قبل أن ندخل في عصر أُسرت فيه العيون بمسلسلات تلفزيونية بوليسية تعرض على الجمهور وسائل علمية مذهلة باتت تستعمل في التوصل إلى حل ألغاز الجرائم، اعتاد أبي أن يروي لنا على طاولة العشاء بحديث طلي ساحر، الطرق التي يعمل بها مع فريقه على حل أسرار الجرائم. آنذاك، في ثمانينات القرن العشرين في مدينة جدّة بالمملكة العربية السعودية، بدا أن كل أداة يستنبطها تضحي مادة تتعلم منها أجيال مقبلة من المتخصصين في علم الجريمة. وعبر حبك روائي آسر، حكى والدي كيفية دخوله مع زملائه بطريقة ممنهجة ومدروسة، إلى مسرح الجريمة، وعملهم على جمع الأدلة الجرمية كي ترسل الى التحليل الجنائي. وبالترافق مع ذلك، يستوجب أبي الشهود والمشتبه فيهم مستخدماً خبرته كمحقق كي يتوصل الى مزاوجة الأدلة العلمية مع شهادات الشهود، للحصول على مستند للإدانة. لقد تقاعد أبي في سن الـ36، إذ تضمن عمله ضغوطاً عاطفية ثقيلة الوطأة تتأتى من الجرائم المروعة التي يعايشها، ما جعله يسعى إلى حياة أكثر هدوءً وسلاماً. وبعد مرور ثلاثين سنة على ذلك كله، أزجي تحية إلى مساهمات أبي في علم الأدلة الجنائية، عبر إلقاء الضوء على أحدث التقنيات المتطوّرة فيه، خصوصاً ما يتصل بالجينات وعلم الأنساب.
وحاضراً، يعتبر علم الجريمة حقلاً واسعاً، وقد تغيّر جذرياً بأثر من التقدم العلمي والتكنولوجي، خصوصاً علم الجينات الذي بدّل طُرُق التوصل على اكتشاف الجرائم وتفكيك ألغازها. وتعتبر السعودية بلداً رائداً في الجينات. ويدفعني ذلك إلى التفكير في وضعية علم الجينات الجنائية في السعودية وكيفية استعمال القاعدة الواسعة من البيانات عن الحمض الوراثي والتركيب الجيني للأفراد، في حلّ أسرار الجرائم.
في الولايات المتحدة التي أستقر فيها حاضراً، تشارك مراكز البوليس في الثورة العلمية الجارية في علوم الجريمة وطُرُق التوصل إلى تفكيك ألغازها. وتقليدياً، اعتاد البوليس أن يجمع عينات من الحمض الوراثي من مسرح الجريمة، ثم يرسلها الى مختبرات التحليل. وعندما يظهر مشتبه فيه، تؤخذ عينات من حمضه الوراثي، وترسل الى المختبرات كي تقارن مع ما جُمِعَ من مسرح الجريمة. ويتطلب الأمر انتظار أسابيع عدة، قبل أن تظهر نتائج تلك المقارنة.
في 2017، حدث تغيير أساسي في تلك الصورة. وشرع البوليس في استخدام آلات تستطيع أن تحلل بسرعة التركيب الوراثي للحمض الوراثي، وتحديد تركيبته الجينية. تسمّى تلك الآلات "رابيد دي. أن. إيه" Rapid DNA. ويستطيع أفراد الشرطة استخدامها بأنفسهم، فتعطيهم نتائج في 90 دقيقة. ومنذها، شرعت مؤسسات إنفاذ القانون في تبني تلك الآلات وأشباهها، على امتداد الولايات المتحدة، وصارت تتولى بنفسها تحليل عينات الحمض الوراثي.
بقول آخر، لقد صار الحاضر هو المستقبل الذي طالما تصوره الخيال العلمي، عن شرطة تستطيع بسرعة التوصل الى تحديد هوية القتلة، انطلاقاً من تحليل أعقاب سجائر متروكة، أو علب مشروبات الصودا. في 2017، وقّع الرئيس دونالد ترمب أمراً رئاسياً بتبني "رابيد دي أن إيه آكت" [= "قانون التحليل السريع للحمض الوراثي"]. وبفضل ذلك القانون، أُتيح لمراكز شرطة في ولايات عدة، توصيل آلات "رابيد دي آن إيه" الموجودة فيها، مع قاعدة بيانات وطنية عن تراكيب الحمض الوراثي للأميركيين، تُعرف باسم "كوديس" Codis. لقد جاء عصر البصمة الجينية للأفراد، وأزاح إلى الوراء زمن بصمات الأصابع.
في ذلك الصدد، يفيد مسؤولون أميركيون في مؤسسات إنفاذ القانون أن تلك آلات التحليل السريع للتركيب الجيني، قدمت خيوطاً إرشادية ساهمت في حلّ مئات من القضايا الجنائية، وساعدت في إلقاء القبض على مرتكبي جرائم، وكذلك برّأت أبرياء جرى الاشتباه فيهم.
