تنتظر ديانا، وهي أمّ لثلاثة أطفال، في ظلّ شجرة عيد الميلاد التي نصبتها الكنيسة الكاثوليكية الوحيدة في غزّة، أخباراً عمّا إذا كانت السلطات الإسرائيلية ستسمح لها برؤية أولادها أم لا.
فقد تمّ فصلها عن إبنها جودت منذ نحو أربعة أعوام، حين انتقل إلى الضفة الغربية المحتلة للعثور على عمل، بعد ارتفاع معدّل البطالة بين الشباب الفلسطيني في غزّة إلى نحو 70 في المئة. وكذلك لم ترَ ديانا إبنتها الصغرى سارة منذ أن بدأت تلقّي دراستها في الأردن قبل نحو عامين.
وقد مُنعت هذه السيّدة في الواقع، خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، من العبور إلى إسرائيل لإجراء فحوصاتٍ منتظمة من أجل التأكد من شفائها من مرض السرطان. وكانت إبنتها الكبرى إيلين البالغة من العمر 19عاماً، تجلس إلى جانبها منتظرةً هي الأخرى، وهي تحرّك بعصبية عقداً فيه صليب. وهي مخطوبة لرجل مسيحي يعيش في الضفة الغربية.
وكان الشاب والشابّة قد تعارفا عبر الإنترنت في العام 2018، لكن لم يلتقِ أحدهما الآخر إلا مرّةً واحدة، وكان ذلك في الأردن عندما سُمح لإيلين بحضور حدثٍ كشفي للفتيات.
عيدا الميلاد والفصح هما من المناسبات السنوية القليلة، التي يمكن للسكّان المسيحيّين في قطاع غزّة، المتناقص عددهم في اضطراد، التقدّم بطلبٍ للحصول على تصريح بمغادرة هذا الجيب الفلسطيني البالغ طوله قرابة 56 كيلومترا.
ومن المفترض أن تسمح الأذونات الخاصّة لنحو ألف شخصٍ من مسيحيّي غزّة، بالتوجّه إلى بيت لحم أو القدس لممارسة طقوس عبادتهم، أو رؤية أفراد عائلاتهم في أنحاء أخرى من الأراضي الفلسطينية المحتلة، أو السفر لمدة قصيرة إلى الخارج. لكن الغالبية الساحقة من تلك العائلات لا تُزود بالوثائق اللازمة للعبور.
وفي مقابلة مقتضبة، كشف أحد المسؤولين الكنيسيّين أن المسيحيّين الذين أُجيز لهم الانتقال هم فقط 192 شخصاً من أصل 950 تقدّموا بطلبات للحصول على تصاريح. ولم تكن ديانا وابنتها من بين القلّة المحظوظة.
وتقول المرأة الناجية من سرطان الثدي التي تجهد في إظهار وجه شجاع: "أنا في الخامسة والأربعين من عمري، لكن قلبي يشعرني بأنني في عمر التسعين. عائلتنا منفصلة بسبب الاحتلال، ماذا فعلنا حتى نستحقّ هذا؟" وتضيف "إنهم يتذرّعون دائماً بالأسباب أمنية. لكننا مسيحيّون ولا أسلحة لدينا، وليست لنا علاقة بأي جماعة مسلّحة".
أما الإبنة إيلين التي تبدو علامات الكآبة واضحة على وجهها، فتعبّر عن خشيتها من ألا تتمكّن أبداً من الزواج. وتقول: "أشعر بألم كلّ الوقت لأنني وخطيبي لا يمكننا أن نتشارك اللحظات معا. أريد فقط أن أعيش معه. وكلّ ما نفعله هو الحلم بالحصول على تصاريح".
وكان قطاع غزّة عُزل عن العالم منذ أن أقفلت إسرائيل ومصر الحدود، إثر سيطرة حركة "حماس" بالقوة على القطاع في العام 2007. وثم فصل جغرافي بين غزّة والضفّة الغربية، حيث تقع مدينة بيت لحم، وبالتالي فإن العبور من منطقة إلى أخرى يقتضي إذناً يصعب الحصول عليه من الإسرائيليّين الذين يتّهمون "حماس" بإساءة استخدام نظام التصاريح من خلال التخطيط لشنّ هجمات ضدّ إسرائيليّين.
