Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الايزيديون ينفضون غبار الابادة الداعشية عنهم  

في اكناليش بأرمينيا، ثمة مجتمع صغير يحاول النهوض بنفسه، وقد افتتح اكبر معبد ايزيدي في العالم

إلى قرية "أكناليش" الهادئة المطلّة على بحيرةٍ تحمل اسمها نفسه في أرمينيا، تدفّقت حشودٌ غفيرة من كلّ حدبٍ وصوب للمشاركة في افتتاح معبدٍ جديد. وداخل المبنى الحجريّ الضّخم والمقبّب، وقف بشكلٍ دائري عددٌ من الموسيقيين الذين يعتمرون عمائم ويرتدون حللاً قطنية باللون العاجي. أخذ بعضهم يُرنّم الأناشيد المقدسة فيما عزف بعضهم الآخر ونقر جمع آخر على الدفّ والناي. ومن حولهم، تجمهر النّاس ليرقصوا معاً كتفاً إلى كتف.

يعرف أولئك الموسيقيون بـالقوالين، ويعملون على تلاوة الأناشيد المقدّسة المتوارثة عن الدّيانة الأيزيدية منذ الأزل. ويشكّل الأيزيديون أقلية عرقيّة دينية تتكلم اللغة الكردية وتتمركز بشكلٍ أساسيّ في شمال العراق. في 2014، ارتكب "داعش" عمليات قتل وخطف وتهجير بحقّ الآلاف منهم. ولهذا السبب، باتوا اليوم مجموعة أقلية قديمة في غاية الهشاشة والتّشرذم.

وقد يتّفق الأيزيديّون على قدم جذور ديانتهم، لكنّهم يختلفون على تفاصيل أصولها. إذ تعتبر الدّيانة الأيزيدية من الدّيانات التوحيدية التي تُقدّس في المقام الأول الشيخ الصّوفي عدي بن مسافر الذي عاش في القرن الثّاني عشر ودُفن في معبد "لاليش"، أهم مزار أيزيدي في شمال العراق. وبحسب الأكاديميين المطلّعين، ثمة روابط عدّة تُقرّب الدّيانة الأيزيدية من الدّيانات الإيرانية القديمة.

للوهلة الأولى، قد يبدو هذا الإقليم الأرميني القاحل والقليل السّكان موقعاً غير عادي لاحتضان معبد واحتفالات بتلك الضّخامة. وفي المقابل، بات الأيزيديين الأقلية الأكبر في أرمينيا التي ينتمي أكثر من 80% من سكانها إلى الدّيانة المسيحية والأصول الأرمنية. وفي التّعداد السّكاني الأخير عام 2011، قُدّر حجم المجتمع الأيزيدي في أرمينيا بحوالى 35 ألفاً. "ليس لدينا وطن يجمعنا، لكنّ تقاليدنا في مأمن هنا في أرمينيا"، يقول تيمور أكميان، قرويّ من الأقليم.

وبالعودة إلى القوالين، يُعرف أنهم لا يعيشون سوى في معقل الأيزيديين بشمال العراق. لكنّهم قدموا إلى أرمينيا من أجل المشاركة في افتتاح "قبة مير ديواني"، أكبر معبد أيزيدي في العالم وثالث معبد عصري للطائفة خارج العراق. "أتينا لنتلو الأناشيد المقدّسة ونعزف الموسيقى تكريساً للمعبد.... ليس ثمة منشدين دينيين في أرمينيا، ولهذا نحن هنا"، يُعلّق القوّال زياد.

وفقاً لتقديرات منظّمي اليوم الافتتاحي، أتى أكثر من 20 ألف امرأة ورجل من أوروبا ودول الاتحاد السّوفياتي السّابق للمشاركة في الحدث. ويُضاف إلى هؤلاء، الوفد العراقي الذي يضمّ أفراداً من المجلس الرّوحي الأيزيدي وعكسريين أيزيديين وممثّلين عن الكنسية الأرمينيّة ومسؤولين حكوميين ومحاربين قدامى في الجيش ورؤوساء منظمات أيزيدية في الولايات المتحدة وألمانيا.