في المقابل، يبدي عدد من العلماء والخبراء القانونين قلقهم بشأن طريقة استخدام تقنية البصمة الجينية. إذ عمدت وكالات بوليسية عدة إلى إنشاء قواعد بيانات جينية خاصة بها، وكذلك لم تكتفِ بجمع عينات من الحمض الوراثي لأفراد أدينوا بارتكاب جرائم كبرى، بل صارت تتوسع في أخذ عينات من أفراد لمجرد أن شكوكاً جنائية حامت حولهم. لكن عينات الأخيرين صارت محفوظة، ربما إلى الأبد، في قواعد البيانات الجنائية!
أبعد من ذلك، ليس من اتفاق كبير على العينات التي يجدر الاستناد إليها ووضعها في تصرف آلات التحليل الجيني. ومن المعروف تماماً أن أدلة جنائية قيّمة ربما تفقد قيمتها إذا لم يجر التعامل معها من قِبَل أيدٍ كفؤة وخبيرة. وإذا صح ذلك، وفق آراء منتقدة، ثمة إمكانية أن تضطرب أعمال ضباط الشرطة بتأثير نتائج غير موثوقة تأتي من تعامل غير الخبراء مع آلات التحليل الجيني السريع.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في الإطار نفسه، يعرف المتخصصون أنه إذا جرى تقديم عينات مُعقّدة إلى آلات التحليل الجيني السريع، فإنها لا تستطيع غالباً صنع ملف عن التراكيب الجينية التي تحتويها تلك العينات. واستطراداً، غالباً ما تستعمل النتائج الآتية من آلات التحليل الجيني السريع، في صنع خيوط إرشادية في التحقيقات الجنائية، ونادراً ما تستعمل في المحاكم.
وفي زاوية اخرى من المشهد نفسه، ترتفع قيمة عينات الحمض الوراثي كلما توسّعت قاعدة البيانات الجينية التي تستند إليها. وعند هذا المفصل، يبرز دور علم الأنساب الجيني وقواعد البيانات الواسعة التي يصنعها خبراؤه. إذ يستعمل خبراء علم الأنساب الجيني الأدوات الشائعة في تحليل تراكيب الأحماض الوراثية للأفراد، كي يصنعوا منها أشجاراً سلالية للعائلات. وقد ابتدأ شطر كبير من ذلك العمل بشكل تطوعي. وعلى أيدي متطوعين أيضاً، طوّرت أدوات علمية كثيرة كي تستخدم في علم الأنساب الجيني. لم يكن أياً من تلك الأدوات مُصمّماً كي يستعمل في تحقيقات جنائية. وصُنِعت غالبيتها لتساعد الأفراد على معرفة أجداد لهم تتحدر منهم الشجرة العائلية وتفرعاتها. بقول آخر، صُنِعَتْ أدوات التحليل في علم الأنساب الجيني كي تساهم في لمّ شمل العائلات، لكنها باتت الآن تستعمل أساساً وسيلة لإلقاء أفراد من العائلة خلف القضبان.
في منحىً مماثل، من المستطاع القول بأن استعمال علم الأنساب في التعرف إلى هوية مشتبه فيه، لا يفرق كثيراً عن البحث مثلاً عن آباء طفل جرى تبنيه. إذ تبدأ تلك العملية بأخذ عينه من الحمض الوراثي للطفل، وتحليلها وإدخال نتيجتها في قواعد البيانات الجينية. وفي أغلب الأحيان، يؤدي ذلك الى العثور على أحد الأنسباب البعيدي بعيد القرابة، لكن المهرة من المتخصصين في علم الأنساب يتوصلون إلى رسم شجرة سلالية بالاستناد إلى مقارنات للأجزاء المتوفرة من الحمض الوراثي [لنقُل الطفل وقريبة البعيد] مع السجلات العامة للجمهور، وإعلانات الوفيات، وبروفايلات الأفراد على الـ"سوشيال ميديا" وغيرها.
وفي الحالات الجرمية، تستطيع مؤسسات إنفاذ القانون الاتصال بأفراد العائلة للحصول على معلومات تتعلق بأحماضهم الوراثية، كي تتمكن من تضييق مجال الإحتمالات.
وثمة صناعة معاصرة آخذة في النهوض تستند إلى الربط بين القواعد الواسعة لبيانات الأحماض الوراثية للجمهور وبين قواعد بيانات الأحماض الوراثة التي تصنعها الشرطة بواسطة آلات التحليل الجيني السريع. وقد ساهم ذلك فعلياً في تقديم حلول لعدد من الجرائم الشائكة، على غرار ما حصل مع مرتكب سلسلة جرائم "الجسر الذهبي" [يسمّى أيضاً "قاتل الولاية الذهبية] الذي اكتُشِف بفضل تلك المقاربة في العام 2018، وقد ارتكب جرائمه [13 جريمة قتل وأكثر من 50 اغتصاب وغيرها] بين عامي 1974 و1986. ويشار الآن إلى الحقل المتصل بتلك الصناعة بمصطلح علم الأنساب الجيني للتحقيقات الجنائية. ويعتبر أقوى أداة لمكافحة الجريمة منذ اكتشاف التركيب الكامل للحمض الوراثي (الجينوم) نفسه في مطلع الألفية الثالثة.