بدّل الحراك الشعبي في لبنان استراتيجيته في التحرك اليوم الأربعاء، غداة فتح الجيش الطرق العامة والحيوية التي قطعها المتظاهرون منذ ليل الأحد الماضي، فتوجه محتجون شكّل طلاب المدارس والجامعات عصب تحركهم، إلى مؤسساتٍ عامة وخاصة في البلاد، يعتبرون أنها "أوكاراً للفساد" الذي أوصل البلاد إلى حافة الإفلاس.
وفي ظل انتشار كثيف للجيش وقوات الأمن في بيروت ومناطق ساخنة أخرى في البلاد شهدت حركة قوية للمحتجين مثل جل الديب وذوق مصبح وجبيل، بالإضافة إلى عاصمة الشمال طرابلس، تبادل الناشطون رسائل نصية تحدد مواقع الاحتجاج الأربعاء، وأبرزها مقر مصرف لبنان في شارع الحمرا وقصر العدل في العاصمة، ومركز تسجيل المركبات الآلية في الدكوانة (شمال بيروت) ومقرَي شركتَي تشغيل الخليوي في لبنان (ألفا وتاتش).
وتجمّع المتظاهرون أمام مبنى الضريبة على القيمة المضافة وأمام وزارة التربية وشركة الكهرباء ومكاتب شركتَي تشغيل الهاتف الخليوي في مناطق لبنانية عدة أبرزها بيروت وصيدا وطرابلس وجونية، وطالبوا باقتلاع الفاسدين من تلك الادارات.
وفي خطوة لافتة، شهدت طرابلس إعلان أحد عناصر الجيش اللبناني انشقاقه والانضمام إلى صفوف الثورة. فقد صعد العسكري إلى المنصة في ساحة النور وحيا الثوار وعلت الهتافات المؤيدة له، لكن سرعان ما طوّقت مخابرات الجيش ساحة النور لاعتقاله، بينما حاول الثوار جاهدين حمايته من دون أن ينجحوا، وألقي القبض عليه.
وفي رد على الحراك السياسي الذي يرافق الانتفاضة حذر رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع من محاولة "الالتفاف" على مطالب المحتجين، وأكَّد أن "القوات ليست مع أية حكومة لها علاقة بالسياسيين وبالأكثرية النيابية والوزارية"، مشيراً، الى أنّه "مقابل تصميم الناس بعض من في السلطة يحاول الالتفاف على مطالب الشعب". وشدَّد، على أنّ "أي محاولة لتشكيل حكومة اخصائيين تسميها هذه الأكثرية هو أمرٌ مرفوضٌ وفخٌ"، مضيفًا، "نريد حكومة اخصائيين مستقلين لا علاقة لهم بالأكثرية السياسية".
البنك الدولي وعون
في موازاة ذلك، أصدر البنك الدولي بياناً، أعلن فيه أنه مستعد لتقديم كل الدعم الممكن لحكومة جديدة في لبنان تكون ملتزمة "بالحوكمة الرشيدة... وخلق فرص عمل لكل اللبنانيين"، وذلك بعد لقاء المدير الإقليمي للبنك الدولي ساروج كومار بالرئيس اللبناني ميشال عون في قصر بعبدا. واعتبر البنك في بيانه أن "التشكيل السريع لحكومة تلبي توقعات كل اللبنانيين هي الخطوة الأكثر إلحاحاً في لبنان". وأضاف أن "الوضع في لبنان يصبح أكثر خطورة بمرور الوقت، وتحقيق التعافي ينطوي على تحديات أكبر". كما البنك الدولي "ركوداً في 2019 أكبر بكثير من التقدير السابق، بأن يسجل الناتج المحلي الإجمالي معدل -0.2 في المئة"
لقاء بين الحريري وباسيل
في هذا الوقت، ذكرت وكالة الأنباء "المركزية" أن اجتماعاً ثانياً سيجمع الرئيس سعد الحريري ورئيس التيار الوطني الحر الوزير في الحكومة المستقيلة جبران باسيل مساء اليوم في بيت الوسط. وفي سياق متصل، أفادت مصادر الحريري بأن "المشاورات السياسية تراوح مكانها"، وقالت "كتل نيابية لا تزال تتمسك بعودة الرئيس الحريري الى رئاسة الحكومة لكن الأخير يتعامل مع هذه التمنيات بتحفظ شديد ويفضل الابتعاد عن المشهد الحكومي وإفساح المجال امام خيارات جديدة تحاكي متغيرات اللحظة السياسية".