وبالنّسبة إلى الزّوار القادمين من مجتمعات الشّتات الأيزيديّة في الاتّحاد السّوفياتي سابقاً، يعتبر هذا اللقاء مع القوالين العراقيين أوّلاً في نوعه منذ أجيال. ولذا، تهافتوا على مقابلتهم والتقاط الصّور الجماعية معهم طيلة صباح ذلك اليوم. ولمّا بدأت الطّقوس الاحتفالية الخاصة داخل المعبد، احتشد كثيرون لتصويرهم وتخليد الذّكرى.

لكنّ حضور المُنشدين التّقليديين لم يكن المستجدّ الوحيد في الحدث. إذ تورد ريحا وهي امرأة عجوز أيزيدية من إحدى القرى الأرمينية المجاورة، إنها "غير قادرة على العثور على منديل حريري أبيض مطرّز" كالذي تضعه امرأة عراقية بين الحضور. "أودّ منديلاً كهذا لأُزيّن به رأسي في حفلات الزّفاف"، تُعبّر ريحا متنهّدة. وخلفها مباشرةً، ينتصب المعبد الجديد المهيب الذي تعلوه ثماني قباب وحجر أبيض متألّق.

"ما الذي قد لا يُعجبك في (المعبد)؟ ألم تدخلي إليه بعد؟" تسأل ريحا التي تحرص على توخّي الحذر عند التحدّث إلى الصّحافيين، على غرار عديد من المسنين في مجتمعها المتحفّظ. يُطلّ المعبد على جبل "آرارات" عند الحدود الشرقية لأرمينيا مع تركيا الذي يعتبره [الجبل] عديد من الأرمن رمزاً وطنياً.

نصوص شفوية

لا يملك الأيزيديون كتاباً مقدساً يُعبّر عنهم والنّصوص الرّوحية التي تستند عليها ديانتهم كناية عن مجرّد ضوابط موروثة وغير مكتوبة، تناقلتها ألسن أفراد الطّبقات الدينية المتعاقبة والحريصة على سرية تفاصيل الديانة. في الماضي، تمكّنت المجتمعات القبليّة المتماسكة من الحفاظ على ذلك التقليد الشفوي. أما اليوم، بسبب الهجرات الجماعية المستمرة والحداثة والنزاعات في العراق وسوريا وتركيا، فقدت هذه المعرفة الدينية الكثير من قوّتها وتأثيرها.  

وفقاً لرواية الخلق الأيزيدية، خلق الله العالم من نوره، وبالتالي، فإنّ ضياء الشمس أوّل نور منبثق من الخالق ومواجهته أثناء تأدية الصلاة واجبٌ مقدس. ويعتقد الأيزيديون أنّ الملك طاووس رئيس الملائكة على الأرض ويتخّذ شكل طائر الطاووس. ويعرف عن الأيزيديين أنّهم يأبون ضمّ المرتدّين إلى صفوفهم ويلتزمون التزاماً أعمى بالزواج الديني ضمن نظام له هيكليته الصارمة. في الوقت الحاضر، يشهد عدد أفراد هذه الطائفة المقدّر بـ 700 ألفا حول العالم، تراجعاً خطيراً.

حتى وقتٍ قريب، لم يتجرأ الأيزيديون على بناء معابد لهم خارج معقلهم في العراق الذي يضمّ إلى جانب معبد "لاليش"، مئات المزارات الدينية الصّغيرة القريبة من القرى الأيزيدية. فـ"في غياب كتابٍ مقدسٍ جامع، يُمكن القول إنّ المزارات الدينية حافظت على الأيزيدية، باعتبارها نقاط تلاق وحجّ لجماعاتها"، يشرح تايلر فيشر من "جامعة فلوريدا" في إطار أبحاثه عن إعادة إعمار معابد الأيزيديين في العراق.

