ملخص
يعد من سلبيات اعتماد النظام الفيدرالي الإثني في إثيوبيا طغيان النفوذ السياسي لقومية بعينها على القوميات الأخرى، بينما تقوم الرؤية الجديدة لرئيس الوزراء آبي أحمد على التوحد والتآزر ومشاركة الجميع في صنع القرارات السياسية.
تشير المعطيات الحالية في السياسة الإثيوبية إلى مزج بين روح التنافس والواقع والرؤية المستقبلية، فمنذ تولي رئيس الوزراء آبي أحمد الحكم، يؤرَّخ لفترة تاريخية ونقلة سياسية جديدة يقودها "حزب الازدهار" الحاكم كبديل سياسي وبرامجي للائتلاف السابق بزعامة "الجبهة الثورية الديمقراطية للشعوب الإثيوبية" (EPRDF)، ومن ثم يتبع الواقع الجديد الذي يحكمه رئيس وزراء من قومية الأرومو للمرة الأولى في تاريخ البلاد أرضية جديدة في التحالفات... فكيف لنا أن نقرأ واقع إثيوبيا الحالي بخلفيات الماضي؟ وإلى أي مدى يعطي الحاضر نجاحاً في ظل تحديات التنافس السياسي ذي الامتداد العرقي القديم والمتجدد؟
نشأت إثيوبيا القديمة من واقع بيئاتها ومعطياتها المحلية، ضمن ما عاشته مجتمعاتها القبلية من عزلة، إلى حين التأثير الغازي لتلك المجتمعات، نتيجة التداخلات بين البشر، وبقدر ما انعكست الطبيعة الجغرافية على واقع حياة السكان في استقلالية سياسية - اجتماعية عفوية طوال قرون ماضية، تطورت المجتمعات لاحقاً، وأدى التنافس العرقي إلى حروب داخلية في ما بينها، وفرضت واقعاً سياسياً في أماكن احتفظت باستقلاليتها كـ"إقطاعيات"، ضمن الحيز الجغرافي والتطابق العرقي في السكان، وهو الذي سيؤثر لاحقاً في طبيعة التنافس السياسي وتشكيل الدولة الإثيوبية في ما بين الواقع والأفق السياسي.
يقول المؤرخ الإثيوبي ساهيد أديجوموبي، "هناك ظاهرتان مهمتان ساعدتا في تشكيل تاريخ إثيوبيا الحديث، فقد مرت الدولة بسلسلة تغيرات من وضعيتها كدولة قوية في العصور الوسطى إلى تدهورها الاجتماعي والسياسي أواسط القرن الـ18، حين عانت إثيوبيا محلياً التمزق السياسي السريع بسبب تفسخ السلطات المدنية والسياسية والصراعات الصفرية بين الملوك والطبقة الناشئة للسادة الإقطاعيين. وتداعت الحكومة المركزية لتحل محلها السيادة المناطقية لحكام كان بين كثيرين منهم علاقات اجتماعية وسياسية واقتصادية لكنهم كانوا أيضاً متحاربين في ما بينهم في أغلب الأحوال، وبالنسبة إلى علاقة إثيوبيا الحديثة مع الخارج منذ أواخر القرن الـ19 حتى القرن الـ20 فقد كانت فريدة ولكن ذات مغزى رمزي لتاريخ أفريقيا السياسي والاقتصادي الحديث، حين كان يتم استيعاب القارة وفق التحولات في تشكيل القوى العالمية، وكانت أهمية البحر الأحمر في الشؤون العالمية آخذة في التزايد وحسب الأهمية الثلاثية التكاملية للأنشطة الثقافية والسياسية والاقتصادية، كذلك كان لتأثير أيديولوجيات الاستعمار والحرب الباردة، منذ أواخر القرن الـ19 حتى القرن الـ20، تداعياته على التشكيلات الإقليمية والأوضاع السياسية والعسكرية والاقتصادية في شرق أفريقيا".
وعلى رغم ما مثله الاستعمار الحديث من دور فاعل في كثير من البلدان الأفريقية فإن إثيوبيا ظلت في منأى عن التأثير الاستعماري المباشر في الجغرافيا والسكان، ويشير المؤرخ الإثيوبي أديجوموبي إلى ذلك بقوله، "أدت الطبيعة المتقطعة للمرتفعات الإثيوبية دوراً مهماً في تاريخها السياسي والثقافي، إذ برهنت هذه الكتل الجبلية العملاقة على كونها عقبات لا يمكن قهرها تقريباً أمام القادة السياسيين الطامحين بتوحيد البلاد، وأمام الغزاة الراغبين في فتحها وأمام من أقدموا على محاولات متقطعة لتنمية مواردها الاقتصادية".
