Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"موسى المصري" كما رآه فرويد: إنسان كبقية البشر

مؤسس التحليل النفسي مشاكسا من البداية الى النهاية

سيغموند فرويد (1853 – 1939)

في العام الذي رحل فيه عن عالمنا وقبل ذلك الرحيل بشهور قليلة، آثر سيغموند فرويد مؤسس التحليل النفسي المنفي في ذلك الحين في لندن والمقيم فيها منذ سنوات هربا من الإضطهاد النازي في النمسا كما في ألمانيا، آثر ألا ينهي حياته قبل أن يشاكس لمرة أخيرة في تلك الحياة. وعلى ذلك النحو أصدر كتابا أخيرا له، كان يعرف على أي حال أنه سيكون الأخير!، فالمرض القاتل كان يشتد عليه منذرا بأن النهاية باتت قريبة. غير أنه إذا كان مدركا أن الكتاب سيكون الأخير، لم يكن ليخطر في باله أنه سيكون واحدا من أكثر كتبه إثارة للسجال. بل كان ثمة من بين منتقديه من قالوا أنه أضعف كتبه ولا يحمل جديدا باستثناء التشبث العنيد بأفكار كانت لا تزال عرضة للسجال ولن يُقيّض لها أبدا أن تصل إلى خاتمتها المنطقية. وبالطبع سيكون أكثر مساجلي فرويد عنفا من علماء أبناء جلدته اليهود الذين لم يكونوا عارضوا مفكرا من دينهم بمثل تلك الشراسة منذ طردوا باروخ سبينوزا من المعبد قبل ذلك بمئات السنين. والحقيقة أننا حين سنعرف موضوع الكتاب، بل حتى عنوانه، سوف ندرك السبب. فالكتاب هو "موسى الإنسان والدين التوحيدي" وهو صدر قبل عقود مترجما إلى العربية تحت عنوان مختصر هو "موسى والتوحيد"، كما تُرجم طبعا إلى عشرات اللغات منذ صدوره وكثيرا ما جوبه بسجالات بالغة العنف أيضا لم يكن العلماء اليهود وحدهم مطلقيها. فالكتاب الذي يحاول فيه فرويد التصدي "العقلاني" لواحدة من أعقد المسائل في تاريخ الفكر، كان غير متلائم مع التفكير الغيبي الذي يجد دائما أن من حقه الدفاع عن عقائده حتى ولو تناقضت مع العقل، ونعرف أن معظم الأديان قد عرفت ذلك النوع من السجال بين ما يسمّى "النقل والعقل".

تحريف التاريخ!

بيد أن المشكلة مع فرويد لا تكمن هنا بالتحديد. بل في مكان يبعد عن ذلك بعض الشيء. فلئن كانت السجالات التي يسميها الفكر العربي سجالات البحث عما بين الفلسفة والشريعة من إتصال في عملية تصالحية مشروعة إلى حد كبير، تتناول عادة مسائل مثل التأويل والتفسير وصولا إلى تفهّم ما أسماه الشاطبي الأندلسي "مقاصد الشريعة" التي تبرر كل ما قد يبدو في العقيدة متنافيا مع العقل خاضعا للنقل، فإن ما كان فرويد يسعى إلى إثباته إنما يتعلق بالتاريخ نفسه داحضا ما اعتبره تزييفا وتهافتا وأخطاء تاريخية يُلتجأ إليها لتعزيز العقيدة ليس على حساب المنطق العقلاني فقط، بل خاصة على حساب "الحقيقة التاريخية" وهذا في رأي فرويد جرم كبير!

إذا لا يتطلع فرويد هنا، وهو يعيش آخر شهور حياته، إلى مساجلة ما مع من يعتبرون أنفسهم حافظي الحقيقة التاريخية، بل هو ينكر عليهم "حقائقهم" التي يريدون الحفاظ عليها مهما كان الثمن. وهكذا ومنذ البداية يفجع فرويد مناوئيه المفترضين بتأكيده أن النبي موسى لم يكن يهوديا، بل كان مصرياً. والأدهى من هذا قول فرويد أن موسى إنما فرض دين الفرعون المصري أخناتون على العبرانيين الذين لم يكونوا قبل ذلك يهودا. وانطلاقا من هنا يقول باحثو المتن الفرويدي أن فرويد إنما جعل من كتابه هذا نوعا من الإستكمال لطروحات "أنثروبولوجية" كان قد كرّس لها قبل ذلك بزمن طويل واحدا من أبكر كتبه وهو "المقدس والمحظور" (الطوطم والتابو) الذي منذ أنجزه وأصدره بين العامين 1912 – 1913، كان يرى أنه في حاجة إلى استكمال أساسي وها هو يفعل ذلك آخر عمره. وهنا ينطرح سؤال لا بد منه: لو أن فرويد أضاف إلى كتاب العامين 12- 13 هذا، الجزء المضاف بعد أكثر من ربع قرن والذي حمل كل ذلك القدر من الجرأة، دون انتظار كل تلك السنوات، هل كان من شأن الكتاب أن يثير ذلك القدر من السجال، العدائي أحيانا؟ الجواب المحتمل هو: أبدا. فالظروف كانت تغيرت لأن النصف الثاني من سنوات الثلاثين، حين كتابة "موسى" ونشره، كانت قضية اليهود قد أضحت قضية شديدة الحساسية من الناحية السياسية مع الإضطهاد النازي لليهود الأوروبيين وإحساس كثر من اليهود بأن أي كتابة تفقدهم جزءا من شرعيتهم سوف تصب لمصلحة هتلر ونازييه!