هذا العام، تراجعت السلطات الإسرائيلية إلى حدّ كبير في مسالة منح تصاريح عيد الميلاد، إلى درجة أن مسيحيّين أخبروا صحيفة "اندبندنت" بأنهم يشعرون بأنهم مجرّد أداةً يتجاذبها الأطراف. وكان "مكتب تنسيق الأنشطة الحكومية في المناطق" وهي الهيئة الإسرائيلية التي تتعامل مع التصاريح، قد أعلنت بدايةً في مطلع شهر ديسمبر (كانون الأول) أنها لن تمنح أي أذونات لعطلة هذه السنة.
لكن المكتب أصدر فجأةً في عطلة نهاية الأسبوع 192 إذن عبور. ومع ذلك، قالت العائلات إن الكثير من تلك التصريحات كان عشوائياً بحيث تمّت الموافقة على عبور الزوج لكن من دون الزوجة، أو حاز إذن العبور الأطفال من دون الوالدين.
وبعدها أعلن "مكتب تنسيق الأنشطة الحكومية في المناطق"على صفحته في "فيسبوك" في وقتٍ متأخّر يوم الأحد، أنه في انتظار تقييمات الأمن، سينظر في جميع التصاريح "تقديراً لعطلة عيد الميلاد"، لكنه لم يعطِ مزيداً من المعلومات.
ولا تزال ديانا غير متفائلة، وتقول: "إن ما يحدث يبدو كأنه عقاب جماعي. فالأمر عشوائي للغاية بحيث أن الأطفال الصغار وأحياناً الرضّع منهم يحصلون على إذن، من دون أمّهاتهم".
وتشير جماعات حقوقية إسرائيلية إلى أنه على مدى الأعوام القليلة الماضية، أصبح من الصعب على جميع سكان غزّة سواء كانوا مسلمين أو مسيحيّين، الحصول على تصريح بمغادرة القطاع. وتوضح أن هذه الخطوة هي متعمّدة من جانب السلطات الإسرائيلية لتقسيم الأراضي الفلسطينية، وبالتالي التقليل من فرص قيام دولة فلسطينية مستقلّة في المستقبل.
وتؤكّد ميريام مرمور الناشطة في منظّمة "غيشا"، وهي منظّمة إسرائيلية غير حكومية وغير ربحية تعمل في مجال دعم حرية الحركة للفلسطينيّين، أن السلطات الإسرائيلية تركت إلى اللحظة الأخيرة موضوع البتّ بأذونات عيد الميلاد، واصفةً خطوتها بأنها "ارتباك من خلال التصميم".
وتضيف: "كما رأينا أخيرا، تقوم إسرائيل بشكل متزايد باتّخاذ إجراءاتٍ صارمة تقيد حركة التنقّل ما بين غزّة والضفّة الغربية كجزءٍ من سياسة الفصل بين المنطقتين. والأهداف هي بطبيعتها سياسية". وتشير إلى أن السلطات الإسرائيلية "تستخدم العنف البيروقراطي لخفض الحركة والحرّيات ما بين المنطقتين إلى أدنى حدّ ممكن".
وكان "مكتب تنسيق الأنشطة الحكومية الإسرائيلية في المناطق" قد حاول أيضاً حظر التصاريح للمسيحيّين الفلسطينيّين في عيد الفصح الماضي، لكنه منح قرابة 300 إذن في نهاية المطاف. وتؤكّد مرمور إن "الأمر يزداد سوءاً كلّ سنة".
وفي قطاع غزّة تواصل السلطات الكنسيّة جهودها لرفع الروح المعنوية لدى المسيحيّين. ويقول الأب غابرييل رومانيلي البرازيلي، وهو كاهن رعية الكنيسة الكاثوليكية في غزّة، إن "عيد الميلاد هو صنو بيت لحم، كما أن عيد الفصح يعني القدس. وثمة كثير من العائلات المشتّتة بين قطاع غزّة والضفّة الغربية. إن الشعور هنا هو شعور بالحزن".
ويضيف: "إننا نصلّي من أجل السلام والعدالة. نحاول التخطيط لخدمة الكنيسة في يوم عيد الميلاد، وجعل الرعية تستمتع بألعاب مرحة مثل البينغو". ويلفت إلى أن الظروف الصعبة في غزّة، تسبّبت حتى الآن في هجرةٍ جماعية للمسيحيّين من القطاع، ولا سيما منهم الشباب.
ويشير إلى أنه "منذ 15 عاماً، كان عدد المسيحين في غزة يبلغ 3 آلاف و500 مسيحي، والآن لم يتبقّ منهم سوى ألف شخص. ونخشى أن يغادر جميع المتبقّين".
مينا (ليس إسمه الحقيقي) هو شاب مسيحي ناشط من غزّة، غادر إلى مدينة أريحا في الضفة الغربية في عيد الميلاد الماضي. واستخدم كما غيره من الشبّان المسيحيّين في القطاع، تصريحاً موقّتاً خاصّاً بعيد الميلاد لمغادرة غزّة نهائياً.
ويوضح أسبابه قائلاً "لم أكن أرغب في مغادرة غزّة، لكن لم يكن لديّ أي خيار بسبب عدم توافر فرص العمل والحياة هناك. فالإسرائيليّون يعتبرون أن بقائي في الضفّة الغربية هو غير قانوني لأن التصريح المعطى لي يشترط عودتي إلى غزّة، لكن كيف يُفترض بي أن أواصل العيش هناك؟"
من الصعب أن تكون مسيحياً في غزّة المدينة التي تسيطر عليها إلى حدّ كبير جماعات إسلامية مثل حركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي" الفلسطينيّتين. وعلى الرغم من أن المسيحيّين في القطاع لا يواجهون اضطهاداً كما في مجتمعات دول أخرى مثل مصر، إلا أن ممارسة الديانة المسيحية بشكل علني يمكن أن تكون من المحرّمات في مجتمع غزّة المحافظ.
وقد تحدّثت فتاة مسيحيّة من غزّة، طلبت عدم الكشف عن هويتها، عن مضايقاتٍ تتعرّض لها من شبان مسلمين إما لوضعها صليباً حول عنقها، أو لعدم تغطية شعرها بحجاب إسلامي. وتقول هنا ماهر، إبنة الـ 40 عاماً التي تعمل في الكنيسة المعمدانية في غزّة، إن من الصعب على المسيحيّين تأمين عمل أو تولّي مناصب سياسية في السلطة التي تهيمن عليها حركة "حماس"، في حين أن خيارات الزواج لديهم محدودة للغاية". وتضيف: "إن الوضع بالنسبة إلى جميع سكان غزّة هو صعب، لكننا كأقلية، قد يكون الأمر بالنسبة إلينا أكثر صعوبة".
أما الصور المتبقّية منذ العام 1998 على جدران الكنيسة الأرثوذكسية التي تظهر احتفالات موكب "سانتا كلوز" وعروضاً كشفية مسيحية مرتبطة بعيد الميلاد في وسط غزّة، فقد أصبحت من الماضي، بحيث أن هذه الاحتفالات لم تعد ممكنةً الآن.
ويستذكر سكّان مسيحيّون من الكبار في السنّ الأيام التي كانوا ينصبون فيها أشجار عيد الميلاد في الساحة الرئيسية لمدينة غزّة. وكيف كانوا عشية عيد الميلاد، يستخدمون سيّاراتهم للتوجّه إلى بيت لحم وقطع المسافة التي تتطلّب نحو ساعةٍ ونصف الساعة، من أجل حضور قدّاس العيد. لكن هذه كلّها أصبحت ذكرياتٍ من الماضي.
ويقول كميل آيات المتحدّث بإسم الكنيسة الأرثوذكسية في غزّة " لم تحصل زوجتي على تصريح منذ نحو 6 أعوام، وهي لديها عائلة في بيت لحم. فقد أصبح وضع أذونات العبور الآن أسوأ ممّا كان عليه من قبل، إن من حيث الأرقام الممنوحة أو لجهة التأخّر في إعطائها. ونحن صدقاً لا نعرف السبب".
© The Independent