Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"مذكرات شيكوريل" سردية الوجود اليهودي في مصر

الجانب الشخصي يغيب السياسي في سيرة مهاجر

يهودية مصرية من مطلع القرن الماضي (دار ستوك)

ملخص

" سيرة عائلة يهودية مصرية، من أصول إيطالية، كان لها دور اقتصادي مهم، منذ أن هاجرت إلى مصر من أزمير (تركيا) عام 1870 وإلى أن غادرتها عام 1957. فضلاً عن أن الكتاب يحقق هدفاً أعمق يتمثل في إعادة كتابة سردية الوجود اليهودي كجزء من هوية أكبر دولة عربية بين القرنين الـ19 والـ20.

يتناول كتاب "مذكرات شيكوريل" لرونالد سالفاتور شيكوريل، ترجمة عبدالحميد المهيبلي (دار دون)، سيرة عائلة نزحت من إزمير التركية إلى مصر عام 1870م، حيث عمل الجد في تجارة المنسوجات، في القاهرة وتوسعت التجارة مع الجيل الثاني عبر "محلات شيكوريل" الشهيرة للأزياء، وأصبح لها فروع في مدن مصرية عدة، قبل أن تنتهي مسيرتها في الخمسينيات مع الجيل الثالث. وهذه السلسلة، أسسها مورينيو شيكوريل عام 1887، وكانت رمزاً للأناقة والطبقة الأرستقراطية والعائلة الملكية، تبيع كل شيء من الملابس إلى الأجهزة، واحترقت مرتين في أحداث 1948 و1952 ثم أممتها الحكومة المصرية عام 1956، لتختفي من المشهد التجاري كعلامة بارزة في تاريخ مصر.

يلجأ شيكوريل، عالم الرياضيات والفيلسوف والأكاديمي، إلى أسلوب عاطفي في سرد سيرته الذاتية، مستنداً في البداية إلى رسالة من ابنته فاليري تطالبه بكتابة سيرته لحفيده "بن"، الذي انبهر حين علم أن جده ولد قرب الأهرام. وعلى رغم هذا الدافع الظاهر، فإن الهدف الأعمق للكتاب يتمثل في إعادة كتابة سردية وجود اليهود في مصر، وإبراز دورهم الحضاري، وإثبات مصريتهم.

 

يقدم شيكوريل في سيرته الذاتية خطاباً يتجاوز رسالة الحفيد، كما تلاحظ ماجدة شحاتة هارون في مقدمها للكتاب، إذ ترى أن هذه السيرة تفند الصورة الشائعة التي تقول إن العائلات اليهودية الكبرى في مصر مثل شيكوريل وقطاوي وشملا، شعرت بأن الأوضاع غير مستقرة فهربت بثرواتها إلى الخارج، مشيرة إلى أن عائلة شيكوريل لم تتمكن من استرداد جزء كبير من ثروتها الضخمة، وعانت الفقر في أوروبا إلى أن استقرت أوضاعها المادية من جديد.

الطفل يحكي

يعتمد شيكوريل في منحاه العاطفي على النوستالجيا، حيث يعيد القارئ إلى الأماكن التي عاش فيها في مصر، من فيلا المعادي إلى سكنى الزمالك، مستعرضاً ذكريات الطفولة والأصدقاء والمدرسة، "لا أتذكر قط أي مشهد عدواني أو عنيف، دائماً ما كنت أرى الطيبة واللطف والاحترام في كل مكان" (ص115).

يواصل شيكوريل منحاه العاطفي، كاشفاً عن الصدمة والمأساة التي عاشها بعد مغادرتهم مصر. يروي الحكاية بعين طفل في الـ12. انتقلوا إلى سويسرا الباردة من دون أن يعرفوا سبباً لذلك. غادروا مسرعين نحو المطار من دون أن يأخذوا أي ممتلكات. يرصد معاناته بعد احتجاز السلطات المصرية لوالده، رئيس الطائفة اليهودية في مصر، فيما سمح له ولأخته وأمه بالصعود إلى الطائرة. وفي جنيف واجهوا البرد، قلة المال، وعدم معرفة مصير الأب، إضافة إلى محاولات التأقلم مع ثقافة جديدة، "جاءت ججانين بفستان خفيف وأنا بشورت، وإذا كانت ملابسنا غير ملائمة لطقس جنيف، فكذلك كانت أفكارنا بالنسبة إلى هذا المكان وربما أسوأ" (ص99). يرسم في السيرة مسار العائلة بعد مغادرتهم لمصر، وما تعرضوا له من مشكلات، كيف تفرقوا في البلدان الأوروبية، تبدل وضعهم الاقتصادي واضطرار الأم لبيع حليها لدفع أجرة الفندق في جنيف، التعلم في المدارس المجانية في أوروبا، فشل الأب في استعادة أملاكه، وتعرضه للخديعة من المحامين المصريين.

السياق التاريخي

 

يحرص شيكوريل في صفحات سيرته على تأكيد انتمائه لمصر، "ثم قرب سبتمبر يجيء وقت العودة إلى مصر العودة إلى وطننا" (ص48) ومحبته الجارفة لها، "لقد أجبرنا على أن نغادرها لكنها أبت أن تغادرني" (ص183). ويعمل على إبراز هذا الانتماء بكل السبل الممكنة عبر نشر المستندات والوثائق والصور لإقامتهم في مصر وجوازات السفر والإعلانات في الصحف عنهم، وتمثيل والده لمصر في أولمبياد أمستردام عام 1928م، "كان أبي سلفاتور سيكوريل قبل كل شيء مصرياً صميماً يسعى بكل الوسائل إلى وضع خبراته وعلاقاته الدولية المتعددة في خدمة بلاده" (ص69). يكتب عن أسرته باعتبارها عائلة مصرية فاعلة في المجتمع أسهمت في الاقتصاد المصري وتأسيس البنوك، والتجارة، والعمل الخيري وبناء المدارس.

