ملخص
سيجد قارئ هذا الكتاب نثاراً من إجابات سؤال "لماذا أكتب؟"، لكنها إجابات ملتوية لا تمنحنا أسباباً بقدر ما تسلبنا أسباباً محتملة، "وثمة ما لم يكن سبباً في شروعي في الكتابة أول الأمر، وهو الشهرة، أو المال، و"أنا لا أكتب لإبلاغ رسالة"، و"لا أكتب قصصاً لتحقيق أي غرض معين".
لو أن متن المشهد الأدبي في الولايات المتحدة، مثلما في معظم دول العالم، محفوظ الآن للروائيين بإقبال القراء على أعمالهم والشاشات والجوائز، فليبق غير هامش للشعراء وكتاب القصة والمسرح وما شئتم غير ذلك، فإن موضع القاصة الأميركية ليديا ديفيس هو هامش الهامش، فهي منذ كتابها الأول عام 1976، تكتب قالباً من القصة القصيرة، تجريبياً لاعباً، أشبه بقصائد النثر منه بالقصص التي جلبت لأليس مونرو "جائزة نوبل"، أو لريموند كارفر مكانته المرموقة.
تكتب ديفيس منذ 50 عاماً تلك القصص شديدة القصر، محققة بها حضوراً راسخاً لكاتبة مخلصة للفن والتجريب والمغامرة، لا للبيع والجوائز وكل ما يسيل له لعاب غيرها.
في عام 2024 وجهت "جامعة يال" الدعوة إلى ليديا ديفيس لإلقاء محاضرة "ويندم كامبل" التي تتناول سنوياً السؤال الخالد "لماذا أكتب؟"، وقد حولت ديفيس محاضرتها إلى كتاب صدر حديثاً في 130 صفحة بعنوان "الدخول في الحشائش"، وسيجد قارئ هذا الكتاب نثاراً من إجابات سؤال "لماذا أكتب؟"، لكنها إجابات ملتوية لا تمنحنا أسباباً بقدر ما تسلبنا أسباباً محتملة، "ثمة ما لم يكن سبباً في شروعي في الكتابة أول الأمر، وهو الشهرة، أو المال" و"أنا لا أكتب لإبلاغ رسالة"، و "لا أكتب قصصاً لتحقيق أي غرض معين"، و"لا أكتب قصصاً لأقنع قارئاً بشيء أعتقده، على رغم أن لدي كثير من الاعتقادات" و"لا أكتب قصة من أجل أي جمهور معين، فلا أفكر في قارئ وأنا أكتبها"، و"لا أكتب قصة للتأثير في أحد"، فلا مهرب لقارئ الكتاب من الخروج بانطباع مفاده أن ديفيس ليست الكاتبة التي يقصدها الراغبون في تعلم التقنيات، بل لعلها كاتبة غير معنية بالكتابة بقدر ما هي معنية بالقراءة، ما لم يكن الفارق منفتياً عندها بين الفعلين.
ويشير استعراض موقع "كومبليت رفيو" للكتاب إلى أن ديفيس تعترف ابتداء بأن الموضوع المقترح للمحاضرة صعب، وبأنها لم تجد في البداية ما يمكن أن تقوله، "وجدت رأسي خاوياً، على رغم أن لدي كثيراً الذي يمكنني أن أقوله بصفة عامة"، لكنها عثرت على ما تقوله، مهتدية بـ "كتب عدة ومنها كتاب محاضرات لجون آشبري عنوانه 'تراثات أخرى' وكتاب 'متجر صانع العربات' لجورج ستورت".
استلهمت ديفيس من آشبري حلاً لمأزقها، فالشاعر الأميركي الشهير بصعوبة شعره حينما دعي إلى إلقاء سلسلة محاضرات في "هارفرد"، نأى عن الحديث عن نفسه واستعان بستة شعراء حرص ألا يكونوا من الأعلام وشرح تأثيراتهم عليه، مقدماً رؤى ثاقبة ومداخل إلى عوالمهم الشعرية، وذلك تقريباً ما فعلته ديفيس حينما أحالت محاضرتها عن سؤال الكتابة إلى محاضرة عن القراءة، بل لعلها وسعت من مفهوم القراءة نفسه، فقد حكت أنها شرعت تقرأ كتاب آشبري وهي في حافلة على طريق مساتشوستس السريع، "صرت أقرأ جانباً من الصفحة ثم أرفع عيني وأفكر فيه، محملقة في أفق رتيب بعض الشيء، رتابة تمنع تشتيتي، فقوامها غابات ثم مزيد من الغابات ثم حقول بين حين وآخر وبيوت بين حين وآخر وحظائر متفرقة ونهر عريض، ثم صعود حاد إلى قمة جبلية يعقبه نزول"، فلعل ديفيس توجه قارئها إلى القراءة بجرعات صغيرة مثلما تشرب الطيور، ولعلها تلفت النظر إلى أن فعل القراءة لا يجب أن يقتصر على الصفحة وإنما عليه أن يجتازها إلى العالم المحيط الذي قد لا تكتمل قراءة أو وعي قارئ إلا بملاحظته.