وفي وقت ماضٍ، شكّل أيزديّو الاتحاد السوفياتي السّابق [كانت جمهورية أرمينيا جزءاً منه] المنتشرون في مختلف أنحاء العالم حاضراً، أحد أوائل مجتمعات الشتات الأيزيدي المتنامية التي بنت معابد عصرية. وفي 2012، افتتحوا معبداً صغيراً بقبّةٍ واحدة في "أكناليش"، أعقبوه في 2015 بمعبدٍ آخر ومركزٍ ديني في العاصمة الجورجية تبليسي. وبحسب المنظمين، فإنّ هذه المقامات الثلاثة معترف بها من قبل المجلس الرّوحي الأيزيدي الأعلى في العراق.

وفي المقابل، بدأ الأيزيديون الذين عاشوا في إمارات الأناضول العثمانية، ما يُعرف اليوم بتركيا الشرقية، بالهجرة إلى أرمينيا في القرن التاسع عشر. وفي العام 1915، حُكي عن هجرة قرى أيزيدية كاملة هرباً من حملات الإبادة التي استهدفت الأقليات غير المسلمة في السلطنة العثمانية المتداعية، وقد أراقت دماء أكثر من 1,5 مليون أرمني.

وفي زمان الاتحاد السوفياتي، مُنعت مختلف الديانات من ممارسة شعائرها، لكنّ هذا المنع لم يسرِ على المجتمعات ذات الغالبية الأيزيدية والنّاطقة بالكردية، في أرمينيا وجورجيا. والحقيقة أنّ هؤلاء تلقّوا بدل المنع دعماً لتطوير ثقافتهم ولغتهم وفولكلورهم.

وساد غياب محسوس في منطقة القوقاز، للمقامات الدينية الأيزيدية التي من شأنها أن تعوّض أبناء الطائفة الأقلية عزلتهم عن محجّهم الأساسي في "لاليش" شمال العراق لأكثر من 100 سنة. وبالتالي، تمحورت الطّقوس الأيزيدية في المنطقة حول منازل الناس ومقابرهم. "لم أقصد "لاليش" يوماً... إنّها موجودة في قلوبنا لكننا لا نعرف عنها إلا ما ذُكر في الأناشيد"، تخبرني الشّاعرة أناهيد شارويف القادمة من إحدى القرى المجاورة.  

 

دفاعاً عن الهوية

ومنذ انهيار الاتّحاد السّوفياتي، تلعب الكنيسة دوراً نافذاً في أرمينيا وجورجيا. وأدى ذلك إلى إضعاف حسّ الهوية لدى الأقلية الأيزيدية التي لا يمتنع أفرادها عن زيارة الكنائس وإضاءة الشموع وتكريم الأيقونات المسيحية في بيوتهم. نعم هذا صحيح. وفي منزل مراد أوسايان، القرويّ الأيزيدي من أصلٍ أرمني، لمحتُ صوراً للعذراء مريم. "إنّها "خاتونا فخرا"... إنها ملاكنا نحن الأيزيديين"، يقول لي شارحاً، "في ديانتنا، ثمة عدد من الأشياء المتناظرة [مع ديانات اخرى]".

وليست الكنيسة الجهة الوحيدة المسؤولة عن إضعاف وجود المجتمع الأيزيدي في أرمينيا ما بعد الاتّحاد السّوفياتي. إذ تتحمل الصّعوبات الاقتصادية المسؤولية أيضاً، وقد دفعت بالأيزيديين إلى السير على خطى عديد من الأرمن في الهجرة إلى روسيا وأوروبا بعد انهيار الاتحاد السّوفياتي. وبسببها، انخفض عدد الأيزيديين في أرمينيا بنسبة 30% بحلول 2011، وتكاد قرى أيزيدية نائية عدّة تفرغ من سكانها اليوم.

"ما لم نبنِ معابد لنا خارج العراق، سنخسر ديانتنا وثقافتنا إلى الأبد"، يفيد ريسلان جاويان، الأيزيدي المولود في أرمينيا والمقيم حالياً في موسكو.

