كان لسقوط الطائرة الأوكرانية هذا الشهر في أعقاب إطلاق الحرس الثوري الإيراني عدداً من الصواريخ على قاعدتين عسكريتين بالعراق بحجة الثأر لقيام الولايات المتحدة باغتيال قاسم سليماني، عدد من الدلالات السلبية للنظام الإيراني داخلياً.
فقد خرجت تظاهرات الطلاب في طهران أمام جامعات أمير كبير وشريف للتكنولوجيا، وأصفهان للتكنولوجيا، وذلك في أعقاب اعتراف الحرس الثوري بمسؤوليته عن إسقاط الطائرة عن طريق الخطأ أثناء الهجوم الصاروخي، لكن بعد إنكار الأمر فترة.
خرجت التظاهرات داعية إلى رحيل المرشد الإيراني، والتنديد بمسؤولية الحرس الثوري، وهنا نود تناول تأثير تلك التظاهرات على أمرين، الأول، درجة التماسك الداخلي في إيران بين المواطنين والنظام، والأمر الثاني هل فعلاً يمكن تنحية أو عزل المرشد الإيراني، باعتباره رأس النظام والمسؤول عن قرارات السياسة الخارجية؟ فهل يمكن مساءلته ومحاسبته لا سيما أن النظام الإيراني يدعى أنه نظام ديموقراطي؟
أولا: التماسك الداخلي
حرص النظام الإيراني على توظيف الاستحقاقات الانتخابية ومشاركة المواطنين بها للتدليل على قوته وتماسكه، وأن له شرعية بدليل مشاركة المواطنين في الفعاليات السياسية، لكن إذا كان يمكن اعتبار مشهد مشاركة المواطنين في الانتخابات دليلاً على شرعية النظام وتماسكه الداخلي، فيمكن كذلك أن نعتبر التظاهرات والاحتجاجات مؤشراً آخر ينزع تلك الشرعية والشعبية، لا سيما أنها لم تعد نتيجة للاعتراض على سياسات داخلية، بل أصبحت أيضاً رافضة السياسة الخارجية.
آخر تلك التطورات التظاهرات التي اندلعت هذا الشهر، بدأ الأمر بمحاولة النظام استغلال مشهد دفن اللواء قاسم سليماني الذي سقط أثناء تشييع جثمانه نحو 50 شخصاً، في تبيان شعبية الرجل للعالم، وكأن سقوط القتلى رد على الولايات المتحدة وإظهار التأييد الشعبي لسليماني وسياسته الخارجية، لكن سرعان ما أدى اعتراف النظام بمسؤوليته عن حادث الطائرة الأوكرانية إلى خروج التظاهرات المطالبة برحيل المرشد الإيراني ووصم الحرس الثوري بأنه عار على إيران.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى الرغم من قمع الاحتجاجات على النحو الذي اعتاده النظام الإيراني خرجت التظاهرات الطلابية في أنحاء عدة رغم قتل الكثيرين أثناء تظاهرات نوفمبر (تشرين الثاني) 2019 التي وُصفت بأنها الأكبر حجماً، وسقط فيها نحو 1500 قتيل.
هذا المشهد أرسل رسائل عكس ما أراده النظام من توظيف تشييع سليماني، فقد نزعت تلك التظاهرات الشرعية والقبول الممنوحة من المواطنين للسياسة الخارجية لبلدانهم، فإحدى الركائز الأساسية للسياسة الخارجية لأي دولة هي الوحدة والتماسك الداخلي، إلا أن ردة فعل الموطنين الإيرانيين أثبتت العكس، وذلك لارتفاع التكلفة الاقتصادية والسياسية للسياسة الخارجية المسؤول عنها المرشد الإيراني والحرس الثوري التي يتحمل عبئها النهائي المواطن، وذلك بعد الإعلان عن رفع موارد فيلق القدس في أعقاب مقتل سليماني أو تعويضات ضحايا الطائرة التي سيتحمّلها النظام الذي لم يقر بالمسؤولية عنها منذ البداية، وأنكرها، تتزامن تلك التوترات مع اعتماد الميزانية الجديدة على بند زيادة الضرائب ورفع أسعار البنزين.