رسالة مزدوجة
هذه الطبيعة الوعرة بقدر ما أدته من دور في الحفاظ على الثقافات القومية وأوضاع الشعوب المختلفة، فيرجع إليها أيضاً رسم الحدود بين الأقاليم والقوميات مما يشكل ازدواجاً في رسالتها، مع ما تبع ذلك من تمسك وحرص على الأرض والعشيرة، وممانعة الذوبان الحقيقي بين تلك الشعوب.
يمثل الواقع القومي في تركيبته المتباينة دوراً جوهرياً في المجتمع الإثيوبي الذي يتكون من ثلاث قوميات رئيسة وهي قومية الأرومو (35 في المئة) من السكان، والأمهرا (27 في المئة)، وقومية التيغراي (7 في المئة)، إضافة إلى القومية الصومالية التي تمثل 6.5 في المئة من السكان، إلى جانب الأعداد الكبيرة نسبياً من القوميات الأخرى كالسيداما والعفر والغراغي والولايتا والهدايا وبني شنقول والهرر، وغيرها.
فإثيوبيا ضمن تعدد التأثيرات التي يشير إليها المؤرخون، عاشت ظروفاً سياسية واجتماعية كان للواقع المحلي ضمن القوميات النافذة والمتنافسة دور أساس في طبيعة الصراع الذي لا يزال حتى اليوم عبر امتداداته العرقية المؤثرة على رغم الرؤى السياسية التي تحاول الانفكاك من تنافس عرقي إلى تبارٍ وطني سياسي قائم على المواطنة، وهو ما تشير إليه الفلسفة السياسية التي تقودها توجهات رئيس الوزراء آبي أحمد.
الفيدرالية الإثنية
لم تكن الفيدرالية الإثنية التي اعتمدها حكم "الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي" التي هيمنت على الدولة من عام 1991 إلى عام 2018، سوى إفراز لواقع تظلمات عاشتها الشعوب الإثيوبية طوال العهد الملكي الحديث خلال القرون الثلاثة الماضية على عهد كل من الإمبراطور منليك، والإمبراطور هيلاسلاسي، إلى جانب النظام الشيوعي للجنرال مانغستو هيلاماريام، مما ترتبت عليه عقدة مسكَنة وتظلّم لكثير من القوميات دفعتها إلى البحث عن إنصاف لتجد ضالتها في النظام الفيدرالي، الذي طُبِّق بإعطاء القوميات للمرة الأولى، حقوقاً سياسية في إدارة أقاليمها ضمن حدودها الإقليمية المتعارف عليها.
وعلى رغم ما جلبه النظام الفيدرالي من شعور قومي متحرر من هيمنة قومية الأمهرا ذات النفوذ السياسي والثقافي الطاغي، فقد أضاف محرك التحرر تنافساً إيجاباً بين القوميات في إدارة أقاليمها، والعمل على الصعود بها، وتبني جوانب محلية في اعتماد خصوصيات عدة، كاللغات القومية الخاصة بكل إثنية، وتنمية الموارد والثقافات المحلية المتنوعة والعادات من فلكلور ومناسبات، ارتبط الاحتفاء بها كتميز لكل قومية، بخاصة القوميات الكبيرة (الأرومو، والأمهرا، والتيغراي) مما أضاف قدراً من الثراء القومي.
أما السلبيات التي تبعت النظام الفيدرالي فتمثلت بطغيان النفوذ السياسي لقومية بعينها هي قومية التيغراي المهيمنة عبر "الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي"، وعدم الإنصاف السياسي للمكونات السياسية الأخرى، وظهور بوادر خلافات حدودية بين الأقاليم، إلى جانب فساد اقتصادي وتظلمات عدة بسبب جهات نافذة، وسياسات حكومية تتعلق بملكيات الأراضي قوبلت بالرفض من بعض القوميات بخاصة الأرومو ذات النفوذ العددي والأراضي الواسعة، تسبب كل ذلك باحتجاجات كبرى كانت حصيلتها مئات الضحايا مما أدى أخيراً إلى إفساح "الجبهة" الطريق، وتغيير النظام.
أول المتغيرات التي رافقت حكم آبي أحمد هي تبنيه "حزب الازدهار" كبديل سياسي للحاضنة السياسية السابقة "الجبهة الفيدرالية الديمقراطية للشعوب الإثيوبية" (EPRDF)، مما يمهد لنظام فيدرالي بديل للإثنية وتبني نظام سياسي مبني على فلسفة جديدة قائمة على المواطنة.
دولة مرهونة بواقعها القومي
تُعد إثيوبيا، في جميع تجاربها السياسية السابقة والماثلة، دولة مرهونة إلى حد كبير بواقعها القومي المركب الناتج من التنوع الإثني الواسع الذي يميزها، وفي الوقت ذاته المؤثر في مسار استقرارها، فهذا الواقع المتجذر تاريخياً وجغرافياً جعل من الصعب تحقيق معادلة سياسية متوازنة ترضي جميع المكونات القومية وتضمن استقراراً مستداماً، فقد ارتبطت البنية السياسية الإثيوبية منذ نشأة الدولة الحديثة بمحاولات متكررة لفرض مركزية السلطة، أو إعادة توزيعها بين المجموعات القومية الكبرى مثل الأمهرا والأرومو والتيغراي والصوماليين، وغيرها، وهو ما أنتج توترات مزمنة داخل النسيج الوطني.
إن التحديات التي يواجهها النظام الإثيوبي الحالي ليست سوى امتداد لتراكمات تاريخية، إذ فشلت الأنظمة المتعاقبة، سواء على عهد الإمبراطور هيلا سيلاسي، أو النظام العسكري لمنغستو هيلاماريام، أو حتى في عهد "الجبهة الثورية الديمقراطية للشعوب الإثيوبية" برئاسة رئيس الوزراء الراحل ملس زيناوي في بناء عقد اجتماعي عادل يقوم على التوازن بين الهوية القومية والمواطنة المتساوية، وعلى رغم الرؤى التي يتبناها "حزب الازدهار" والجهود المبذولة تجاه الوحدة الوطنية وما يدعو إليه الحزب الحاكم من فلسفة التآزر فلا تزال ملفات الهوية هي الطاغية في التمثيل والحدود الإدارية، مما أدى إلى النزاعات في بعض الأقاليم مثل تيغراي وأروميا وأمهرا.
على الصعيد الإقليمي، تتأثر إثيوبيا إلى جوارها الجغرافي الذي يمثل امتداداً للتحدي، بخاصة في منطقة القرن الأفريقي حيث تتشابك المصالح بالتأثيرات الإقليمية والدولية، فقضيتا سد النهضة والمنفذ البحري الذي تطالب به إثيوبيا وتسعى إلى اقتنائه كحق مصيري، ضاعفتا التوترات مع الجوار الإقليمي لا سيما مصر والسودان وإريتريا، ومثلتا بُعداً إضافياً للصراع بين الداخل الإثيوبي والأطراف الإقليمية، مما يجعل أي مسعى إلى تحقيق الاستقرار السياسي رهيناً بتوازن دقيق بين مقتضيات الأمن الداخلي القبلي ومتطلبات العلاقات الإقليمية والخارجية.
تأييد من كل الشعب
الكاتب والباحث في شؤون القرن الأفريقي عبدالرحمن أحمد قسم الواقع السياسي في إثيوبيا إلى ثلاث مراحل، الماضي والحاضر، والمستقبل، وقال إن "الوضع في إثيوبيا في الماضي انطبع بالأزمات المتلاحقة التي ترجع في أسبابها وجذورها إلى الحكم الإمبراطوري أو حكم الحزب الواحد أو سيطرة إثنية معينة على مقاليد السلطة والحكم، بانتهاء العهد الإمبراطوري انتقلنا إلى فترة جديدة سيطر فيها حزب يتبنى المعتقدات الشيوعية خلال حكم الجنرال منغستو هيلاماريام، وهي كذلك فترة لم تلب طموحات الإثيوبيين وتسببت بدخول البلاد في صراع أدى إلى انفصال جزء عزيز من الوطن وهو إريتريا، وتكون نظام جديد متعدد لكن كان طرف واحد هو المسيطر على الحكم".
وأشار إلى أنه "على رغم ما تم من تغيرات جذرية خلال هيمنة ’جبهة تحرير تيغراي‘، وإجراء تحولات سياسية شاملة في البلاد وإعطاء الأقاليم حكماً ذاتياً وبناء إثيوبيا على جغرافية سياسية إثنية، فهذه السياسات كانت بمثابة انفراجة، ولكنها أيضاً لم تلبّ طموحات الإثيوبيين، ثم جاءت المرحلة الحالية برئاسة رئيس الوزراء آبي أحمد الذي كان جزءاً من النظام السابق لكنه بدأ حكمه برؤية جديدة وفكر يقوم على التوحد والتآزر ومشاركة الجميع في صنع القرارات السياسية، وأصبح هناك انفتاح أكبر على الأحزاب السياسية، والأقاليم، وأيضاً على مشاركة المرأة بصورة كبيرة، ثم مشاركة السواد الأعظم من مختلف التوجهات، بما في ذلك المسلمون الذين نالوا حقوقهم الدينية والاعتراف بهم من البرلمان كمكون أساس ذي حقوق دينية كاملة"، وتابع عبدالرحمن أحمد "بالنظر إلى المستقبل يبدو أنه أفضل، إذ هناك رؤية أصبحت واضحة لدى القيادة الإثيوبية وهي تخطو بثبات لنقل إثيوبيا من الإثنية الجغرافية إلى الدولة المركزية ومشاركة كل القوميات الإثيوبية في المشهد السياسي، وهي رؤية رئيس الوزراء في ما يسمى هقر، وهي الرؤية الشاملة لإحداث نقلة حقيقية لإثيوبيا في كل المجالات (الزراعة والصناعة والتكنولوجيا) وهو طموح يرقى بإثيوبيا إلى مصاف الدول المتقدمة، وهذه الرؤية حسب رئيس الوزراء تقود المجتمع إلى الخروج من حيز الصراع الإثني، وأيضاً الصراع على مراكز السلطة، إلى التعاون والتآزر بين كل القوميات والأقاليم، وتواجه هذه الرؤية بالطبع تحديات في الصراع على النفوذ الذي يظل قائماً على الإثنية، لكن هناك اقتناعاً كبيراً من قطاعات الشعب والأقاليم الإثيوبية يجمع على أن سياسات آبي أحمد يمكن أن تنقل إثيوبيا من ربقة المشكلات التي ظلت ذات جذور منذ القدم إلى واقع أفضل، والآن يعمل رئيس الوزراء على إزالة أسباب الصراع وجذوره ونقل إثيوبيا إلى واقع أفضل بتأييد من كل الشعب الإثيوبي بمختلف أطيافه، ومن الواضح أن هناك إصلاحات شاملة في القطاع الزراعي والبنى التحتية، واهتماماً بالتنمية في كل أشكالها بما في ذلك الطرق والمرافق والسياحة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الرحلة من الملكية إلى الإثنية
رئيس المعهد الإثيوبي للدبلوماسية الشعبية ياسين أحمد قال إن "النظام السياسي في إثيوبيا شهد تحولاً جذرياً من الحكم الملكي إلى النظام الجمهوري البرلماني الحالي عبر مراحل رئيسة عدة بدأت منذ عام 1974، إذ يعتبر النظام الملكي في إثيوبيا أطول نظام حكم في تاريخ الحبشة قديماً، وإثيوبيا حديثاً حين بدأ الحكم الملكي في الحبشة سابقاً مع مملكة أكسوم التي أسست في القرن الأول الميلادي بعد سقوط مملكة كوش التي نشأت نحو عام 2400 قبل الميلاد، واستمرت مملكة الحبشة تحت سلالات مختلفة، أبرزها السلالة السليمانية، حتى انتهى الحكم الملكي رسمياً بإطاحة الإمبراطور هيلا سيلاسي آخر ملوك السليمانية في الـ12 من سبتمبر (أيلول) 1974 على يد ’الديرغ‘ (المجلس العسكري الثوري الشيوعي) الذي ألغى النظام الملكي في الـ12 من مارس (آذار) 1975، وخلال العهد الملكي الذي استمر لقرون كانت معظم النخب الحاكمة من الملوك الذين حكموا مملكة الحبشة من الهضبة الحبشية ينتمون إلى المجموعة السامية التي تتكون من قوميات عدة أبرزها قوميتا التيغراي والأمهرا اللتان كانتا تتنافسان على قيادة الحكم الملكي بينما المجموعة الكوشية التي تشمل الأرومو والعفر والصوماليين فلم يكن لها نصيب في تقاسم السلطة، وذلك بسبب احتكار السلطة النظام الملكي من قبل المجموعة السامية في هضبة الحبشة"، وأضاف أن "الجمهورية الثانية وهي جمهورية إثيوبيا الفيدرالية الديمقراطية بدأت عام 1991 واعتمدت نظام ’الفيدرالية الإثنية‘ أو المحاصصة بين الإثنيات والقوميات الإثيوبية، وهي محاولة لإنتاج نظام سياسي جديد قائم على المساواة بين القوميات الإثيوبية في تقاسم السلطة والثروة في إثيوبيا وإنهاء الهيمنة المطلقة لقومية الأمهرا التي كانت تحتكر كل السلطات في العهدين الملكي والشيوعي"، وأوضح أن "الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي تُعتبر عرابة النظام الفيدرالي الإثني في إثيوبيا الذي تم تثبيته في الدستور عام 1995، لكن تم تطبيقه بالمفهوم الخاص للجبهة خدمةً لمصالحها وأهدافها السياسية وكأداة للهيمنة واحتكار السلطات وتعزيز وترسيخ الهويات الإثنية لكل القوميات على حساب الهوية الإثيوبية والمواطنة الإثيوبية، وعلى رغم الإيجابيات الكثيرة نظرياً للنظام الفيدرالي الإثني، فإن من سيئاته الكبرى أنه رسخ التعصب للهوية الإثنية لدى كثيرين، وقُسِّمت إثيوبيا بموجبه إلى تسعة أقاليم على أساس إثني ولغوي كمعيار للفيدرالية، إلا أن هذا المعيار الإثني واللغوي لم يطبَّق على إقليم الجنوب الذي كان يضم 56 إثنية وقومية".
وزاد ياسين أحمد أن "الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي تربعت على حكم إثيوبيا مدة 27 عاماً، ولوحظ طوال هذه المدة أنه لم تظهر لها مطالب بالانفصال عن إثيوبيا وإعلان دولة تيغراي الكبرى، لأنها تنازلت عن تلك الفكرة خلال فترة النضال المسلح في سبعينيات القرن الماضي، ولكن بمجرد ما فقدت ’الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي‘ السلطة المركزية في إثيوبيا بدأت بإحياء فكرة الانفصال، لتلوح بها كورقة ضغط على الحكومة في أديس أبابا كتكتيك وليس كخيار إستراتيجي، لأنها تعلم جيداً أن إقليم تيغراي ليس لديه مقومات بناء دولة مستقلة، وكذلك شعب تيغراي لن يقبل أن ينفصل عن إثيوبيا إذا أتيحت له الحرية الكاملة في الاختيار من دون إكراه من قبل الجبهة الشعبية".
الهوية الإثنية درع سياسية
وأشار ياسين أحمد إلى أن "معظم النخب السياسية الإثيوبية التي تقود الأحزاب الإثنية والقومية تتخذ من الانتماء والهوية الإثنية لشعوبها دروعاً سياسية تحتمي خلفها لتحقيق أهدافها السياسية كي تصل إلى السلطة، ودوافع تأسيس الأحزاب في إثيوبيا على أساس المكون الإثني والقومي نشأت مع حركات التحرر والانفصال عن إثيوبيا في خمسينيات القرن الماضي، حين كانت هذه الأحزاب تطالب بحقوق القوميات لأنها كانت مهمشة من قبل الأنظمة المتعاقبة التي كانت تسيطر عليها النخب من قومية الأمهرا، وعليه استُغل هذا التراكم التاريخي والرصيد الثقافي للهوية الإثنية التي ترسخت لدى كل القوميات الإثيوبية من قبل النخب السياسية التي كانت تقود الحركات الإثنية ونجحت في توظيفها سياسياً، وأسست أحزاباً سياسية على أساس المكون الإثني وليس على أساس الأيديولوجية السياسية القائمة على المواطنة، ولذلك جاء الدستور الإثيوبي عام 1995 بالنظام الفيدرالي الإثني كتسوية سياسية بين الأحزاب الإثنية والقومية التي ناضلت من أجل حقوق القوميات والمساواة بينها أو الانفصال وتكوين دول مستقلة ذات سيادة".
ولفت أحمد إلى أنه "بعد تجربة النظام الفيدرالي الإثني في إثيوبيا على مدى 30 عاماً، بدأت توجهات سياسية جديدة تتشكل لدى الشعب الإثيوبي وبخاصة في أوساط الشباب لتطوير النظام الفيدرالي الإثني إلى نظام فيدرالي ديمقراطي قائم على تقسيم الأقاليم على أساس جغرافي وإداري وإلغاء الحدود الإثنية السياسية لتعزيز مبدأ المواطنة، وهناك مؤشرات إلى التوجهات التي تقدم الهوية الوطنية ومنها تأسيس أحزاب على أساس أيديولوجي، ومنها على سبيل المثال، حزب الازدهار وحزب أزيما، وحزب الحرية والعدالة، وأحزاب أخرى ستغير وجهة العمل السياسي والخريطة السياسية للأحزاب السياسية في إثيوبيا، والتي بدورها قد تسهم في تعديل الدستور الإثيوبي لكي تحقق للشعب تطلعاته بالانتقال إلى النظام الفيدرالي الديمقراطي على أساس المواطنة ومن ثم طيّ حقبة الفيدرالية الإثنية التي قسمت الإثيوبيين وأدخلتهم في صراعات إثنية وقومية دفعوا ثمنها خسائر باهظة".
مرحلة تاريخية جديدة
"تعيش إثيوبيا لحظة حرجة تتشابك فيها ذكريات الماضي العرقي مع تحديات الحاضر وطموحات المستقبل"، بحسب الكاتب والباحث في الشؤون الأفريقية عمار العركي، الذي رأى أنه "منذ تولي آبي أحمد رئاسة الوزراء بدأت مرحلة تاريخية جديدة، فرضت واقعاً سياسياً مختلفاً على المشهد الإثيوبي، على رغم أن جذور السلطة الحالية ما زالت مرتبطة بالائتلاف الحاكم السابق (EPRDF) والجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، التي حكمت إثيوبيا عقوداً طويلة، إلا أن صعود آبي أحمد، المنتمي إلى قومية الأرومو للمرة الأولى، أعاد رسم خريطة التحالفات السياسية في البلاد عبر ائتلاف حزب الازدهار، محاولاً صياغة مشروع وطني جديد يتجاوز هيمنة التيغراي التقليدية، ويخلق أرضية جديدة للمنافسة والتوازن بين القوى المختلفة". وأشار العركي إلى أنه "لفهم واقع إثيوبيا الحالي لا يمكن فصل المشهد عن الجذور التاريخية للصراعات العرقية والسياسية، فالصراعات القديمة بين التيغراي والأمهرا لم تختفِ، بل أعادت الماضي، وعلى رأسها الحرب في تيغراي، هذه الحرب أكدت هشاشة اتفاقات السلام وأظهرت مدى تأثير التوترات العرقية في الاستقرار السياسي، وأبرزت دور التحالفات الإقليمية والدولية في إعادة تشكيل موازين القوة الداخلية".
في الوقت نفسه، تلوح فرص محدودة للنجاح، شريطة القدرة على إدارة التنافس السياسي والامتداد العرقي القديم والمتجدد، فإرادة الحكومة لإعادة ترتيب التحالفات وتعزيز الوحدة الوطنية تصطدم باستمرار بمخلفات الماضي، وتحديات القوى الإقليمية، وتطلعات الجماعات العرقية المختلفة التي تسعى إلى مزيد من التمثيل والسلطة، وتابع، "النجاح ممكن إذا تم توظيف الدروس التاريخية بطريقة إستراتيجية، بتعزيز الحوار الوطني، مع الالتزام الدستوري، ومراعاة التوازن بين مصالح المجموعات العرقية المختلفة، مع الأخذ بالاعتبار تأثير التحالفات الإقليمية والدولية، فكل خطوة سياسية يجب أن تراعي التوترات العميقة الجذور، من دون استبعاد طموحات المستقبل". وختم بالقول "في النهاية، إثيوبيا تقف اليوم عند مفترق طرق حقيقي، فبينما تشكل التجربة الحالية فرصة لبناء مشروع سياسي متعدد القوميات، تظل الصراعات القديمة وامتداداتها العرقية اختباراً لقدرة الحكومة على تحويل الأزمات التاريخية إلى فرصة للاستقرار المستدام. الوعي بالماضي، واستثمار الحاضر ضمن رؤية واقعية للجوار الإقليمي بتأثيره المهم، يشكلان السبيل الوحيد لتحقيق نجاح طويل الأمد في إثيوبيا".