على الرغم من الهدوء الذي شهده اليوم الأول بعد استقالة حكومة الرئيس سعد الحريري، لناحية إعادة فتح غالبية الطرقات في العاصمة بيروت وخارجها، إلا أن التوتر عاد مجدداً مساءً مع اتجاه عدد من المتظاهرين إلى إعادة إقفالها. وهذا ما حصل في صيدا، حيث سقط ثلاثة جرحى وفق الصليب الأحمر اللبناني، وفي بلدة العبدة في محافظة عكار، حيث فض الجيش اللبناني الاعتصام بالقوة.
وبالتزامن، تم تداول كثير من الاشاعات حول حصول مواجهات بين محتجين والجيش في عدد من المناطق ومعلومات عن قطع خدمات الانترنت عند منتصف الليل، وعن نية السلطات اللبنانية إعلان حالة الطوارئ. وهذا ما نفاه الجيش، في بيان مساء الأربعاء، داعياً "المواطنين إلى عدم الانجرار وراء الإشاعات".
وعلى إثر هذا التوتر، طلب وزير التربية والتعليم العالي أكرم شهيب من المدارس اتخاذ القرار المناسب بشأن إعادة فتح أبوابها الخميس، كما كان قد أعلن في وقت سابق الأربعاء.
في المقابل، برزت تحركات لمناصري تيار المستقبل، وهو حزب الرئيس الحريري، تضامناً معه وتأييداً له. ما دفعه إلى الطلب، عبر "تويتر"، من مناصريه إلى "الامتناع عن العراضات في الشوارع والتزام التعاون مع الجيش وقوى الأمن الداخلي والحفاظ على الهدوء ومنع أي انزلاق إلى الاستفزازات".
وكتب رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، عبر تغريدة في "تويتر"، "لا لاستغلال الشارع لأسباب غير التي رفعها الحراك. ولست لأعطي دروساً لكن أدين أي حراك آخر، يريد سرقة الحراك وإدخاله في لعبة السياسات الضيقة والانتهازية".
وكانت الجولة الأولى من "الانتفاضة" اللبنانية انتهت، وساد الارتياح المؤقت بإنتظار ما تحمله التطورات في الساعات المقبلة. ومن بشائر الارتياح أن الجامعات والمدارس ستفتح الخميس، على أن تلحقها المصارف يوم الجمعة المقبل، بدوام استثنائي يمتد إلى الخامسة مساء لتلبية حاجات العملاء بعد انقطاع دام نحو 15 يوماً.
وفي أول تعليق له بعد تقديم استقالته، نقل مسؤول بارز عن سعد الحريري انه مستعد لتولي رئاسة الوزراء في حكومة لبنانية جديدة بشرط أن تضم أعضاء اختصاصيين قادرين على تنفيذ الإصلاحات المطلوبة بسرعة لتجنب انهيار اقتصادي. المسؤول الذي طلب عدم الكشف عن اسمه قال إن الحكومة الجديدة يجب أن تكون خالية من مجموعة من الساسة البارزين الذين شملتهم الحكومة المستقيلة. والخميس المقبل سيكون اول يوم تُفتح فيه المدارس منذ 17 اكتوبر (تشرين الاول) الحالي.
اما الإجراء الدستوري الوحيد على طريق تعيين رئيس حكومة جديد، جاء بطلب رئاسة الجمهورية اللبنانية، الأربعاء، من الحكومة المستقيلة "الاستمرار في تصريف الأعمال" وذلك غداة استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري تحت ضغط الشارع، بعد نحو أسبوعين من احتجاجات طالبت برحيل الطبقة السياسية. لكن الخطوة الاهم، والتي لم تحصل حتى عصر الاربعاء، هي دعوة رئيس الجمهورية الى "استشارات نيابية ملزمة" لتسمية رئيس الحكومة الجديد. وبموجب أحكام البند 1 من المادة 69 من الدستور اللبناني التي تنصّ على أن الحكومة تُعتبر مستقيلة في حال استقال رئيسها، أعلنت المديرية العامة لرئاسة الجمهورية في بيان أن رئيس الجمهورية ميشال عون "طلب من الحكومة الاستمرار في تصريف الأعمال ريثما تُشَكَّل حكومة جديدة".
وأضاف البيان أن الرئيس أعرب عن شكره لرئيس الحكومة والوزراء كافة.
وعُلم أن عون سيوجه رسالة إلى اللبنانيين عند الساعة الثامنة من مساء غد الخميس لمناسبة الذكرى الثالثة لتوليه سلطاته الدستورية.
من جهته، قال رئيس مجلس النواب نبيه بري، خلال لقاء الأربعاء النيابي، إن "البلد لا يحتمل مزيداً من المتاعب والمخاطر اقتصادياً ومالياً"، جازماً أن "الوحدة والانفتاح والحوار بين بعضنا البعض كلبنانيين، يجب أن تسود المرحلة الراهنة".
وطالب بري بـ"الاستعجال في تشكيل الحكومة وفتح الطرق"، محذراً من "فقدان الأمل بالأمن في لبنان"، مبدياً خشيته "من الضغوط الدولية ابتداءً من اليوم".
وقال رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع إن المطلوب هو "حكومة إنقاذ خالية من الوجوه التقليدية المتجذرة في الحكومات منذ سنوات... نحتاج حكومة مستقلين بالدرجة الأولى، فمصلحة البلاد قبل أي مصلحة أخرى". وأكد جعجع أن حزب القوات لن يشارك في حكومة سياسية.
فتح الطرقات
وبعد نحو 13 يوماً من حراك شعبي غير مسبوق منذ سنوات تسبب بشلل في البلاد، أعلن الحريري استقالة حكومته الثلاثاء "تجاوباً لإرادة الكثير من اللبنانيين الذين نزلوا إلى الساحات للمطالبة بالتغيير".فُتحت الطرقات في معظم المناطق اللبنانية صباح الأربعاء 30-10-2019 بعد أن أغلقها المتظاهرون على مدى أسبوعين، غداة إعلان رئيس الوزراء سعد الحريري استقالة حكومته بعد 13 يوماً من احتجاجات شعبية غير مسبوقة عمّت كافة المناطق اللبنانية.
وعلى الرغم من عودة الوضع في البلاد تدريجياً إلى طبيعته، شدّد بعض المحتجّين على أن الاستقالة لا تكفي ليخرجوا من الشارع، وذلك في ظلّ غموض يحيط بالمرحلة المقبلة سياسياً.
على الرغم من تسجيل الانتفاضة الشعبية في لبنان، الهدف الأول في مرمى السلطة الحاكمة، متمثلاً باستقالة رئيس الحكومة سعد الحريري، ما زالت الاعتصامات منتشرة على امتداد الخريطة اللبنانية. في الأثناء، ومع إصرار الانتفاضة على الاستمرار حتى تحقيق المطالب التي رفعتها، وفي مقدمها تشكيل حكومة إنقاذ ومعالجة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية وإعداد قانون انتخابي جديد، باشر الجيش اللبناني فتح الطرقات.
وأصدرت قيادة الجيش بياناً جاء فيه أنه "بعد مرور ثلاثة عشر يوماً على بدء حركة الاحتجاجات والتظاهرات الشعبية والمطلبية، وتفاقم الإشكالات بين المواطنين بشكل خطير نتيجة قطع طرق حيوية في مختلف المناطق اللبنانية، وبعد التطورات السياسية الأخيرة، تطلب قيادة الجيش من جميع المتظاهرين المبادرة إلى فتح ما تبقّى من طرق مقفلة لإعادة الحياة إلى طبيعتها ووصل جميع المناطق بعضها ببعض تنفيذاً للقانون والنظام العام. مع تأكيدها على حق التظاهر السلمي والتعبير عن الرأي المصان بموجب أحكام الدستور وبحمى القانون، وذلك في الساحات العامة فقط".
وقد سرّع في تقديم الاستقالة، ما أقدمت عليه مجموعة مؤيدة لرئيس مجلس النواب ورئيس حركة أمل نبيه بري، إذ اعتدت على المحتجين السلميين على جسر فؤاد شهاب وفي ساحتي رياض الصلح والشهداء، ما أوقع عدداً من الجرحى في صفوف المتظاهرين، وخرّبت وحرقت وكسّرت كل ما في ساحة الشهداء من خيم ومعدات صوتية وسيارات، على وقع هتافات "بالروح بالدم، نفديك يا نبيه".
وإضافة إلى الأجواء الإيجابية التي أشاعتها استقالة الحريري، هدأت نسبيّاً المخاوف من التدهور الاقتصادي والنقدي، التي غذتها تصريحات حاكم مصرف لبنان، الإثنين 28 أكتوبر (تشرين الأول)، التي عبر فيها عن احتمال الانهيار خلال أيام في حال لم يقدم لبنان على إجراءات سياسية ومالية.
وقد بدأت الحياة تعود إلى طبيعتها، في انتظار فتح المؤسسات الرسمية والمدارس والجامعات والمصارف أبوابها. وكانت جمعية المصارف أعلنت أن المصارف ستعود إلى العمل في الرابع من نوفمبر (تشرين الثاني).
في الأثناء، وفي انتظار بدء رئيس الجمهورية ميشال عون الاستشارات النيابية الإلزامية لتكليف رئيس حكومة جديد، ما زالت القوى السياسية في حالة ارتباك وانكماش في التصريحات الإعلامية. ما يؤجّل ولادة صورة الحكومة العتيدة والإجابة عن سؤال إذا ما كان الحريري سيُكلّف مجدداً تشكيل حكومة إنقاذ مصغّرة أم سينتقل إلى صفوف المعارضة.
دولياً مرشد الجمهورية الايرانية علي خامنئي عكس انزعاجه من الحراك اللبناني عندما اتهم اليوم "أميركا ودولاً عربية بتأجيج الاضطرابات في لبنان والعراق داعياً العراقيين واللبنانيين إلى الحفاظ على الاستقرار".
كلمة الحريري
تأخر الاستقالة
وتصدى مؤيدو السلطة وجمهورها لقمع وكبت الأصوات الشابة المطالبة بالحرية والعدالة والعيش الكريم ومحاربة الفساد، بالتخوين والترهيب والضرب والسحل والتكسير والحرق، والاتهام بالتبعية إلى الخارج. وأدى هذا الاستقرار الذي تكلمت عنه أحزاب السلطة إلى تقسيم البلد، والمحاربة شارع مقابل شارع.
طلبات بسيطة قد تمنع هجرة الأدمغة في حال نُفّذت، لكن تعنّت بعض أركان السلطة وإصرارها على المواجهة بالشارع، دفع البلد إلى الانقسام مجدداً، واستعادة مشاهد من الحرب الأهلية التي توقفت عام 1990.
في المقابل، حاول الحريري تدارك الأمر، فقدم استقالته بعدما شاهد على الهواء مباشرة كيف يقاتل اللبناني أخوه في الشارع، وربما قد يقتله لو سنحت الفرصة، أو القرار لذلك.
الفرحة باستقالة الحكومة كانت منقوصة بالنسبة إلى المحتجين في الشارع، خصوصاً أولئك الذين يقطعون جسر فؤاد شهاب منذ ثلاثة أيام بأجسادهم، والسبب بسيط، "تُحاربنا الدولة بأدواتها الشعبية البسيطة، الفقر مقابل الفقر، والحاجة مقابل الحاجة، والدم مباح في تلك الحالات، وإلا كيف يفسّر غياب القوى الأمنية عن كل المعارك التي حصلت منذ الصباح".
غياب الدولة
قررت السلطة اللبنانية، أن "تذوب" في المشهد الدرامي الذي تعيشه البلاد، فوقفت خلف جدار شارع ثانٍ، يرفض الحراك الشعبي، ويتهمه بالعمالة للخارج، وتلطت وراء أحزابها وجمهورهم البسيط الذي "يعبد" زعماءه، دافعة بهم لمواجهة متظاهرين سلميين عزل لفتح الطرقات والتنكيل بهم، في حين فضلت أن تكون "شاهد ما شفش حاجة"، إذ لم تسجل اعتقالات تذكر من قبل المعتدين، ولم تكن حاسمة في التصدي للشغب والعنف.
وقد يكون ما حصل في بيروت منذ صباح اليوم، الأعنف منذ 11 سنة، أي أحداث مايو (أيار) 2008، عندما اندلعت اشتباكات بين عناصر من حزب الله وتيار المستقبل.
ويبقى السؤال، لم يكون قسم من الشيعة في لبنان دوماً في وجه الشارع والحركات المطلبية، ولماذا تختارهم السلطة، لمجابهة الشارع الآخر، وما دور الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله ورئيس حركة أمل نبيه بري في كل هذا التوريط، وإلى متى يبقى الحب الأعمى للزعماء، منتصراً على الانتماء للوطن؟
فمنذ أيام تهجّم مؤيدون لحزب الله على المتظاهرين في ساحة رياض الصلح، بحجة ما يتعرض له حسن نصرالله من شتائم، واليوم تعرض مؤيدون لحركة أمل للمتظاهرين السلميين في كل ساحات وسط بيروت، بحجة فتح الطرقات.
انسحاب تكتيكي
انسحب الحريري من المشهد الحكومي، تاركاً خلفه آلاف الملفات المفتوحة، مقدماً فرصة ذهبية للحراك الشعبي للاستمرار في تحركه لإسقاط النظام الطائفي، والانقلاب على رجعية القوانين واتفاق الطائف، في حين كسب رئيس الحكومة السابق ثقة الشارع السني مجدداً.