الأمر الآخر في دلالات حادث الطائرة هو غياب التنسيق فيما بين مؤسسات النظام، ففي بداية الأزمة أنكرت الحكومة واعتبرت الحادث عيباً تقنياً بالطائرة، ومع المعلومات والتقارير الاستخباراتية لكل من أوكرانيا وكندا حول شبهة وقوعها بصاروخ أقر بيان القوات المسلحة الإيرانية بمسؤوليته عن الحادث، ما مثّل إحراجاً للنظام بأكمله الذي أنكر بداية، كما اعتبر دليل ضعف كفاءة إدارة الحرس الثوري لمنظومة الصواريخ لديه، فضلاً عن التنسيق والتخطيط مسبقاً لإغلاق المجال الجوي أمام الطيران المدني، وقد استتبع هذا الأمر تراشقاً بين الحرس الثوري الذي أعلن أنه أخبر مؤسسة الرئاسة منذ البداية، ثم مطالبة الرئيس الإيراني بمحاسبة المسؤول عن الحادث، لكنه تراجع مؤخراً ليؤكد أهمية القوات المسلحة في حفظ أمن البلاد.
ثانيا: هل يمكن تنحية المرشد الإيراني وعزله؟
حرص النظام الإيراني منذ تأسيسه على الترويج كونه نظاماً سياسياً يستند إلى ديموقراطية دينية يتم اختيار قياداتها عبر الاستحقاقات الانتخابية، ومنها رأس النظام وهو المرشد الأعلى بشكل غير مباشر عبر انتخاب المؤسسات المنوط بها اختياره.
وهنا يجب الوقوف على آلية اختيار المرشد في النظام الإيراني وصلاحياته لمعرفة حدود إمكانية عزله ومدى ديموقراطية النظام.
سبب إثارة هذا الأمر هو رفع التظاهرات الأخيرة الهتافات المنادية برحيل المرشد، هذه ليست المرة الأولى التي تندد التظاهرات بشخصه، فقد شهد عام 2017 هتافات معادية له، هذه المرة طالبت برحيله. للأمر أهميته وذلك في ظل محورية المنصب في النظام السياسي الإيراني القائم على ولاية الفقيه. لذا ستتناول السطور المقبلة آلية اختيار المرشد الإيراني وعزله وحدود صلاحياته.
اختيار المرشد
يتم اختيار المرشد الأعلى من خلال مجلس خبراء القيادة حسبما أشارت المادة 107 من الدستور، حيث نصت على أن "توكل مهمة تعيين القائد إلى الخبراء المنتخبين من الجامعين للشرائط المذكورة في المادتين الخامسة، والتاسعة بعد المئة، ومتى ما شخصوا فرداً منه باعتباره الأعلم بالأحكام والموضوعات الفقهية، أو المسائل السياسية والاجتماعية، أو حيازته تأييد الرأي العام، أو تمتعه بشكل بارز بإحدى الصفات المذكورة في المادة التاسعة بعد المئة انتخبوه للقيادة، وإلا فإنهم ينتخبون أحدهم ويعلنونه قائداً، ويتمتع القائد المنتخب بولاية الأمر، ويتحمل كل المسؤوليات الناشئة عن ذلك". إذن تؤول إليه مهمة تعيين وعزل المرشد.
من جانب آخر يلاحظ أن سيطرة المرشد تمتد إلى ثاني أقوى مؤسسة في إيران، وهي مجلس صيانة الدستور، وهي هيئة مكونة ﻣﻦ 12 ﻋضواً (يعين المرشد الأعلى نصف أعضائه، فيما يعين رئيس السلطة القضائية نصفها الآخر، علماً بأن رئيس السلطة القضائية يرشحه رئيس الجمهورية، ويصادق على تعيينه المرشد الأعلى). وإحدى المهام المنوطة بهذه الهيئة سلطة فحص وتقييم المرشحين لانتخابات البرلمان والرئاسة، والمرشحين لمجلس الخبراء المنوط به تعيين وعزل المرشد الإيراني.
