تمديد حظر السلاح المفروض على ليبيا بعامة منذ العام 2011، والذي يُعلِّلُه بوجود جماعات مسلحة تتقاتل في ما بينها، وغياب بوادر حلٍ سياسي في القريب العاجل، وكان آخر تمديد في الثاني عشر من يونيو (حزيران) الماضي، والذي أعطى الحق للدول الأعضاء بتفتيش السفن المتجهة إلى ليبيا أو المقبلة منها.