وأثناء أسبوع الافتتاح، ذاعت أخبار عن تدشين مزار صغير يُشبه المعبد في قرية "سوريك" النائية على الحدود الأرمينية-التركية، وتشارف أعمال بناء مقام ديني آخر على الانتهاء في قرية "ريا تازا" في منطقة "أباران" الأرمينية.

بوجهٍ عام، تُتوّج المعابد الأيزيدية قبةً مخروطيّة أو اثنتين تمثّل كلّ منها ملاكاً أو قديساً أيزيدياً. تضمّ كل قبّة 12 أو 24 مفصلاً تنتهي بقاعدة أسطوانية الشّكل للدلالة على الشّمس. وفي ما يتعلّق بقاعدة الهيكل، فتكون إما مستطيلة أو مربعة يعلوها سقفٌ مسطّح أو محدّب.

ويشرح لي حسين الحج عثمان، الكاتب العراقي الأيزيدي الذي قدم إلى أرمينيا خصيصاً لحضور الافتتاح، المعنى الرّوحاني لهذا التّصميم الهندسي الفريد. ووفق كلماته، "ترتفع المعابد (الأيزيدية) من الأرض إلى السّماء، ويُشكّل الجزء السّفلي منها قاعدة من أربع زوايا، تُجسّد كلّ زاوية فيها فصلاً من فصول السّلام. وعلى هذه القاعدة، تتكّئ القبّة المخروطيّة التي تُحاكي بشكلها أشعة الشّمس المتساقطة. ولا شيء فوق هذه القبّة سوى ضياء الشّمس الذي يرى فيه الأيزيديون مصدر خير ونبع حياة".

ينطبق ذلك على المعابد الأيزيدية عموماً. في المقابل، يختلف معبد "أكناليش" تماماً عن التّصميم التقليدي المفصّل أعلاه، إذ يضمّ ثماني قباب تشمل قبة مركزية كبيرة لرئيس الملائكة الملك طاووس وسبع قبب صغيرة، كلّ منها تخصّ ملاكاً معيّناً. وفي أعلى المدخل، يبدو نحتٌ صخريّ لرسم الشمس المشعّة، وذلك ابتكار عصريّ يختص به هذا المعبد.

وقد استوحى أرتيك غوليان، مهندس المعبد المقيم في يريفان [عاصمة أرمينيا]، فكرته من الكنائس الأرمنية القديمة التي كانت تتألّف من قبة مركزيّة مُحاطة بمجموعة من القبب الأصغر حجماً. ولاحقاً، أضاف إليها عناصر حديثة كمجموعة الزّخارف المثلثيّة على طول الجدران الخارجية للدلالة على أشعة الشّمس "والتّذكير بحضارات بلاد ما بين النّهرين القديمة في العراق"، بحسب غوليان.

وفي العادة، تتزيّن رؤوس قباب المعابد الأيزيدية بأيقونات نحاسيّة على شكل يد أو هلال. لكن في "أكناليش"، تبدو الصورة مختلفة. إذ تتزيّن رؤؤس القبب الثمانية بأيقونات نحاسية على شكل شمس. "بات الهلال غريباً عنّا منذ اعتداء "داعش" علينا"، وفق كلمات ديلمان جهاد قوال مراد الذي يعمل قوّالاً وقد جاء من العراق. ولكنّ لا يتّفق الجميع مع هذا الرأي. وثمة قادة روحيين يعترضون على أيقونات الشمس في "أكناليش" ويُفضّلون عليها اليد أو الهلال.

وداخل المعبد، تتدلّى من السّقف المقبّب سبع ثريّات كبيرة على شكل شمس أيضاً وأيقونة طاووس مصنوعة من أحجار شبه كريمة. وفي مواجهة أيقونة الطّاووس، تبرز طاولة على شكل مذبح يُغطّيها قماش من الحرير الملوّن. وحول هذه الطاولة، تجمّع الزّوار لتقبيل القماش أو ربط عقدة فيه والحصول على بركة قائدٍ روحيّ رؤيوي اسمه "كوشيك" آتٍ من العراق.

في أحيان كثيرة، تتاخم المعابد الأيزيدية المقابر. "في القرى التي تخلو من المعابد، يحرص الأيزيديون على بناء مزارٍ صغير بالقرب من مقابرهم"، يؤكّد فيشر. ومن هذا المنطلق، شُيّد المعبد الأول في "أكناليش" بالقرب من مقابر أيزيدية محليّة لا تقلّ عن كونها حديقة تذكارية لتخليد تاريخ أرمينيا والأيزيديين. وعلى غرار حدائق الحقبة السّوفياتية، تحتوي تلك الحديقة على نصب صخريّة منقوشة لمفكّرين وأبطال حرب، بما فيها تمثال وشاهد قبر البطل الأيزيدي جانكير آغا الذي قاد معارك مظفّرة ضد الأتراك في أرمينيا 1918. ويُضاف إلى ذلك نصب تذكاري يجمع بين الطاووس الأيزيدي والصّليب المسيحي في إشارة واضحة إلى روابط "الصّداقة الأرمنية الأيزيدية".

 

مبادرات فردية

وإبّان يوم الافتتاح الذي طال انتظاره، أُزيح الستار عن نصبٍ تذكاري جديد يُخلّد ذكرى الإبادة التي تعرّض لها الأيزيديون في 2014، ويتألف من منحوتة للناشطة الأيزيدية نادية مراد التي وقعت أسيرة في قبضة "داعش" وحازت "جائزة نوبل للسلام". وبعد إسدال السّتار، وضع الزّوار زهوراً بيضاء عند أقدام المنحوتة ورفعوا الصّلوات على نيّة مراد.

وبناءً على كلّ ما سبق ذكره، يرى كثيرون أنّ المعبد الجديد يجسّد تعبيراً عصريّاً عن الأيزيدية في القوقاز. "حدث نوعٌ من النهضة. المسألة ليست مسألة ديانة وحسب، بل مسألة هوية كذلك"، وفق الأكاديمية المقيمة في يريفان، تيريزا أمريان.

عدا ذلك، يُعتبر المعبد الجديد جزءاً لا يتجزأ من موجة واسعة النطاق كانت ولا تزال سائدة في دول الاتحاد السّوفياتي سابقاً، ونعني بها ميل عديد من رجال الأعمال الناجحين في مجتمعات الشّتات إلى تشييد مقامات دينية في بلداتهم وقراهم. إذ اتّحد لفراغ الاقتصادي والسّياسي الذي تلا انهيار الاتحاد السوفياتي، مع الفوضى والجريمة المنظمة مسبباً الفقر المدقع لأكثرية والغنى الفاحش لأقلية. ويُحكى أن أرمينيا شهدت بناء أكثر من 200 كنيسة جديدة منذ تسعينيات القرن الماضي.

وفي ذلك الصدد، يقيم راعي المعبد، رجل الأعمال مرزا سلويان، في موسكو ويملك مركزاً تجارياً فيها، لكنّه أبصر النور في منطقة قريبة من "أكناليش". "هذا المبنى الضّخم يشكّل أحدث مشاريعي"، بحسب سلويان الذي يشير إلى معبد كان قيد البناء قبل أيام من اليوم الافتتاحي.

وردّاً على اعتداءات "داعش" ضد الطّائفة في 2014، أنشأ سلويان "كونغرس الأيزيديين الروس" في موسكو وقناة "لاليش" الإلكترونية لتغطية أخبار الأيزيديين وثقافتهم في العالم.

لم ندخر في الإنفاق. ويُمكن القول إننا "فقدنا مسار الحسابات منذ زمنٍ طويل"، يروي هامليت بوغوسيان الذي أشرف بنفسه على أعمال البناء بالحجارة، مؤكداً أنّ ورشة نحت نُصبت على مقربة من المعبد بهدف نقش حجر من المرمريت الصلد استُقدِمَ من إيران. "سيبقى المعبد شامخاً لمئات السنين"، يُبشّر بوغوسيان. ويضيف، "على أثر تدمير مقاتلي "داعش" عدداً من معابدنا في العراق 2014، ارتأيتُ تشييد معبدٍ كبير هنا".