إذ نزل جمهوره بعد الاستقالة إلى الساحات وقطع الطرقات، منوهاً بالخطوة العظيمة التي أقدم عليها رئيسهم.
من جهة ثانية، يجمع الحراك المطلبي، على أن الاستقالة، نقطة أولى من سلة مطالب متكاملة يجب أن تنفذ، ومنها محاكمة الفاسدين في الحكم وإجراء انتخابات نيابية مبكرة، وتشكيل حكومة إنقاذية واستعادة الأموال المنهوبة.
ولدى السؤال عن الاستعدادات الشعبية للمواجهة، يأتي الرد سريعاً "سنبقى في الشارع حتى تحقيق كل مطالبنا، وكما أسقطنا الحكومة، سنعمل على تحقيق البنود التالية ضمن مدة زمنية قد لا تكون قصيرة".
يصر المتظاهرون السلميون منذ أيام ثلاثة على قطع جسر فؤاد شهاب الذي يربط شرق المدينة بغربها، بطريقة سلمية وحضارية. لكن سكان المنطقة المجاورة للجسر، تضايقوا من فعل القطع، ودارت مناوشات بينهم وبين المحتجين في الأيام الماضية، لكنها لم تتخط الشتائم والصراخ.
صباح اليوم، كان مختلفاً وغريباً، ثمة ما أوحى بأن المواجهة حتمية. إذ تجمع عدد من شبان المنطقة على الجسر في محاولة لفتح الطريق، وتصادموا مع المحتجين، وحدث كر وفر بينهما لكن الطريق لم يُفتح، مع مساعدة من القوى الأمنية الموجودة التي تصدت لعنف الشبان في بعض الأحيان.
ومن جسر فؤاد شهاب، انتقل الشبان المعترضون إلى ساحة الشهداء. هناك بات المشهد أشد عنفاً وقسوة. عشرات الشبان يجتاحون الساحة ويكسرون كل ما فيها، ويعتدون على الصحافيين والمصوّرين وكل من كان يحمل هاتفاً أو كاميرا، لتوثيق ما يحصل، كأنها معركة حياة أو موت. معركة بين الحق والباطل، بين الخير والشر.
هجم الشبان الغاضبون بكل حقد وهمجية على المدينة، كسروا ما فيها من لحظات، لاعنين كل من كان أو مر من هنا، هاتفين بأعلى أصواتهم لحبيب قلوبهم نبيه بري.
حرقوا الخيم التي كان المتظاهرون يبيتون فيها، أشعلوا النار بمجسم للثورة في الساحة، كما حاصروا بعض المحتجين في ساحة رياض الصلح، إلى أن تدخلت القوى الأمنية.
تحولت الساحة إلى أرض لمعركة طاحنة، بين الرمزية وشبان غاضبين. ومن أقسى المشاهد التي رصدت، ما تعرضت له الفتيات من دفع وشتائم ومحاولات لسرقة هواتفهن التي تصور ما يحدث.
عنّفت نساء في الساحة، على مرأى قوى الأمن التي لم تتحرك، إذ كان القرار السياسي واضحاً في ما يحصل، "لا تتدخلي أيتها الدولة، دعينا ننهي ما بدأناه".
شبان غاضبون يضربون بوحشية، ويهددون بحقد من يقف في طريقهم. سقط عصر اليوم في الساحة مفهوم الدولة، وسقطت معها الثقة بكل مؤسساتها العسكرية والأمنية. فالتواطؤ واضح للعيان بين "الغضب الشعبي من الحراك" وبين أركان الدولة.
وكالعادة وصل الجيش متأخراً، بعدما تغيرت ملامح الساحة وتبدلت، وباتت أشبه بساحة كانت للحرية.
اللافت في الأمر، كمية الكره والحقد من الغاضبين على ما كان يحصل في الساحة، ومن كل غرض يكسرونه أو "يدمرونه" يقولون، "انظروا، ما كل هذا الطعام والشراب، إنها من أموال حرام، لا تلمسوها".
العودة إلى الوضوح
كل ما تقدم، لم يمنع اللبنانيين المؤمنين بمستقبل أفضل، من النزول مجدداً إلى الساحات، إذ غصت بالزائرين مجدداً بعد الاعتداء الهمجي، ودفعت استقالة الحكومة، كثيرين بدعم هذه الانتفاضة والتوجه مع عائلاتهم إلى الساحات للتعبير عن التضامن والوقوف مع المحتجين السلميين، في وجه قوى الظلام.
ردود فعل