ملخص
في كتابه السردي الجديد "أوراق درب قديم" الصادر ضمن منشورات "بيبليو لوغيد"، يعتمد الكاتب المغربي المصطفى حاكا على الذاكرة باعتبارها "الجنة التي لا يمكن أن يخرجنا منها القدر"، على حد تعبير ألكسندر دوما، ليدلي الكاتب بدلائه إلى المياه العميقة حيث الطفولة هي المنبع الذي لا ينضب، وحيث الشباب والإدراكات الأولى لعالم بات يتغير باطراد.
المصطفى الحاكا مهووس بتعقب الرموز والشخصيات في المدينة التي ينتمي إليها، وهي ليست بالضرورة الرموز التي حظيت بشهرة ما أو كانت لديها سلطة سياسية أو اجتماعية أو مادية، فالكائنات السردية لدى الحاكا تأتي من الهامش في الغالب وتعود له، وهو يحاول من خلال الأدب أن يمنحها سلطة رمزية ويخرجها من ظلام النسيان ويضعها في المساحات الضوئية التي تتيحها القراءة وتداول الأدب.
تأتي"أوراق درب قديم" امتداداً لمشروع المصطفى حاكا في الكشف عن صفحات من التاريخ المنسي للمدينة، ونستعيد في هذا الصدد مؤلفاته السابقة، رواية "أناس عرفتهم" ورواية "مسار صالح بن بوشعيب الشبيهي"، فضلاً عن روايته الأحدث "درب الكرامة".
يبدو الكاتب مشغولاً بالحكي أكثر من انشغاله بتقنيات الكتابة نفسها، فثمة رغبة جامحة في أن ينقل للقارئ أحداثاً غزيرة ومشاهد مركبة ومتعاقبة في وعاء لغوي مكثف.
يحس القارئ بهذه الحال الأدبية وهو يقلب صفحات الكتاب، إذ يجنح السارد في حشد الشخوص والتفاصيل في أبنية سردية قد تبدو أحياناً متنافرة لكنها تنطلق من البوثقة ذاتها، أي ثراء الهامش وغزارة تفاصيله، وهذا الثراء في عين الكاتب وتصوره هو ما يبرر هذه التجاورات السردية بين أحداث تتفاوت قيمتها التاريخية والثقافية، وشخصيات متباعدة على المستوى النفسي والاجتماعي.
في "أوراق درب قديم" يحضر المكان بشكل طاغ في هذه المحكيات التي تصير معها الذاكرة آلة الكتابة ووسيلتها، وقد كان محمود درويش يقول "من دون ذاكرة لا توجد علاقة حقيقية مع المكان"، وهكذا يجوس القارئ أمكنة شابها التغيير أو آلت إلى الزوال، ولذلك يحضر الخطاب الفجائعي في محكيات الكتاب.
كتابة تحت تأثير الحنين
يعود حاكا لآسفي القديمة التي لم تعد كما كانت، فثمة مسحة من النوستالجيا تغلف كتاباته، وربما يكون الحنين هو الموجه الأول لدفة الكتابة لديه، فيلوذ الكاتب بلغة يفهمها الجميع متوخياً نقل المشاعر التي تعتمل في ذوات الشخصيات وهي تواجه مصائرها، وما يهمه هو أن ينقل لنا الطرافة أو المعاناة على نحو يجعلنا نصدق الحكاية ونتعاطف مع أطرافها، فتنبعث من نصوص حاكا حرارة الصدق وتتدفق منها أيضاً مياه الإنسانية.
يتوقف الكاتب عند الصداقة والعداوة والفقر والدعارة والجوار والتعايش والشجاعة، وينتقد ما عرفته لغة الشباب من تحول نحو البذاءة، كما يتحسر على ساحة كانت فضاء للحكواتيين ثم اشتراها منعش عقاري وحولها إلى تجزئة سكنية.
يتوقف أيضا عند شخصية كوليكو الذي يرأف بحماره فيجر العربة من حين لآخر بدلاً منه وسط ذهول الناس واستغرابهم، وتحضر فاطنة بنت الحسين، بما هي رمز للغناء الشعبي العميق والعريق، وتحضر القايدة باعتبارها الرمز النسائي الأول للمرأة المناضلة في آسفي، كما يحضر عبدالكريم الفيلالي رائد الشعر العامي في المغرب والذي كان يجول المدن بآلته الوترية خلال القرن الماضي، مغنيا قصائد ألفها ولحنها بنفسه، في حلقات كانت تقام في الساحات والأسواق الشعبية ثم انقرضت بالتدريج.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تنتمي شخصيات الحاكا في الغالب إلى الهامش الاجتماعي لكن حضورها غير المرئي لدى الآخرين هو ما يجذب الكاتب إليه، فتأثير شخصيات من قبيل تيتي النفار وكولومبو وزهرة الرجراجية وفطومة له وقع هائل على ذاكرة طفل تشكّل له هذه التقاطعات الاجتماعية محطات متعاقبة لاكتشاف العالم.
يحس القارئ وهو يتعقب محكيات "أوراق درب قديم" أن الكاتب يطرح في كل نص سؤالاً جوهرياً يمكن صياغته على النحو التالي: "ما الذي وقع لهذه المدينة؟"، وهو بهذا السؤال لا يحاكم المكان وحسب بل يسائل العناصر التي تشكله بعاداتها وطقوسها وسلوكاتها.
إنه يحس بغربة مزدوجة في المكان والزمان، فالذين عاش معهم طفولته رحلوا تباعاً، أما البساطة والعفوية والصدق والكرم والعطاء من دون انتظار المقابل فهي عناصر قد انقرضت، أو في الأقل آلت إلى الندرة.
ثمة مشاعر محتدمة تجعل أوراق المصطفى حاكا غير قادرة على التوقف عن الحركة وخارج كل سكينة، إذ إن وظيفة الكتابة هي التشويش على ثبات القارئ وقبوله لما يحيط به بما يشبه الهزيمة، فالكاتب يبطن نصوصه بصرخة خفيضة تدعو القارئ إلى العودة لإنسانيته وعدم الانجراف مع التيار المتسارع لحياتنا الراهنة، الحياة التي صارت موسومة بالتعقد والتشابك والاضطراب، ونسيان الآخر أو إلغائه والاعتكاف على تحقيق مآرب فردية تجعل الكائن آلة معزولة خارج كل إطار إنساني.