ومن داخل قاعة استقبال شيّدت حديثاً على أرض المعبد، حدّثني سلويان عن طفولته في الاتحاد السّوفياتي. "لم يكن على الأرمن أن يعملوا. كلّ ما كان عليهم فعله لتحقيق النّجاح تمثّل في "تأمّل وجه شخصٍ أيزيدي"، يقول سلويان مستذكراً مقولةً شعبيةً عن مكانة الأيزيديين ودورهم في إحلال الرّخاء والإزدهار أينما حلّوا. أنهى سلويان كلامه، ثم أسند ظهره إلى الكرسي، طارداً في بعض الأحيان ذباباً يمرّ بالقرب منه، وعن يساره، طاولة ينتصبُ عليها طاووس محنّط بكامل ريشه.

"في صغري، كنتُ أتطلّع إلى مؤسّسات الأرمن الدينية وأتساءل في نفسي عن السبب الذي يمنعنا عن هذا النّوع من المؤسسات"، يُضيف سلويان. لقد بلغ الآن منتصف العقد السّابع من العمر، وقد اكتشف اهتمامه بالدّيانة الأيزيدية وثقافتها في وقتٍ متأخر من حياته. "لغتنا معقّدة جداً. لدينا مثلاً مفردات مختلفة للدلالة على كيفية جلوس البشر وكيفية جلوس الكلاب وكيفية جلوس الأسود، وحيوانات عدّة أخرى. كلّما تعلّمتُ مزيداً عن هذه اللغة، زاد انبهاري بها"، بحسب تعبيره.

قصد سلويان العراق للمرة الأولى بنيّة الحج في 1994. في تلك الآونة، كان الأكراد من دول الاتحاد السوفياتي السابق قد التحقوا بالجماعات غير النّظامية العاملة في شمال العراق الذي مزّقته الحروب.

"سافرنا من موسكو إلى اسطنبول، فإلى ديار بكر، ومنها عبرنا الحدود برّاً إلى العراق"، يروي سلويان مستذكراً. "لاشك في أنّ الوضع كان خطيراً، لكنّني كنتُ عازماً على الذهاب في الحالات كلها. لم تكن تلك زيارتي الوحيدة إلى العراق. فقد توجهتُ إلى هناك مرة ثانية خلال الحرب الأخيرة". وبحسب مساعدي سلويان، ذهب الرّجل إلى هناك ليقدّم المساعدة والدّعم للاجئين وضحايا الأزمة الأخيرة.

لا يزال سلويان إلى اليوم على اتصال دائم بـ"كتيبة لاليش" العراقية التي تشكّل ميليشيا أيزيدية مدعومة من جماعات "الحشد الشّعبي" شبه العسكرية المدعومة من إيران. يُذكر أنّ قائد الكتيبة علي سرحان عيسى، حضر ضمن الوفد الرّسمي العراقي الذي شارك في الافتتاح.

برأي سلويان، "كان بناء المعبد في أرمينيا ضرورياً جداً... إذ تمثّل أرمينيا الدولة الأكثر أماناً بالنّسبة إلى الشعب الأيزيدي. أنا سعيد لأنني شيُدتُ المعبد هنا في مواجهة جبل "آرارات". سيفخر أحفادي به لا محالة". لكن، برأي بعض القادة الدّينيين المعارضين، يتعارض هذا النّوع من المعابد الحديثة مع التعاليم الأيزيدية. وفي حديث خاص، أكّد لي ذلك الأمر الشّيخ حسن تامويان، رجل الدين الشديد التأثير ورئيس "الاتحاد الوطني الأيزيدي" في أرمينيا. ووفق كلماته، "ديانتنا لا تقبل عبادة الحجر والخشب. نحن نؤمن بالشمس وضيائها". وبحسب رأيه، ليس الضريح في "لاليش" مكاناً للعبادة، بل "إنه المكان الذي يرتاده الأيزيديون لتقديم واجب الاحترام لموتاهم القديسين".