صلاحيات المرشد
وفقاً للدستور فسلطة المرشد الأعلى بعيدة المدى، وتمتد لكل مستوى تقريباً في مستويات عملية صنع القرار ومؤسساته، ويحدّد الدستور في المادة (110) مسؤوليات وصلاحيات المرشد الأعلى تتمثل في تنصيب وعزل وقبول استقالة كل من: فقهاء مجلس صيانة الدستور، رئيس السلطة القضائية، ورئيس مؤسسة الإذاعة والتلفزيون في جمهورية إيران الإسلامية، ورئيس أركان القيادة المشترك، والقائد العام لقوات حرس الثورة الإيرانية، والقيادات العليا للقوات المسلحة وقوى الأمن الداخلي، وتنظيم العلاقة بين السلطات الثلاث، والمصادقة على تنصيب رئيس الجمهورية بعد انتخابه من قبل الشعب، وتحديد السياسات العامة لنظام جمهورية إيران الإسلامية بعد التشاور مع مجمع تشخيص مصلحة النظام، والإشراف على تنفيذ السياسات العامة، وإصدار الأمر بالاستفتاء العام، وقيادة القوات المسلحة، وإعلان الحرب والسلام والنفير العام، وعزل رئيس الجمهورية، والعفو العام وإلغاء عقوبات الإعدام، ويتولى المرشد الأعلى اتخاذ القرارات النهائية بشأن التوجهات الأساسية للسياسة للخارجية الإيرانية وقضاياها الرئيسة.
ويلاحظ أنه نظراً لتدني الرتبة الدينية للمرشد الحالي على خامنئي عن سلفه الخميني وبين كبار رجال الدين، فقد قام بتوطيد مركزه وسلطته عبر إنشاء شبكة من العلاقات الشخصية، فنجح خامنئي في إنشاء شبكة من الممثلين له في كل فرع من فروع الحكومة، وجعل دوائر السلطة المرتبطة به أكثر قوة، مما جعله يمتلك السيطرة على كل قضية يتدخل فيها. فتكونت قاعدة دعم مستقلة تتمركز في آلاف الوظائف الاستراتيجية في كل وزارة ومؤسسة حكومية مهمة، بما في ذلك المؤسسة الدينية والجيش. وهي اليوم تشكل شبكة مصالح مكرسة لإنفاذ سلطة خامنئي وهي أكثر قوة من الموظفين الحكوميين الآخرين، لأن لديهم سلطة التدخل في أي قضية.
ومن جانب آخر تتجلى قوة وسلطة خامنئي عبر سيطرته على مفاتيح الاقتصاد غير الرسمي الذي تسيطر عليه الدولة والمؤسسات القريبة من خامنئي الذي لديه صلاحيات تحديد كيفية إنفاق عائدات النفط. كما لديه سلطة على البونياد في البلاد، وهي المؤسسات الخيرية التي تتمتع بأصول تقدر قيمتها بمليارات الدولارات، إضافة إلى ملايين أخرى يتلقاها مكتبه تتعلق بالتبرعات الخيرية المقدمة إلى الأماكن المقدسة في إيران، هنا تتضح العلاقة الوطيدة بين خامنئي وقادة الحرس الثوري ذوي النفوذ الاقتصادي، ورجال الدين المتشددين.
مما سبق يتضح أن الجهة المسؤولة عن تعيين وعزل المرشد يتم اختيار أعضائها من خلال مجلس صيانة الدستور المعين نصف أعضائه ورئيسه من خلال المرشد، بمعنى آخر إن ما يؤسسه النظام الإيراني باعتباره كوابح لتقييد سلطة المرشد العام وإضفاء صفة ديموقراطية على النظام يتم تقييدها بصلاحيات أخرى ممنوحة له بواقع الدستور.
وفي ظل تلك التشابكات في الاختصاصات والعلاقات والمصالح بين المؤسسات المختلفة لن تقوم أي جهة بعزل المرشد، ولا الاستجابة للتظاهرات، لكن أهمية التظاهرات التي وإن تم احتواؤها عبر الأداة القمعية، أنها لن تختفي وستتجدد من حين لآخر طالما أن أسباب اندلاعها ما زالت قائمة داخلياً وخارجياً. وربما يكون لتراكم هذا الحراك دور في مزيد من إضعاف تماسك وشرعية النظام.