ومن هنا كان واضحا أن ما يعزوه فرويد في كتاب العام 1939 من "قتل اليهود لموسى" بوصفه مصريا أراد أن يبدّل من دين آبائهم لم يكن من شأنه أن يريحهم. بخاصة أن فرويد ماثَل، أوديبيا على الأقل، بين ذلك القتل وقتل الأب طقوسيا في تقاليد جريمة قتل الأب البدئية. وهو تابع بذلك، بحسب معظم التحليلات المحايدةعلى الأقل في ذلك المجال، ما كان بدأه في كتاب "مستقبل وهم" الذي كان أصدره في العام 1927، بالنظر إلى أنه رأى في جريمة قتل الأب الطقوسية تلك الجذور القديمة للدين الذي جاء به السيد المسيح "من ناحية البعد القربانيّ فيه".

محاكمة النوايا!

ونعود إذ نكتفي بهذا هنا، إلى ما أثاره الكتاب من زوابع حين صدوره. فالحال أن العلماء اليهود المحافظين ورجال الدين لم يرحهم أن يأتي مفكر من طينة فرويد ووزنه، يهودي اضافة إلى ذلك، لينتزع منهم نبيّهم، هو الذي كان قد أثار زوبعة مماثلة لدى المفكرين ورجال الدين المسيحيين حين تحدث عن "هذيان ما يسم الممارسة الدينية المسيحية". فها يمكننا القول أن فرويد إنما كان يسعى في آخر أيامه إلى الإستفزاز لخاطر الإستفزاز، وأنه كان يصر، عبر تلك المعارك الجديدة التي كان يعلم علم اليقين أنها سوف تندلع في وجهه، إلى إبقاء الضجيج من حول اسمه قائما؟ من الصعب هنا محاكمة النوايا على هذه الشاكلة، ولكن ما لا شك فيه، وهو أمر تكشفه قراءة الكتاب على أي حال، هو أن فرويد قدّم هنا واحدا من أضعف كتبه، وأنه على الرغم من استعانته بفرضية كانت معروفة في زمنه وتتسم بقدر كبير من العلمية حول مصريّة موسى وعلاقة توحيديّة الدين الذي نشره بأفكار الفرعون المصري التوحيدي، لم يضف هو من عندياته سوى القليل وهذا القليل كان ضعيفا علميا على أية حال، ضعف المحاججات المتعلقة بالدين المسيحي كذلك.

مهما يكن من أمر، ينحو مؤرخو حياة فرويد وباحثو أعماله في زمننا هذا إلى تجاهل "موسى الإنسان والدين التوحيدي" مفضلّين الإستنكاف عن الغوص فيه وذلك "لمصلحة الفكر الفرويدي الذي لا تنقصه المعارك والسجالات" كما يقول أحد متابعيه الفرنسيين. فبعد كل شيء لا "التحربف التاريخي" الذي اتبعه صاحب "علم الأحلام" بالنسبة إلى اليهود كان متناسبا مع مجالات فكره المعهودة والتي تتسّم بقوة سجالية إستثنائية، ولا التحليل السيكولوجي الذي حاول أن يعالج به "المسألة المسيحية" يبدو ملائما لأشغاله حول النفس الإنسانية. أما من ناحية مراميه الأنثروبولوجية فيبدو أنه كان عليه أن يكتفي بالأفكار المتميزة التي عبر عنها في "الطوطم والتابو" إذ بدت هناك كافية لتجعل له مكانة بين أنثروبوليجيي زمنه.

ونعرف أن فرويد الذي ولد في العام 1856 في فرايبرغ بمورافيا التي كانت حينها تابعة للإمبراطورية النمساوية – الهنغارية، عرف بمشاكسته منذ طفولته وإصراره دائما على قول ما هو مفاجيء بل صادم للآخرين، ومن الواضح أنه بالكتاب الذي نحن في صدده هنا، إنما أراد أن يختم حياته، كما بدأها: مشاكساً، صادماً وربما مغضوبا عليه أيضا من قوم تاق دائما لأن يكونوا غاضبين عليه. ويقيننا أنه نجح في ذلك حتى وهو على فراش الموت!

 

المزيد من ثقافة