يعمد شيكوريل في حكيه إلى إغفال السياق التاريخي لكثير من الأحداث التي يوردها، فعندما يتحدث عن طرد أجداده اليهود من إسبانيا عام 1492م بعد وجودهم التاريخي فيها، لا يشير إلى أن هذا الأمر شمل أيضاً المسلمين.

وهو ما يكرره عند حديثه عن خروج اليهود من مصر، إذ يركز على البعد الشخصي والعائلي متغاضياً عن السياق الاجتماعي والسياسي الواسع الذي وقعت فيه الأحداث. فهو يذكر أن سبب هجرة عائلته كان نتيجة "تصريح إعلامي كاذب"، ويؤكد: "الموقف المصري للحكومة المصرية ظل كما هو، يهود مصر هم أبناء مصر" (ص111).

العائلة والدولة

وعلى رغم هذا، يذكر في أكثر من موضع أنهم أجبروا على المغادرة، وأن الهجرة جاءت بعد سلسلة من التهديدات والإذلالات والقيود ونزع الملكية ومصادرة الأملاك التي عاناها يهود مصر بوتيرة متزايدة منذ إعلان قيام دولة إسرائيل عام 1948، ثم جاءت أزمة 1956 التي أنهت وجود اليهود بصورة واسعة في مختلف المدن المصرية.

لكن الواقع يؤكد أن نزع الملكية لم يقع على عاتق اليهود فحسب، وإنما امتد إلى كل الإقطاعيين وأصحاب الثروات في مصر من دون النظر إلى هويتهم الدينية. كما أن الحكومة المصرية لم تتخذ موقفاً عدائياً تجاه اليهود ولم تمنعهم من البقاء.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويكشف شيكوريل جانباً شخصياً مهماً، وهو العلاقات المباشرة لعائلته مع السلطة، فيذكر أن جمال عبدالناصر كان من ضيوف والده، رئيس الطائفة اليهودية، في شقتهم بالزمالك، وأن الرئيس أنور السادات راسل والده ليعلمه أنه سيعيد له ممتلكاته، لكن الأب كان قد توفي عند وصول الرسالة، ليبرز هنا الصلة الوثيقة بين العائلة والدولة، التي لم تكن في عداء مع اليهود المصريين رغم الأحداث السياسية المعقدة وقتها.

قرار خطأ!

لا تقدم السيرة انتقاداً لهجوم إسرائيل على مصر في حربي 1956 و1967، على عكس موقفه من دخول مصر في حرب 1948 ضد إسرائيل، الذي يصفه بأنه قرار خطأ من دون توضيح أسباب اعتباره كذلك. وفي المقابل، يحرص شيكوريل على تأكيد أن والده لم يكن صهيونياً، "أعلم أن أبي لم يكن صهيونياً إطلاقاً، بل على العكس تماماً لم يتصور قط إسرائيل وجهة لعائلته" (ص118)، على رغم أن بعض أقاربه هاجروا لاحقاً إليها. ويشير المترجم إلى قانون العودة الإسرائيلي الصادر في 5 يوليو (تموز) 1950، الذي يمنح كل يهودي، أو كل شخص له جد يهودي أو أكثر، وأزواجهم، الحق في الانتقال إلى إسرائيل والحصول على جنسيتها، مشيراً في القسم الأول إلى أن كل يهودي له الحق في الهجرة إلى البلاد. ويلاحظ أن المترجم لم يعلق على الآثار الإنسانية والسياسية لهذا القانون، الذي أسهم في تكوين الشتات الفلسطيني ونزوح أكثر من 8 ملايين فلسطيني حول العالم.

ومن الأمور اللافتة في الكتاب أن شيكوريل يذكر توقيف والده في مطار القاهرة قبيل هجرتهم، لكنه لا يوضح الأسباب التي دعت إلى هذا التوقيف، ولا كيفية خروجه من مصر بعدها. كدأبه في مذكراته، بترك فجوات في ما يتعلق بالجانب السياسي، مفضلاً التركيز على البعد العاطفي في سرد قصة حياته وعائلته في مصر.

تقدم هذه السيرة صورة لامعة تدعو إلى الإعجاب بمؤلفها رونالد مورينو شيكوريل (1945-) متعدد الثقافات واسع الاطلاع يجمع بين الجانب الأدبي والعلمي، عالم رياضيات وفيلسوف وأكاديمي، أنشأ عدة شركات في مجالات الطيران والتعليم والنشر في بلدان مختلفة، محب للموسيقي والفنون بجميع أشكالها، يتقن أربع لغات هي الفرنسية والإنجليزية والإيطالية والألمانية، لكنه لا يتقن العربية.

بقيت الإشارة إلى اجتهاد المترجم في وضع هوامش للشخصيات والأحداث التي ترد في نص السيرة ولعل أهمها إشارة لتغير دلالة كلمة إسرائيلي، فقبل 1948م كانت تطلق بمعناها الديني على المنتمين لمختلف طوائف اليهود، فيكتب في خانة الديانة في هوياتهم: إسرائيلي.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة