ملخص
ما الذي يحدث حقاً عندما يهتز هاتفك بإشعار جديد؟ كيف تتحول تلك النقرات البسيطة إلى عاصفة هرمونية تغير من حالتك النفسية والجسدية؟ ولماذا نشعر بهذا الإلحاح الغريب للعودة باستمرار إلى تلك المنصات الزرقاء؟
في صمت، وبينما تنتقل أصابعك بسرعة خاطفة بين المنشورات والإعجابات، تحدث ثورة كيميائية معقدة داخل جسدك، إنها ليست مجرد كلمات وصور وفيديوهات تتصفحها، بل هي رحلة هرمونية غامضة، ترتفع وتنخفض موجات كيميائية تضبط مزاجك، وتتحكم في تحفيزك، وتؤثر على نومك، بل وحتى على علاقاتك الإنسانية.
فما الذي يحدث حقاً عندما يهتز هاتفك بإشعار جديد؟ كيف تتحول تلك النقرات البسيطة إلى عاصفة هرمونية تغير من حالتك النفسية والجسدية؟ ولماذا نشعر بهذا الإلحاح الغريب للعودة باستمرار إلى تلك المنصات الزرقاء؟
هنا يبدو أن السر لا يكمن في المحتوى الذي يُشاهد فقط، بل في التفاعل الكيميائي المعقد الذي يثيره في أعماق أدمغتنا، إنها قصة هرموناتنا الأربعة الرئيسة: "السيراتونين" الذي يحاول أن يعدل مزاجك، و"الدوبامين" الذي يمنحك نشوة المكافأة مع كل إعجاب، و"الميلاتونين" الذي يختل توازنه مع الضوء الأزرق، و"الأوكسيتوسين" الذي يبحث عن اتصال حقيقي في عالم افتراضي.
تواصل غير طبيعي
يستبدل الناس، ببطء وثبات، التفاعلات الإنسانية المباشرة بالمتعة الرخيصة والرضا الفوري الذي توفره وسائل التواصل الاجتماعي، وكلنا مذنب في هذا التحول، فغالبيتنا لدينا حساب على "فيسبوك" ونتفقده باستمرار، ولكن ماذا لو كنا نعرف الجانب المظلم لهذا الانتشار الاجتماعي الذي يبدو غير مؤذٍ؟ فجميعنا لم نفكر ونحن نتصفح على "فيسبوك" أننا نضرّ بمستويات هرمون الأوكسيتوسين لدينا مثلاً.
في الحقيقية نحن نضر بعدد من الهرمونات في جسدنا، وبدل أخذها من مصادرها الطبيعية نلهث خلف شاشاتنا من دون وعي أننا نسهم في تشويه أدمغتنا وخداعها ببعض المنشورات والصور والتفاعلات التي تحدث ونحن ثابتون في أماكننا، فيما يجب على هذه الهرمونات أن تفرز ونحن نقوم بفعل وحركة واضحة في الواقع.
هناك أربع هرومونات أساسية تتضرر من وسائل التواصل الاجتماعي، ثلاثة منها نحتاجها لنشعر بالسعادة وهم الأكسيتوسين والدوبامين والسيراتونين، أما الهرمون الرابع الذي ينظم حياتنا لكي ننام ونستعيد عافيتنا فهو الميلاتونين، ولكل هرمون من هذه الهرومونات توقيت محدد لها، والتعرض لوسائل التواصل الاجتماعي يجعل إفرازها عشوائياً، إذ يستطيع المتصفح الحصول عليها في أي وقت أراد، وهذا يصنف في خانة غير الطبيعي.
بين المزاج والمكافأة
إن السبب الحقيقي وراء تصفح الهاتف من دون وعي هو السيروتونين، فوفقاً لموقع Verywell Mind الذي يقدم إرشادات حول كيفية تحسين الصحة النفسية وتحقيق التوازن، فإن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي يزيد من إنتاج السيروتونين، وهو ناقل عصبي يُشار إليه باسم المادة الكيميائية المسؤولة عن السعادة وتعديل المزاج، ويفرز أثناء التواجد في الطبيعة أو أن يجلس الشخص في مكان هادئ يستمع لصوت العصافير والبحر أو يصلي أو يقوم بالتأمل فهو مرتبط بالروحانيات، واليوم هناك تطبيقات تعطي السيراتونين مثل calm وهنا يظن الشخص أنه يعيش اللحظة ولكنه في الواقع لا يعيشها، فالنواقل العصبية مثل السيروتونين هي رسل كيميائية تنقل الإشارات وتوازنها بين الخلايا العصبية والخلايا العصبية الأخرى في الجسم، ويمكن أن تؤثر على العوامل الجسدية والنفسية بما في ذلك المزاج ومعدل ضربات القلب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويعتبر السيروتونين أساسي لوظائف الجسم، وبحسب مجلة "ميديكال نيوز توداي" فإن نقص السيروتونين قد يسبب الاكتئاب، بينما قد يسبب ارتفاعه الانفعال وزيادة معدل ضربات القلب، ويرتبط السيروتونين بهذه الأعراض لأنه ينظم هرمون الدوبامين الذي يلعب دوراً في السلوك، فعندما يُقيد السيروتونين نظام الدوبامين يُصبح مفرط النشاط مما يزيد من الدوافع العدوانية.
وعليه ليس السيروتونين الناقل العصبي الوحيد الذي يلعب دوراً في اللجوء دائماً إلى وسائل التواصل الاجتماعي، فالدوبامين له دور في هذه المشكلة، إذ إن هذا السلوك يتحول إلى إدمان، فهرمون الدوبامين مثلاً هو المحرك الرئيسي لعديد من وظائف الدماغ، ويمنح الشعور بالمتعة عند القيام بالأفعال المرغوبة، وأيضاً الدوبامين مرتبط مباشرةً بالحركة والذاكرة والتعزيز والمكافأة، وهو ما يدفع الناس إلى التحقق من هواتفهم باستمرار لإشباع رغباتهم. وفي حين أن كلا الناقلين العصبيين يرتبطان بكيفية تجربة الشخص للمتعة، فإن السيروتونين يؤثر على الحال المزاجية، في حين أن الدوبامين مرتبط بالسلوك المحفز بالمكافأة.
الهرمون الأقوى
ولكي تكتمل دائرة هرمونات السعادة يجب أن يفرز هرمون الأوكسيتوسين، الذي يقال عنه إنه أقوى هذه الهرمونات الثلاثة، ويُطلق عليه أحياناً هرمون العناق، وهرمون الترابط، وهرمون الثقة، فهو فعال وقوي جداً في الجسد، إنه السبب الذي يجعلك ترغب في البكاء طوال الليل في السرير بعد انفصال عاطفي شديد، إذ يكون الشخص في حال من فقدان مخزون الأوكسيتوسين لديه فيستجيب الجسم للتوتر، وهنا يحتاج إلى الأوكسيتوسين ليشعر بالراحة.
ويعتبر الأوكسيتوسين هرموناً قوياً يعمل كناقل عصبي في الدماغ، ويُنظّم التفاعل الاجتماعي والتكاثر الجنسي، ويلعب دوراً في سلوكيات متنوعة، بدءاً من الترابط بين الأم والرضيع، وصولاً إلى التعاطف والكرم والنشوة الجنسية، فعندما نعانق أو نُقبّل شخصاً عزيزاً سترتفع مستويات الأوكسيتوسين، ولذلك يُطلق عليه غالباً "هرمون الحب".
أما من الناحية التطورية، فقد اعتمد أسلافنا على هرمون الأوكسيتوسين لتقوية العلاقات الوثيقة مع بعضهم بعضاً والتكاثر وبناء مجتمعات قائمة على البقاء، فضلاً عن تشكيل شراكات رومانسية قوية، لذا فقد خدمنا الأوكسيتوسين جيداً في الماضي، وهو ما زال يخدمنا اليوم أيضاً، ولكن هناك جانباً آخر فيه الآن يُسبب خللاً في عديد من أنظمتنا البيولوجية التطورية القديمة، فنحن نحصل على أوكسيتوسين مزيف عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وذلك من خلال تفاعلات القلوب الحمراء، أو عندما نقرأ تعليقاً لأحدهم يبرز حبه واهتمامه بنا، هنا تفرز أدمغتنا هذا الهرمون ظناً منها أن هناك فعلاً حباً قد حدث.
الأمر نفسه الذي يعيشه المدمن على الإباحيات، حيث يظن أن هناك اتصالاً ما حدث فيفرز الهرمون، ولكن في الواقع لم يحدث شيء، وفي كل مرة يحتاج الإنسان فيها إلى دعم سوف يلجأ إلى هذه السلوكيات المدمرة ليشعر بالتعويض، ولكنه في هذه الحال، بحسب علماء النفس، يغوص أكثر وأكثر في الإدمان. إذ في كثير من الأحيان، تُقلل وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من عوامل العصر الحديث من التواصل الاجتماعي المباشر، وتُفاقم مشاعر العزلة الاجتماعية أو الشعور بأن الشخص غريب ولا يستحق الحب والانتماء. بمعنى آخر، فالدردشة مع صديق على "فيسبوك" لن تُعزز مستويات الأوكسيتوسين بالقدر الذي تُعززه الدردشة معه وجهاً لوجه، لذلك من المهم ألا يدع الشخص علاقاته الإلكترونية تحل محل الواقعية.
ضوء أزرق
وعليه فإن الهرمونات الثلاثة السابقة مرتبطة ببعضها بعضاً، فلا نستطيع أن نقول سيراتونين من دون الدوبامين، ولا أن نقول أوكسيتوسين من دون الدوبامين، فهي هرمونات متكاملة وتدعم بعضها بعضاً في شعور الإنسان بالسعادة في الحال الطبيعية.
أما في ما يخص الهرمون الرابع، فمن المعروف أن النظر إلى شاشات الهواتف يؤثر على النوم، إذ تُصدر الهواتف المحمولة ضوءاً أزرق في الغالب، وهذه الأطوال الموجية تُساعدنا بشكل خاص على التركيز والإنتاجية، لذا فهي مثالية لاستخدام الهاتف أثناء النهار. ولكن في الليل فهذا ليس مثالياً، إذ إن التعرض للضوء يُنبهنا للاستيقاظ، لذلك فالنظر إلى ضوء ساطع من الهاتف قبل النوم مباشرةً يُخبر الجسم أن وقت الاستيقاظ لا يزال قائماً ولم يحن وقت النوم.
في الحال الطبيعية للساعات التي تسبق خلودنا للنوم، ومع انخفاض مستويات الضوء الطبيعي، تبدأ أدمغتنا بإنتاج هرمون الميلاتونين مما يُقلل من يقظتنا، إذ يُرسل هذا الهرمون إشارات إلى أجسامنا للاسترخاء والاستعداد للنوم. لذا يؤثر الضوء الأزرق المنبعث من الهواتف المحمولة على مستويات الميلاتونين لدينا أكثر من أي طول موجي آخر، إذ يُرسل الضوء إلى دماغك رسالة بأن النهار قد حل أو مستمر فيُثبط إنتاج الميلاتونين ويتأخر النوم، وفي الواقع من دون إشارة الميلاتونين لنا بأننا نشعر بالنعاس نبقى مستيقظين ومتيقظين في حال من الإثارة المعرفية.
إن قلة النوم أو اضطرابه سوف يؤثر في اليوم التالي على عدد كبير من الهرمونات ومنها السعادة، إذ ترتبط جودة هذه الهرمونات وحساسيتها بجودة النوم، فمثلاً يؤثر اضطراب النوم على هرمون الدوبامين ويقلل حساسيته مما يجعل الشخص يشعر بانخفاض الطاقة أو انعدام التحفيز، بالتالي سيعود إلى دوامة وسائل التواصل ليحصل على هذه الهرمونات بطريقة سيئة ومضرة للتعويض.