أطلق المشير خليفة حفتر، منذ أيامٍ قليلة، عدداً من التصريحات صنعت توتراً بالدول المعنية بالملف الليبي، سواء على مستوى الإقليم أو الداخل الليبي المُنقسم شرقاً وغرباً منذ العام 2014. قال قائد الجيش الوطني الليبي، "دقَّت ساعة الصفر"، "وبدأت المعركة الحاسمة والتقدم نحو العاصمة طرابلس"، وهي ليست المرة (الأولى) التي يُطلق فيها حفتر تصريحات حول الحسم العسكري لمعركة طرابلس، لكنها في واقع الأمر (الرابعة).
سجال عسكري دون انتصار ملموس
التصريحُ يأتي هذه المرة في ظل عددٍ من التحوّلات وإعادة إقامة التحالفات إقليمياً ودولياً، وهو ما أدى إلى إعادة صياغة المواقف السياسية إقليمياً ودولياً على مستويات متنوِّعة. تأزَّم الوضع الليبي مرة أخرى بعد فترة من الركود داخلياً وخارجياً، وجاءت بعض الأحداث والاتفاقات السياسية بما قد يصنع أو يقدم جديداً في المشهد الليبي.
في الرابع من أبريل (نيسان) العام 2019 أعلن المشير خليفة حفتر بدء عملية (بركان الغضب)، التي من المفترض أن تحرر العاصمة الليبية طرابلس من سلطة الميليشيات غير الشرعية، وكما ذكرنا من قبل، لم تكن تلك المحاولة الأولى لقائد الجيش الوطني الليبي لدخول طرابلس، لكن سياق الأحداث صنع تطورات جديدة على كل جانب، وبات هناك ربطٌ بين الخطوات السياسية والتقدُّم العسكري بشكل غير مسبوق، وهو ما قد يفسّر السجال العسكري منذ أبريل (نيسان) الماضي، دون توصّل أي طرف من المتصارعين إلى "انتصار ملموس".
تحولات في التحالفات الإقليمية
ربما تتجسّد نقاط البداية في إعادة بناء التحالفات الإقليمية حول الملف الليبي بشرقه وغربه. لدينا في ليبيا طرفان رئيسان في الصراع: الجانب الشرقي والجانب الغربي.
مؤخراً، وفي خلال الأشهر القليلة الماضية حدث تحوّل بمجمل التحالفات إقليمياً ودولياً، بات هناك محور (إقليمي – دولي) يسعى إلى دعم الشرق الليبي والجيش الوطني الليبي بقيادة خليفة حفتر خلال ثنايا الصراع. كل من مصر، والإمارات، وفرنسا، وروسيا كانوا من داعمي الطرف الذي يمثله حفتر.
على الجانب الآخر، تلاقت آراء تركيا وقطر وإيطاليا لدعم الأطراف في غرب ليبيا بقيادة فايز السراج وبدعم من منظمة الأمم المتحدة، هذه التحالفات تعد محاور جديدة في سياق الصراع، وهي ما من شأنها تغيير المعادلات السياسية بين الأطراف بالداخل الليبي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تراجع الأمم المتحدة والتدخل الأجنبي
البعثة الأممية بقيادة غسان سلامة في ليبيا بدت مؤخراً أنها في "حالة من انعدام اليقين" حول موقفها، ومن التراجع في قدرتها على التأثير في الداخل الليبي.
عندما بدأت المنظمة عملها الأممي في ليبيا كان الهدف هو التواصل مع كل الأطراف، لكن الأداء الآن صار منحازاً أكثر إلى (اتفاق الصخيرات) بإرساء بنوده، وهو ما لا يراعي الواقع السياسي الموجود اليوم في ليبيا، وهو الذي ابتعد كثيراً عن (اتفاق الصخيرات) كخلفية للتسوية السياسية، وانعدمت فرص الإجماع بين الأطراف على تعديله.
تراجع دور الأمم المتحدة يفتح الباب لمزيد من التدخل الأجنبي في ليبيا على مستويات متعددة، وهو ما بات واقعاً في الداخل الليبي من قِبل عددٍ من الدول.
هذه الحقيقة تطرح سؤالين مهمين: أولاً، هل الأطراف في ليبيا لديها إرادة سياسية لعملية من التسوية أم أن لها مصالح في استمرار حالة الصراع؟ وثانياً، هل تراجع دور الأمم المتحدة يعني أن هناك تحالفات دولية جديدة، مثل آلية دول الجوار أو إنشاء محاور بين عدد من الدول للوساطة، أم أن المجتمع الدولي اقتنع بالحسم العسكري في الملف الليبي؟
المتحدث الرسمي باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري، صرح في الـ13 من ديسمبر (كانون الأول) بأن الإصلاح والتغيير "لا يأتيان إلا من خلال الرجال الموجودين على الأرض"، ويحققون انتصارات عسكرية، وهو ما يعني أن شرق ليبيا لم يعد مهتماً بعملية التسوية السياسية بالأساس.
الانتهازية التركية والخيارات المصرية
وتظل أزمة توقيع مذكرات التفاهم مع تركيا تُلقي بظلالها على ليبيا في الأيام الأخيرة. ما فعلته تركيا من خلال توقيع هذه الاتفاقات يعد تحدياً صارخاً لشرعية مجلس النواب من ناحية، وفكرة التسوية أو المصالحة من ناحية أخرى، كونها تعقد اتفاقات استراتيجية مع طرفٍ دون حتى استشارة الطرف الآخر.
وهو ما ينم عن الرغبة التركية في التمدد بالمنطقة واستخدامها مفهوم الانتهازية السياسية أو political opportunism، ويعني أيضاً أن السراج لم يعد لديه حلول سوى الاستقواء بحليف جديد لا يعبأ بالاتفاقات والشرعية الدولية. هذا بالطبع بخلاف تأثير هذه الاتفاقات الموقّعة مع تركيا على مواقف الفاعلين الإقليميين في المنطقة، وعلى رأسهم مصر.
مذكرة التعاون الأمني وفكرة أن يكون هناك وجود عسكري تركي سواء في المياه الإقليمية لليبيا أو في الداخل الليبي تؤرق مصر كثيراً، خصوصاً مع طبيعة علاقتها بتركيا منذ العام 2013، والاختلاف الشديد على طبيعة تناول ملف جماعة الإخوان وأحداث 30 يونيو (حزيران).
قامت مصر بمناورة للقوات البحرية بالبحر المتوسط في الـ13 من فبراير (شباط)، وهو ما يعد في هذا التوقيت تحديداً رسالة إلى تركيا أن هناك وجوداً قوياً للقوات المصرية على حدود مصر الغربية، ما يعقِّد المشهد أكثر.
وهنا يجب طرح سؤال: ما رد فعل مصر إذا ما وُجِدت تركيا سواء عسكرياً أو في المياه الإقليمية للتنقيب عن الغاز بالمتوسط؟ وتعمل مصر على مستويين في هذا الشق، الأول هو إظهار القوة العسكرية لقواتها البحرية، والثاني هو التواصل السياسي مع كل من قبرص، واليونان، وفرنسا لتشكيل لوبي ضد الوجود التركي في شرق المتوسط.
معركة طرابلس... هل حقاً دقت ساعة الصفر؟
ونعود في النهاية إلى السؤال الرئيس: هل حقاً بكل ما يحدث من تحوّلات في المشهد الليبي داخلياً وإقليمياً ودولياً دقت ساعة الصفر فيما يتعلق بمعركة طرابلس؟
شنَّ الجيش الوطني الليبي يوم الـ13 من فبراير (شباط) عدداً من الهجمات على مواقع عسكرية في كل من طرابلس ومصراتة، وردَّت القوى العسكرية في الغرب الليبي على الهجوم، وكالعادة يظل الإعلام الليبي إعلاماً مُسيَّساً وفقاً للطرف الذي يدعمه، فما يقوله (إعلام الشرق) مختلفٌ تماماً عمَّا يصرح به (إعلام الغرب).
لكن، في النهاية لم يحدث كثيرٌ من التغيير بالمعطيات الموجودة على الأرض بشأن السجال العسكري، توجد تحوّلات سياسية إقليمية ودولية، لكن لا توجد تحوَلات تُذكر في موازين القوى العسكرية بالداخل الليبي حتى الآن.
بين الحسم العسكري والتسوية السياسية
أغلب الظن، أن ما يحدث حالياً هو حلقة جديدة في سلسلة محاولات خليفة حفتر والجيش الوطني الليبي لدخول طرابلس، وتستمر الأزمة في غياب التفوّق العسكري لأي طرف من الأطراف.
التفاعلات الإقليمية من الممكن أن تؤدي إلى تدخلات أجنبية لقلب الموازين العسكرية، لكن يظل هذا احتمالاً ضعيفاً حتى هذه اللحظة، نظراً إلى عدم رغبة كثيرٍ من الفاعلين بالمنطقة في أن يتدخلوا في ملف قد يخلق حمام دم بشمال أفريقيا، وهو ما قاله المبعوث الأممي غسان سلامة.
سواء اتجه الصراع الليبي إلى الحسم العسكري أو إلى التسوية السياسية، وسواء دقت ساعة الصفر بالفعل أم لا، فالسياق في ليبيا سوف يتطلب كثيراً من الوقت لإنهاء حالة الانقسام.
دخول طرابلس لن يكون حلاً سحرياً لإنهاء الأزمة الليبية، بل سيكون مدخلاً لنمط جديد في السجال العسكري، وهو ما سيؤدي في النهاية إلى استمرارية الصراع.
وفي النهاية، الشعب الليبي هو من يدفع ثمن كل هذه الخلافات بين النخب السياسية والعسكرية في ليبيا، وبين الفاعليين المعنيين بالملف الليبي على المستويات الإقليمية والدولية.