لعل هذا ما جعلها تلتفت إلى "متجر صانع العربات" لجورج ستورت وتسهب في الكتابة عن قراءتها له، إذ رأته "سرداً شديد العمق لمتجر ورثه ستورت عن والده وجدّه من قبله، ويتطرق إلى تفاصيل بالغة الدقة التقنية لكيفية صنع كل جزء في العربة في ذلك الزمن".
ويشير استعراض "كومبليت رفيو" إلى أن ديفيس تقدمت في قراءة "متجر صانع العربات" وإن استغرقت فيه بضعة أشهر، ووجدته شيقاً من أوجه عدة ومحفزاً على التفكير أيضاً في فعل الكتابة، وفي حين أنها لا تكف عن التساؤل عما جعل ستورت يؤلف هذا الكتاب، فإنها تجد وفرة من الأسباب لقراءة أمثاله من الكتب القائمة على "الملاحظة الدؤوبة الدقيقة للعالم المادي"، وتقول "إنني أعرف بالفعل القوالب المعهودة وأحب أن أقرأ في هذه القوالب وكأنني جالسة في كرسي وثير مريح"، لكنها تنجذب أيضاً إلى الأشياء الأخرى التي يستطيع الكتّاب القيام بها وتجد فيها الإلهام ومزيداً من التحدي والاستكشاف، ولعل هذا درس مهم آخر من دروس "الدخول في الحشائش"، وهو أن "على القارئ أن يخرج من منطقة أمانه القرائية مرغماً نفسه بين حين وآخر على ترك متعة الرواية وعمق الشعر وفتنة القصة القصيرة، ليغرق نفسه في تفاصيل أشياء من قبيل صنع العربات الخشبية قبل قرن من الزمن".
ذكاء متقد
يلتفت ديفيد أولين في استعراضه للكتاب على صفحات "ذي أطلنطيك" المنشور في السادس من أكتوبر (تشرين الأول) الجاري إلى تركيز ديفيس على القراءة في كتاب يفترض أنه مخصص للكتابة، فيستهل مقالته بقول الكاتب الأميركي الحاصل على "نوبل" في الأدب صول بيلو، إن "الكاتب ليس سوى قارئ دفعه حافز ما إلى التقليد"، ويتساءل أولين "لكن ماذا لو أن العكس أيضاً صحيح؟ ماذا لو أننا حينما نفكر في الكتابة، إنما نعلم أنفسنا كيفية القراءة؟ بالنسبة إليّ وضع الكلمات على الصفحة فعل يتزامن دائماً مع ما أقرؤه".
ويعترف ديفيد أولين بأن لديه في العادة حساسية من فئة الكتب التي يفترض أن كتاب ديفيس يندرج فيها، أي الكتب التي ترمي إلى تعليم الكتابة، لكن ما شفع لـ "الدخول في الحشائش" هو طول إعجابه "بذكاء ليديا ديفيس المتقد في قصصها القصيرة جداً ومقالاتها"، وكذلك أن كتابها هذا يكشف "شعورها هي الأخرى تجاه هذه الفئة من الكتب، ففي الصفحة الأولى من الكتاب تحكي أنها حينما دعيت إلى مناقشة كتابتها وجدت نفسها تفكر في القراءة، قراءة كتابات شخص آخر"، فما أنتجته ديفيس إذاً ليس في الحقيقة كتاباً عن تأليف الكتب، لأنها في واقع الأمر تجتنب هذه النقاشات، و"إنما هو كتاب يشجعنا على تخيل القراءة والكتابة من جديد بوصفهما في تبادل دائم، فظللت أفكر في هذه العلاقة التبادلية وأنا أقرأ كتاب ليديا ديفيس الجديد".
