ملخص
إنه ليس وحشاً يخاف منه الناس، بل فيلسوف منفي يبحث عن معنى وجوده. جاكوب إلوردي يجسده كقدّيس معذّب، وديل تورو يصفه فعلاً بأنه "قدّيسه الحامي". للمرة الأولى في تاريخ القصة، لا يُلعن المخلوق بسبب قبحه، بل يُبارَك بسبب طهارته. القبح الحقيقي، يقول الفيلم، هو العجز عن المحبة.
ثمة شخصيات في السينما لا تموت أبداً، بل تتبدّل ملامحها فحسب. دراكولا، هاملت، شيرلوك هولمز وفوق الجميع، فرانكشتاين. فكل تجسيد جديد له ليس إعادة إنتاج، بل إعادة ولادة، محاولة من زمنٍ جديد للإجابة على السؤال القديم نفسه: ماذا يحدث حين يثور الخلق على خالقه؟ منذ أن ظهر فرانكشتاين على الشاشة عام 1910 في فيلم صامت مدته 16 دقيقة من إنتاج استوديو إديسون، والسينمائيون يعيدون إحياء أسطورة الروائية الإنجليزية ماري شيلي لتعبّر عن قلق عصرهم.
في المقابل، قدّمت نسخة المخرج جيمس وايل عام 1931 لنا الصورة الأشهر للوحش (جسد بوريس كارلوف الضخم ووجهه البريء المذعور). بات فرانكشتاين في زمن الحرب الباردة، رمزاً لهلع البشرية من العلم الجامح والقنبلة الذرية. أما المخرج البريطاني كينيث براناه في نسخته عام 1994 فقد حوّله إلى مأساة رومنسية عن الهوس بالعظمة والخلود. حتى الأميركي ميل بروكس في "فرانكشتاين الصغير" (1974) جعل منه ملهاة، مؤكداً أن السخرية أيضاً شكل من أشكال التبجيل.
واليوم، يأتي غييرمو ديل تورو- سيد الوحوش المكسيكي- ليقدّم نسخته التي لا تشبه أي نسخة سابقة (تعرض على نتفليكس). فرانكشتاين بالنسبة إليه ليس مجرّد فيلم، بل نذرٌ قديم حقّقه أخيراً، "إنجيله الشخصي"، كما وصفه هو نفسه. ويبدو ذلك جلياً في كل لقطة: فكل إطار في الفيلم ينبض بخشوع تجاه أسطورة شيلي، وتجاه الأرواح الجريحة التي تسكن عالمها.
الهوية
من المشهد الأول، يعلن الفيلم هويته: إنه عمل من أعمال ديل تورو في كل تفصيل. الكاميرا تنزلق بين مختبرات تضيئها الشموع ومقابر يغمرها الضباب، بتصويرٍ يشبه كتابة الشعر بالضوء. تصميم الديكور ماديّ وملموس، ضخم ومفعم بالحياة - غذاء بصري، لا حلوى بصرية كما يقول ديل تورو دائماً.
لا مؤثرات رقمية جوفاء، بل عالم مصنوع من الخشب والحجر والظل. السينماتوغرافيا في الفيلم تبدو كأنها منحوتة من الزجاج، تجعل من أوروبا الفيكتورية حلماً يتنفس. كل غرض يحمل ذاكرته الخاصة، وكل ممرّ يهمس بأشباحه. النتيجة عجيبة: عالم ساحر ومخيف في آن، لا يثير الرعب بل التأمل. فالرعب الحقيقي هنا لا ينبع من الدماء، بل من التعرف إلى أنفسنا في المخلوق.
فيكتور وظلّ الأب
في أداءٍ متقن، يجسّد أوسكار إسحاق شخصية فيكتور فرانكشتاين لا كعالِم مجنون، بل كابنٍ جريح. يبدأ الفيلم بطفولته تحت سلطة أب قاس (يؤدي دوره تشارلز دانس)، طبيب يرى في القسوة شكلاً من أشكال الانضباط. هكذا يصبح تمرّد فيكتور على الله في القصة الأصلية تمرّداً على الأب في نسخة ديل تورو.
التجربة العلمية هنا ليست عن الغرور المعرفي بقدر ما هي صرخة ألم، محاولة لإثبات الذات عبر السيطرة على الموت. ديل تورو يحوّل الأسطورة من نقدٍ لعصر التنوير إلى دراسةٍ عن الجرح النفسي الموروث. فإخفاق الأب في الحب يولّد ابناً عاجزاً عن الحب، وهكذا تتكرر المأساة عبر الأجيال.
إسحاق يؤدي الدور بتناقضٍ عميق: عبقرية لامعة مغطاة بالكراهية الذاتية. فيكتور هنا ليس شيطاناً بل إنسان محطّم تحكمه فكرته عن الكمال. وإذا كان فيكتور عقلاً بلا قلب، فإن مخلوقه (جاكوب إلوردي) هو قلب بلا أصل. مخلوق ديل تورو ليس بليداً ولا أخرق، بل كائن جميل ومتعاطف وواعٍ لوجوده منذ لحظة ولادته. لا يسير بثقل بل بإصغاء، كأنه يتلمّس معنى الإنسانية خطوةً بخطوة.
الفصل الخاص بالمخلوق
هو قلب الفيلم النابض. لقاؤه الأول بالمطر، لمس النار، رؤيته لوجهه في الماء - كلها لحظات مصوّرة كأنها وحي. وعندما يلتقي بأسرة "دي لاسي" الكفيف، يمنحنا ديل تورو أبهى مشاهد الفيلم: صمت مطلق، أصابع تلمس مفاتيح البيانو للمرة الأولى، واللحن يرتجّ داخل يدٍ وُلدت من الموت.
إنه ليس وحشاً يخاف منه الناس، بل فيلسوف منفي يبحث عن معنى وجوده. إلوردي يجسده كقدّيس معذّب، وديل تورو يصفه فعلاً بأنه "قدّيسه الحامي". للمرة الأولى في تاريخ القصة، لا يُلعن المخلوق بسبب قبحه، بل يُبارَك بسبب طهارته. القبح الحقيقي، يقول الفيلم، هو العجز عن المحبة.
في سياق متصل، تقدّم ميا غوث شخصية إليزابيث بشكلٍ جديد كلياً. لم تعد عروساً هامشية تنتظر مصيرها، بل عالمة حشرات ذكية وفضولية. اهتمامها بالكائنات الصغيرة يجعلها نقيض فيكتور في جوهرها: هي تدرس الحياة، وهو يدرسها.
تربطها بفرانكشتاين علاقة إنسانية مذهلة في نقائها، تصل ذروتها حين تقول له في لحظة ود: "الحب قصير، لكنني سعيدة لأنني وجدته معك." ليست جملة رومانسية، بل اعتراف مشترك بالغربة عن هذا العالم. كلاهما غريب، وكلاهما يبحث عمن يراه كما هو. بهذا، يحيي ديل تورو الرسالة النسوية في رواية شيلي الأصلية - التي كانت في جوهرها نقداً لعالم يصنع فيه الرجال الحياة عبر العنف بينما تُقصى النساء عن الخلق.
لكن هنا، إليزابيث تعيش وتقاوم وتشارك في صناعة المعنى. في عمق الفيلم، لا يتحدث ديل تورو عن العلم بقدر ما يتحدث عن غياب الإله. يقول "رواية شيلي ليست عن العلم الخارج عن السيطرة، بل عن الروح البشرية." ينجح فيكتور في تجربته، يخلق الحياة من العدم. لكن النجاح لا يجلب المجد ولا العقاب، بل الحيرة. يصبح هو ومخلوقه كائنين تائهين في كونٍ بلا إله، يبحث كل منهما عن الآخر لا ليقتله، بل ليفهمه. البنية السردية المزدوجة- حيث تُروى الأحداث بالتناوب من وجهتي نظر فيكتور والمخلوق- تخلق إيقاعاً أشبه بالصلاة، تراتيل متقابلة. في النهاية، لا أحد يُدان ولا يُخلَّص. كلاهما يبقى، ناقصاً ومشتاقاً.
مرآة للعصر الحديث
قد تبدو سهلة قراءة الفيلم كاستعارة عن الذكاء الاصطناعي- خالق يبتكر كائناً لا يستطيع السيطرة عليه. لكن ديل تورو يرفض هذا التبسيط قائلاً "الفيلم ليس عن الذكاء الاصطناعي، بل عن الحب."
في عالمٍ مهووس بالخوف والمراقبة والانقسام، يتحوّل فرانكشتاين إلى مرآة أخلاقية: ماذا نَدين به لمخلوقاتنا- أولادنا، تقنياتنا، فنوننا؟ هل يمكن للتعاطف أن ينجو في نظامٍ يُكافئ القسوة؟
في اللقطة الأخيرة، ينظر المخلوق مباشرة إلى الكاميرا، لا بغضبٍ ولا بيأس، بل باعتراف. إنه يرى الإنسان فينا. ورسالة ديل تورو تتضح: كلنا، بطريقة أو بأخرى، أبناء فرانكشتاين- مخلوقاتٌ وُلدت من الطموح، تحيا بالحنين، وتبحث عن وجهٍ لا ينفر منا.
يمتد الفيلم على ساعتين ونصف الساعة من الطموح والشغف، وقد يراه البعض بطيئاً أو متكلّف الجمال على حساب التوتر. وربما هم على حق. فهو ليس فيلم رعب بقدر ما هو مرثية. ديل تورو يفضّل الصبر على الإثارة، والتأمل على الدماء.
لكن حتى في لحظاته المتعثّرة، يبقى العمل صادقاً إلى أقصى حد. كل مشهد فيه يقطر امتناناً لماري شيلي. وكأن ديل تورو، مثل فيكتور نفسه، خلق شيئاً جميلاً ثم أدرك أنه لا يستطيع التحكم فيه- فيتركه حراً، ناقصاً، لكنه حيّ. في النهاية، فرانكشتاين ديل تورو ليس النسخة النهائية من القصة، ولن توجد نسخة نهائية أصلاً. فالمخلوق يُبعث مجدداً مع كل جيل، لأنه ليس وحشاً بل مرآة.
هو ضميرنا، ذنبنا، أملنا. نسخة ديل تورو هي في آنٍ واحد: تحية، واعتراف، وصلاة. رسالة حبٍ إلى المنفيين، وتأمل في قداسة العيب الإنساني. فحيث منحنا جيمس وايل رعب الميلاد، وكينيث براناه مأساة الطموح، يمنحنا ديل تورو شيئاً آخر تماماً: الرحمة. وفي اللحظة الأخيرة من الفيلم، يهمس صدى السؤال الذي يلاحقنا منذ قرنين: ما معنى أن تكون إنساناً؟ وجواب ديل تورو، وسط كل العظمة البصرية، بسيط ومؤلم "أن تكون إنساناً يعني أن تحب ما هو مكسور - خصوصاً حين يكون ذلك المكسور هو أنت نفسك".