لم يحضر الشّيخ حسن افتتاح المعبد. لذا، التقيته في منزله الكائن في إحدى ضواحي مدينة "يريفان". وعلى عكس منازل القادة الرّوحيين الذين قابلتهم بهدف كتابة هذا المقال، وكانت مزيّنة بتماثيل طاووس ذهبيّة ولوحات ومجسّمات مصغّرة عن "لاليش"، كان منزل الشّيخ حسن خالياً من الرموز الدينيّة الواضحة.

وفي سياق المقابلة، يشرح لي الشّيخ أنّ "نصوصنا المقدّسة لا تدعونا إلى عبادة نماذج ومجسّمات مقلّدة عن الطاووس. ففي النهاية، هي مجرّد تماثيل طوطميّة"، متمنياً على "مجتمعنا أن يتمكّن في يومٍ من الأيام من النظر إلى ما وراء سطحيّة أيامنا الحديثة".

ويُتابع الشيخ حسن، "لدى الأيزيديين مكانان للعبادة والصلاة. في الصباح، عليهم أن يقفوا في مواجهة الشمس وقبالة الجانب الشرقي بعيداً عن الغرباء، وعلى صلواتهم أن تكون محدّدة وغير بيانية. ولدينا أيضاً أماكن مميزة للصلاة في منازلنا"، مشيراً إلى مجموعة فرشات مطويّة وملوّنة اعتاد أيزيديو القوقاز تقديسها. وأثناء زيارتي له، وقف الشيخ حسن وزوجته وأطفاله أمام الفرشات للصلاة، ثم قبّلوا النسيج.

وفي كلمة أخيرة، يُعبّر لي الشيخ عن قلقه من أن "يُحفّز بناء معابد جديدة على غرار معبد "أكناليش" على تقليد الديانة المسيحية".

وعلى الرغم من الاعتراضات الدينية الشديدة على بناء معبد "أكناليش"، إلا أنّها لم تقوَ على زعزعة حماسة الزوّار الذين أمّوه من كافة أقطار العالم للاحتفال بافتتاحه.

"إنّه يومٌ مهم وتاريخي للأيزيديين"، تفيد بارفا تامويان، أيزيدية مولودة في أميركا ومقيمة في فرنسا. وصحيح أنّ أجواء يوم الافتتاح كانت حارة، لكنّ ذلك لم يمنع بافا من ارتداء فستان أنيق أسود اللون وحذاء مخمليّ بكعبٍ عالٍ احتفاءً بتلك المناسبة الخاصة. "لقد نجحنا في بناء معبدٍ على أرضٍ ليست أرضنا. أتمنى أن يكون هذا المعبد فاتحة لبناء معابد أخرى في أوروبا".

وفي حدائق المعبد، توزّعت فرق موسيقية أيزيدية قدمت من روسيا وألمانيا لتأدية أغانٍ احتفالية، فيما استمرّت حشود الزوار في التقاطر إلى المعبد وتصوير الحدث على الهواتف والتقاط صور السّليفي أو الصور الجماعية مع العائلة والأصدقاء.

وفي الختام، أترك الكلمة الأخيرة لكلمات الأغنية التي كتُبت خصيصاً لتلك المناسبة المميزة، وغنّاها أيدين أمارا: "تعالوا إلى المعبد، إلى مكان الصلاة والعبادة. تعالوا إلى المعبد الأيزيدي، إنّه قطعة من الجنّة".

* حائزة على" جائزة روبرت كورنويل للصحافة الأجنبية" من صحيفة "الاندبندنت" هذا العام. ويشكّل المقال الجزء الافتتاحيّ من سلسلتها الجديدة.

© The Independent

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات