Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الحرب الاقتصادية الباردة

مواطنون من ألمانيا الشرقية يتسلقون سور برلين عند بوابة براندبرج بعد إعلان الحدود الألمانية الشرقية ، 10 نوفمبر / تشرين الثاني 1989. (رويترز)

عرف العالم مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وبداية اختلاف النظم الاجتماعية بين المعسكرين الكبيرين، الذي قادت أحدهما الولايات المتحدة الأميركية، وهو المعسكر الرأسمالي، وقاد الاتحاد السوفييتي السابق المعسكر الشيوعي على الجانب الآخر، فدخل العالم في مرحلة الحرب الباردة التي رأى فيها كثير من خبراء العلاقات الدولية بديلاً للحرب الحقيقية في ميادين القتال، وأن ما يجري هو تعبير عن لغة عصرية جديدة لم تكن معروفة من قبل، وتوقع الكثيرون أن تكون تلك الحرب الباردة هي أحد أسباب انتفاء حرب عالمية ثالثة اكتفاءً بالحروب الإقليمية في الشرق الأوسط وإفريقيا، وفي منطقة البلقان وشرق آسيا، وفي الصراع العربي الإسرائيلي على الحافة الغربية من تلك القارة الكبرى، فضلاً عما يجري داخلياً في عدد من دول أميركا اللاتينية، وبذلك تحدث كثير من المحللين عن المواجهات المحلية والصراعات الداخلية والحروب الموضعية في محاولة لترحيل الخطر الكبير الذي يمكن أن ينجم عن حرب عالمية جديدة في ظل التطورات الهائلة في ميادين التسليح خصوصاً في المجالين النووي والكيماوي.

 وعندما وضعت الحرب الباردة أوزارها نسبياً، واتجه العالم إلى حالة من التوافق والتهدئة والتقارب بين الشرق والغرب على نحو انتهى بسقوط "حائط برلين"، وانتهاء الاتحاد السوفييتي، وتهاوي منظومة الدول الشيوعية أصبحنا نرى أننا أمام عالم مختلف، وخريطة سياسية جديدة يحتدم فيها الصراع حول الجانب الاقتصادي، وتحت غطاء ثقافي، يستخدم موضوع اختلاف الهوية كبديل لما يمكن أن يؤدي إليه الطريق إلى المستقبل، وبقيت الصين وربما كوريا الشمالية أيضاً كقلاع باقية للخلاف العقائدي بين الشرق والغرب؛ بين الماركسية والرأسمالية.

 والواقع أن التجربة الصينية تحتل اهتماماً خاصاً لدينا؛ لأنها قبلت التحول الداخلي اقتصادياً ورفضته سياسياً، وفضلت بناء دولة متقدمة اقتصادياً وتكنولوجياً بديلاً لانفتاح سياسي مفاجئ، أو رغبة طارئة لمجاراة التيار الليبرالي في النظم السياسية المعاصرة فلم تفعل "بكين" ما أقدمت عليه موسكو من انفتاح سياسي سريع دون أن يصاحبه تقدم اقتصادي ملموس.

 وبهذه المناسبة فأتذكر أنني حضرت لقاءً بين الرئيس المصري والرئيس الصيني الأسبق وعندما تحدث رئيس مصر - الذي كان يحتفظ بعلاقات طيبة مع القادة الصينيين - عن ملاحظات الولايات المتحدة الأميركية حول حقوق الإنسان في الصين، وكنا في ذلك الوقت نعيش فترة يمكن تسميتها (في أعقاب حادث الميدان السماوي)، وهنا رد الرئيس الصيني العجوز من خلال المترجم الدقيق للغاية قائلاً: إن على الأميركان أن يصمتوا تماماً عن الإشارة إلى الصين وحقوق الإنسان فيها وأن يكفوا عن هذه الدعاية الغربية المستهلكة.

 وأضاف: إننا لو تراخينا في بلادنا ذات المليار ونصف المليار نسمة، فإننا يمكن أن ندفع بمائتي مليون لاجئ على حدودنا قد يحركون الخريطة الآسيوية برمتها، بل ويهددون الأطراف الجنوبية والشرقية من أوروبا الحالية، فنحن أدرى بعوامل الاستقرار في بلادنا، ولا ننتظر دروساً من أحد.

 ولقد كانت عبارات الرئيس الصيني تخترق أذني في حدة، أدركت معها أن التغيير السياسي في الصين - مثلما هو التغيير الثقافي لديهم - أمر يحتاج إلى أحقاب طويلة لذلك لم يكن غريباً أن تقود الصين حالياً الطرف الآخر في مواجهة الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها الغربيين في إطار حرب باردة اقتصادياً نشعر بها بشكل متزايد في السنوات الأخيرة، ويشتد أوار هذه الحرب من خلال منظمة التجارة العالمية وأيضاً التجارة البينية حيث غزت المنتجات الصينية الأسواق الأميركية بشكل غير مسبوق فضلاً عن حرب العملة المتبادلة بين الصين والدول الأخرى وفي مقدمتها الحرب على الدولار الأميركي بأرقام فلكية تعطي إحساساً بأننا في حرب عالمية اقتصادية يمضي فيها كل طرف دون أن يتحدث عنها، ولعلي أسجل هنا الملاحظات التالية:

أولاً: إن الولايات المتحدة الأميركية التي تبدي انزعاجاً ظاهرياً من الحرب الباردة اقتصادياً لديها قناعة داخلية بأنه لا مبرر للانزعاج لأن ديونها الخارجية والداخلية بالدولار وهو عملتها الأصلية وبالتالي فإن سياسة (الإصدار الجديد) يمكن أن تخرج بها من أي أزمة طارئة ليتعافى اقتصادها ولو ظاهرياً.

ثانياً: إن الصين على الجانب الآخر تشعر أن مواردها البشرية الهائلة تعطيها ميزة نسبية كبرى لا يكاد يقترب منها - ولو بمعدل أقل – إلا دولة مثل الهند والفارق بين الصناعتين الهندية والصينية ملموس في أسواق الاستهلاك حول العالم، كذلك فإن الصين ترى أن رصيدها البشري يمثل ميزة نسبية كبرى لها على نحو يعطيها ثقة متزايدة في أية مواجهة اقتصادية قادمة إذ إن مليار ونصف المليار نسمة يقومون بدور هائل في دفع الاقتصاد العالمي نحو اتجاهات مواتية لدولة الصين ومستقبلها الواعد.

ثالثاً: تحدث كثير من الإستراتيجيين عن انتقال بؤر الصراع العالمي من منطقة إلى أخرى، فهم يرون أن إقليم بحر الصين هو مركز الصراع الذي انتقل إليه من الشرق الأوسط ووسط آسيا بعد أن أطلقت واشنطن فقاعات للتهدئة والتخدير مثل (صفقة القرن) وغيرها من المفردات الجديدة للصراع العربي الإسرائيلي، ولا شك أن ما يجري في منطقة بحر الصين يثير مخاوف لدى أطراف عديدة وهي ليست الصين والكوريتين وحدها أو اليابان والولايات المتحدة الأميركية دون غيرهما، بل إن الخشية الحقيقية تأتي من إمكانية تأثير ذلك الصراع الإقليمي على التجارة الدولية ومنافذ الصين الخارجية وتطلعاتها للسيطرة الآسيوية دون الهيمنة العالمية التي يرفضونها في كل أحاديثهم الرسمية قائلين إن ذلك ليس من أهداف الصين في المستقبل.

رابعاً: إن الجيش الصيني يمثل كتلة بشرية هائلة، بل إنني أتذكر أنني حضرت عرضاً عسكرياً في إحدى المناسبات بمدينة بكين وذلك لمدة ساعتين متصلتين لم يتوقف خلالهما طابور العرض، وعندما سألت: هل هذا هو الجيش الصيني كله؟ قيل لي: لا، إنهم فقط قادة الفرق والألوية والكتائب أما الجنود العاديون فإنهم لو مروا من أمامنا فقد يستغرق الأمر يوماً كاملاً.

خامساً: إن سياسة الإغراق التي تتبعها دولة الصين في بعض السلع الإستراتيجية أو الصناعات الاستهلاكية تعطيها القدرة على التأثير فيما يدور في العالم المعاصر من تحالفات دولية وصراعات إقليمية، وتحاول الصين رصد المواقع الإستراتيجية في القارات المختلفة وخصوصاً آسيا وإفريقيا لتضع لذاتها موضع قدم في كل منها بحيث تصبح محاطة بالقواعد والارتباطات التي تجعل الوجود الصيني مؤثراً وملحوظاً مثلما هو الوضع في القارة الإفريقية، ولازلت أتذكر أنني زرت منطقة دول شرق إفريقيا حاملاً للحقيبة الدبلوماسية في مستهل حياتي الوظيفية - وكان ذلك في نهاية ستينيات القرن الماضي - وأدهشني ما رأيت من كثافة الوجود الصيني في دولة "تنزانيا" – حينذاك - حتى أن رداء رئيسها "جوليوس نيريري" كان على الطراز الصيني أيضاً، كما أن الصين ترصد بعين مفتوحة ما يجري مع كوريا الشمالية والعلاقة بين الكوريتين واليابان كطرف في الأزمة الكورية منذ الحرب العالمية الثانية.

     إننا نؤكد بثقة أن الحرب الاقتصادية الباردة عالمياً أصبحت مؤثرة، بل وملموسة لكل من يحاول رصد ما يجري مع الربط بين التطورات الاقتصادية والاختلافات السياسية والانتماءات الثقافية.. إننا أمام عالم مختلف بصورة تدعو إلى التأمل وتستحق الدراسة.

المزيد من آراء