ليس كتاب ديفيس "دليلاً للكتابة وإنما هو مرشد للقراءة، ويبدو هذا أمراً مهماً في زمن ازدادت فيه صعوبة اكتشاف الكتب من خلال النقد العميق، فنحن نعيش في زمن باتت فيه تغطية الكتب إهداراً وبنداً يسهل التخلص منه في الموازنات، (وما قرار وكالة أنباء "أسوشيتدبرس" قريباً بإلغاء قسم عروض الكتب فيها إلا أحدث مثال على هذا)، وكثير من المنابر التي لا تزال تنشر النقد قلصت التغطية أو حولتها إلى مقالات غائمة تتناول الأدب وكأنه لا يزيد كثيراً عن أحد خيارات الحياة".
قد تكون هذه هي الصورة في الولايات المتحدة، وقد يكون هذا هو حال نقد الكتب هناك، أما هنا في العالم العربي فالصورة ذات طابع مختلف لعلنا جميعاً على علم بطرف من تفاصيله، فعروض الكتب ونقدها، أقله في المستوى الصحافي، تعاني منذ ردح طويل من الزمن الانحياز أو المحاباة أو اتباع القطيع، وتعاني الألغاز أو تفادي الكشف عن الزلات أو التحول إلى ترويج الكتاب بدلاً من اقتراح سبل لقراءته، وأخيراً شهدت الصناعة دخول عنصر كارثي جديد، إذ فتح التكسب من خلال مواقع التواصل الاجتماعي باب الجحيم ليدخل عبره الهواة، إن أحسنا الظن، أو المرتزقة إن تحرينا الصدق، ممن تدنوا بنقد الكتاب أو عرضه أو تلخيصه أو تيسيره إلى حضيض لا يعد إلا بمزيد من الحضيض، وهنا تذكرنا ليديا ديفيس بأن القراءة في النهاية مسألة شخصية فردية، تقوم على عوامل خاصة بكل قارئ على حدة، فقراءتها على سبيل المثال لكتاب "متجر صانع العربات" لم يكن دافعها الاهتمام بموضوعه، ولكن أنها تلقته هدية من صديق، وعلى رغم "أنه لم يكن الخيا، لم يبدِ من قبل اهتماماً خاصاً بالصناعات الخشبية ولم يكن يفكر في صنع عربة"، فقد وجدت مبرراً آخر لقراءته يتمثل في السخاء "لا ممن أهداه وحسب، وإنما من مؤلفه نفسه، فالكاتب بحسب ديفيس يكشف "كثيراً مما كان جديداً عليّ، ومنه مثلاً أن الحداد لا يحب دخول ضوء الشمس إلى ورشته لأن الضوء الساطع يجعل من الصعب أن يحدد ويقيس بدقة شدة اتقاد النار في أتونه"، ولا أحسب أن هذه المعلومة اللصيقة بمهنة الحدادة تكتسب قيمة لدى ديفيس إلا للمسها وتراً يتعلق بالكتابة، فلا بد من أنها رأتها استعارة ما لعملية الكتابة عندها وشرط الغموض اللازم لها ولطبيعة المغامرة فيها، غير أن قارئاً آخر قد يمر بهذه المعلومة من دون أن تترك في نفسه أثراً ويقف عند غيرها.
يكتب أولين أيضاً أن "غموض معلومات الكتاب هو الذي يجعل لها صدى في نفس ديفيس، ففيه متعة مصادفة شيء على غير توقع، فالأمر هنا لا يتعلق فقط بدقائق الحدادة والنجارة بل بالرابط الذي تستشعر وجوده بينها وبين صديق، فكلما تقدمت في القراءة ازدادت قوة الرابطة، أو لنقل الحميمية، وليس ذلك وحسب، ولكن كتابتها عن الكتاب وإشراكنا فيه ينقلان ديفيس نفسها إلى دور المهدي لا المهدى إليه، فهي تنتقل من جون آشبري إلى آنسيلم هولو، ومن ريموند كارفر إلى كرستينا شارب، ويفضي بها مقطع عن كارل أوف كناوسغارد إلى كتابة عن رواية 'الجوع' للنرويجي كنوت هامسون، وينقلها هذا إلى كتاب 'على طريق تخفيه الحشائش' الذي ألفه هامسون بعيد الحرب العالمية الثانية، حينما كان محدد الإقامة في بيت للمسنين في انتظار محاكمته بتهمة التحريض على العصيان"، وقد يجدر بنا أن نشير إلى أن هامسون اشتهر بدعمه للنازية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يقول أولين "بهذه الطريقة أقرأ أنا الآخر، ويروق لي أن أتخيل شيئاً مماثلاً في حال جميع القراء في لحظات مختلفة من حياتهم، ننزلق من كتاب إلى التالي ثم التالي، لا عبر مسار دراسي مرتب وإنما عبر سلسلة من التعرجات غير المترابطة وسلسلة من الارتجالات، وفي بعض الأحيان يتجلى هذا في العالم الخارجي، إذ تحكي ديفيس أنها هي الأخرى سارت على الطريق نفسه الذي تخفيه الحشائش وسار عليه هامسون، وقد أصابني هذا الاعتراف بصدمة الاكتشاف لأنني أيضاً عرفت هذا التداخل بين الأدب والذاكرة الشخصية"، إذ يحدث أحياناً أن تتداخل ذكريات القارئ مع صفحات الكتاب "فأشعر أنني خطوت إلى داخل الكتاب، وأثر هذا يكون موجة مزدوجة من الارتباطات وتقارباً وتناغماً".