أضافت "الحريري يشدد على وجوب اعتبار الاستقالة مدخلاً للمباشرة في مخرج سياسي وحكومي والاسراع في إجراء الاستشارات النيابية الملزمة، وهو يشدد على أن التأليف هو مهمة الرئيس المكلف بالدرجة الاولى وليس مهمة أي من القوى السياسية، وأن المشاورات التي يشارك فيها ترمي الى إخراج البلد من النفق المسدود وليس الى إعداد أي صيغ وزارية".
وسط هذه الأجواء، قالت مصادر قصر بعبدا إن الاخيرة تتريث في الدعوة الى الاستشارات النيابية وهناك من يربط هذا التريث بتنامي الحراك الشعبي.
فتح الطرق
وكانت قوات الجيش اللبناني عمدت بمؤازرة من قوى الدرك صباح الثلاثاء الى فتح كل الطرقات، وتفكيك الخيم وكل المعدات الصوتية والمسارح التي كان المحتجون يتحلقون حولها في الساحات وعلى الطرقات السريعة. وبدا واضحاً أن الجيش تبلغ قراراً سياسياً بضرورة فتح كل الطرقات، بعدما وجهت إليه إشارات مبطنة بأنه متعاطف مع المتظاهرين ومنحاز اليهم ضد بعض رموز السلطة، لا سيما صهر رئيس الجمهورية جبران باسيل. وعند الظهر عادت الحياة الطبيعية إلى كل مرافق البلاد، وانسابت حركة المرور بعدما تفاقمت أزمة ازدحام السير أمس الاثنين.
في الأثناء، دعت الإدارة الأميركية الحكومة اللبنانية إلى احترام حقوق المتظاهرين وأمنهم.
واعتبر مسؤول في وزارة الخارجية الأميركية في حديث مع قناة "العربية "إن التظاهرات تعكس مطالب اللبنانيين في الإصلاح الاقتصادي والقضاء على الفساد المتفشّي. وأضاف أن "الطبيعة غير الطائفية للتظاهرات تعبّر عن تنامي التوافق الوطني لدعم الإصلاح".
وأشار المسؤول في وزارة الخارجية الى دور الجيش اللبناني وقال "رأينا الجيش اللبناني يحمي المتظاهرين من العنف ونتوقّع أن يتابع الجيش اللبناني الدفاع عنهم". إلى ذلك دعت الحكومة الأميركية المسؤولين السياسيين اللبنانيين إلى "سرعة تسهيل تشكيل حكومة تستطيع بناء لبنان مستقرّاً ومزدهراً وآمناً يتجاوب مع حاجات المواطنين وخالياً من الفساد المتأصل". وقال المسؤول في وزارة الخارجية الأميركية "إن على الحكومة اللبنانية ان تأخذ إجراءات حازمة لحلّ مشاكل البلاد الاقتصادية ولوضع البلاد على طريق قابل للاستمرار".
موقف المتظاهرين
المتظاهرون حاولوا في أماكن عدة منع الجيش من إجلائهم بالقوة، ووقعت إصابات طفيفة. واستعاض "المنتفضون" عن إقفال الطرق بالتجمع أمام بعض المقرات التابعة للمصرف اللبناني المركزي، في الجنوب، وكذلك بالبقاء في الدوارات على مفترقات الطرق المهمة في الجنوب، وبمحاصرة مبنى لشركة "تاتش"، إحدى الشركتين المشغلتين للهاتف الخلوي في لبنان. وفي المعتاد تتضح خطوات المنتفضين عند حلول المساء لمعرفة الرد الذي سيقدمون عليه، بعدما انتزعت السلطة منهم ورقة إقفال الطرق.
تجاذب أهل السلطة
ومما سيزيد من مشاعر الغضب، أن إجراءات الجيش اللبناني جاءت من دون أي خطوة سياسية يمكن أن تطمئن المحتجين. فالسياسيون لا تزال وتيرة استجابتهم مع الأحداث التي نشأت منذ 17 أكتوبر (تشرين الأول)، دون طموحات مئات الألوف الذين نزلوا إلى الساحات. ولعل أهم مطلب للانتفاضة اللبنانية اليوم هو تكليف رئيس حكومة جديد، يعمل على تشكيل مجلس وزراء من اختصاصيين بعيدين من الطبقة السياسية والأحزاب الحاكمة. ولكن هذا المطلب لا يزال عالقاً في عنق الزجاجة، ويكاد يؤدي إلى أزمة سياسية – دستورية تُزاد على الوضع المتفجر الحالي. فرئيس الجمهورية ميشال عون لم يعمد بعد إلى الدعوة إلى استشارات نيابية ملزمة، بحسب الدستور، ما ولَّد استياء عند شريحة واسعة من اللبنانيين السُنة، إذ اعتبروا فراغ رئاسة الحكومة وبقاء رئاسة الجمهورية والمجلس النيابي على حالهما وكأن المستهدف فقط كان سعد الحريري. كذلك استاء المنتفضون من المماطلة في الدعوة إلى الاستشارات الملزمة، وكأن فتح الطرقات والتمهل في تلبية مطالبهم هدفهما "تنفيس" الزخم الشعبي، ليبدو عاجزاً عن فرض المزيد من الشروط على الطبقة السياسية.
الحريري والحكومة
الأوضاع ستزداد توتراً في الساعات والأيام المقبلة. فالانتفاضة تريد حكومة "مستقلة"، بينما يبحث المسؤولون في حكومة طابعها سياسي ولكن "مطعمة" باختصاصيين. وهذا الوضع سيؤجج مشاعر الرفض والغضب عند المتظاهرين. أما الصراع بين أركان السلطة فيدور حول من سيرأس الحكومة المقبلة؟ وعلى الرغم من أن أسهم الحريري مرتفعة لعودته إلى السراي، فمن الواضح أن حزب الله ومعه التيار الوطني الحر، يريدان حكومة سياسية يمسكان بثلثها المعطل، ويرفضان ميل الحريري إلى حكومة تنسجم مع الانتفاضة، أي حكومة لا تضم سياسيين. ووصل الأمر بأن اشترط حزب الله والتيار الوطني معادلة مفادها أن عودة الحريري تعني أيضاً عودة جبران باسيل إلى الحكومة. وهذا ما يرفضه الحريري، خصوصاً أن نقمة كبيرة انصبت على باسيل في كل التظاهرات اللبنانية، وعودته إلى السلطة مرة أخرى ستكون استفزازاً لن يسكت عليه المحتجون.
ماذا بعد؟
وفي انتظار اجتماع ثانٍ يُحكى أنه سيجمع الحريري وباسيل بعد اجتماع يوم الاثنين لم يؤد إلى نتيجة تذكر، تتوالى الردود السياسية المستهجنة لتمهل رئيس الجمهورية في تحديد موعد للاستشارات النيابية الملزمة. لأن هذا التمهل غير دستوري عند البعض، وشبه عقاب للحريري عند البعض الآخر، خصوصاً أن الحريري كان في آخر سلسلة الأسماء التي طالتها هتافات الناس في تظاهراتهم، لا بل في بعض الأحيان كسب الحريري تعاطفاً في العديد من الساحات، وكانت النتيجة أن أقل المغضوب عليهم استقال وبقي في مناصبهم من ضجت بأسمائهم الساحات وارتفعت اللافتات المنددة بهم.