لذة تدوين الملاحظات
توشك ديفيس أن تطابق بين فعلي القراءة والكتابة حينما تحكي عن الطريقة التي كتبت فيها قصة بعنوان "الأبقار" نشرتها في كتاب نحيل كالعادة عام 2011، وتغيم فيه الحدود بين القصة والمقالة واليوميات، إذ تكتب ديفيس "لم أكتبها عامدة بأي شكل، بل لم أكتبها دفعة واحدة وإنما استغرقت ثلاثة أعوام في التراكم، وكان تكوّنها بسيطاً بساطة الإطلال من شباك، أو الوقوف على قارعة طريقة ناظرة إلى الجهة الأخرى، متابعة البقر الذي بدأ بثلاث بقرات صغيرات، كبرت بمرور الأعوام وحملت اثنتان منها، وبعد أن بلغ العجلان أخذوهما، وكنت أكتب بين حين وحين ما أراه، وبعد ثلاثة أعوام صار لدي أكثر من 80 ملاحظة أقمت منها كتاباً صغيراً فيه صور فوتغرافية، ولم أدرك إلا لاحقاً أن المشاعر المتعلقة بتلك القصة لم تكن فقط أشكالاً عدة لما كنت أجد من متعة أو تسلية أو تعاطف، إذ أشاهد البقرات وعجولها في سلوكها وأوضاعها، فضلاً عن لذة مرهقة كنت أجدها في تدوين ملاحظاتي عنها، ولكنها أيضاً متعلقة بألمي وحزني مما يلقاه معظم البقر من معاملة في الدنيا".
ما من تأليف هنا بالمعنى الذي قد يتصوره بعضهم للتأليف، فما من شيء مكتمل موجود في ذهن الكاتبة تصبه صباً على الورق، ولكنها قراءة، لا لكتاب وإنما لمنظر طبيعي يواجه بيتها، فكل يوم هو صفحة، وكل حدث يجري هو جملة أو فقرة، وتستغرق القراءة / التأليف ثلاثة أعوام، وتنتهي ربما بغير إرادة من المؤلفة، وإنما امتثالاً لشيء خارج عن إرادتها، كما نصل نحن القراء إلى الصفحة الأخيرة في كتاب.
يكتب أولين أن وصف ديفيس "استعارة مثالية لا لفعل الكتابة وحده وإنما أيضاً لفعل القراءة التي أشعر أن دافعها الأكبر هو الهوى الرقيق" الذي ينقل القارئ من كتاب إلى آخر، "فلقد كنت في طفولتي أقرأ بنهم وبلا تمييز، وكنت أظن الأدب أرضاً غير معلومة التضاريس، فكانت القراءة استكشافا فعلياً ندخل فيه بوعي ونقوم بغزوات ونقبل على أخطار، ولا أزال أنظر إلى القراءة عبر هذه المصفاة لولا أن الجو المحيط تغير الآن وملأته ندوب انقسامات عازلة بسبب وسائل التواصل الاجتماعي، وغرق في طوفان مقاطع الفيديو المشتتة للانتباه والمحتويات المغرية، وفي هذه البيئة يزداد تعرفنا إلى الكتب من خلال منصات أندية كتب المشاهير ومقاطع 'تيك توك' و'أمازون'، ولكن كتاب ديفيس يذكرنا بأن الأدب يظل منفتحاً كالعهد به دائماً، ويطرح علينا طريقة قديمة لا جديدة في التفكير، مقاوماً الميكنة والسياق المنهار بإعادة تأطيره القراءة في أكثر الشروط تفرداً وإنسانية".
العنوان: Into the Weeds
تأليف: Lydia Davis
الناشر: Yale University Press