ملخص
مهما يكن من أمر فإن "توين بيكس" هو أولاً وأخيراً، وتقنياً بالتحديد، مسلسل تلفزيوني أميركي سوريالي من تأليف ديفيد لينش ومارك فروست، وهو مسلسل يعد من الناحية التصنيفية عملاً درامياً يتسم برعب غامض. عرض للمرة الأولى على قناة "ABC" في 8 أبريل 1990، واستمر لموسمين حتى جرى إلغاؤه عام 1991. ثم بعد غياب طويل، عاد المسلسل عام 2017 لموسم ثالث على قناة "شوتايم" سيكون موسمه الأخير.
كثر من هواة السينما الطليعية والأكثر نخبوية وجدية، ينظرون إلى المخرج الأميركي الراحل قبل أشهر قليلة، ديفيد لينش، بوصفه صاحب الأعمال الأكثر تعبيراً عن ثورة السينما الطليعية في هوليوود، ومن ثم الأكثر نخبوية وابتعاداً عن بقية الأصناف الإبداعية، لا سيما منها العمل التلفزيوني الذي زعم البعض حين رحل لينش أنه كان من حظه عدم انغماسه فيه كثيراً مما "أنقذه من مصير غير مستساغ سينمائياً أفسد مسار الكبار من رفاقه السينمائيين".
ولئن كان قائلو هذا الكلام يعرفون أن لينش قد حقق، وعبر ثلاثة مواسم يفصل بين أولها وثانيها من ناحية، وثالثها من ناحية أخرى، أعواماً طويلة، فإنهم "غفروا" له "تلك السقطة" انطلاقاً من كونه "ندم" عملياً على ما فعل، إذ سرعان ما عاد إلى إبداعه السينمائي مكللاً بأمجاد الشاشة الكبيرة وبغفران من لم يحبوا مواسمه التلفزيونية ذات الاسم الذي غدا أسطورياً على أية حال "توين بيكس" على اسم منطقة سكنية في الغرب الأميركي (ولاية واشنطن على المحيط الهادئ).
وهنا لا بد من أن نؤكد أن كل هذا الكلام لا يتساوق مع الوقائع الحقيقية وفي مقدم ذلك أن ديفيد لينش لم يكن في الحقيقة، وحين حقق "توين بيكس" سينمائياً يجرب حظه في عالم الفن السابع، بل مبدعاً رأى في التلفزة، وبصورة مبكرة في مساره الفني، إمكانية كبيرة لخوض اللعبة الإبداعية القائمة على الصور المتحركة، سواء على الشاشة الكبيرة أو الصغيرة.
تحف سينمائية منذ البداية
صحيح أن لينش الذي حقق الموسمين الأول والثاني من "توين بيكس" بدءاً من أول العقد التسعيني من القرن الـ20، كان قد سبق له أن حقق عديداً من الشرائط السينمائية، القصيرة والطويلة، ومن هذه الأخيرة تحف له مبكرة مثل "أيرازرهاد" و"الرجل الفيل" و"بلو فلفت" وحتى "سيلور ولولا" اللذين وسعا من شهرته ومكانته العالميتين، غير أن "توين بيكس" ينتمي لديه إلى عالم آخر هو عالم حلمه الإبداعي منذ كان مراهقاً وقبل أن يتبنى أي حلم سينمائي حقيقي في مساره. بل إنه هو نفسه كان يحلو له أن يقول إنه "مبدع سينمائي بالصدفة لكني مبدع تلفزيوني بالسليقة".
ومن ثم كان لينش يحاول دائماً أن يصحح الفكرة السائدة عنه مؤكداً أنه ابن التلفزيون لا ابن السينما مما يجعله يسير في هذا المضمار عكس التيار. وفي هذا السياق كان غريباً أن ينتظر لينش عام 2002، ليحكي للمرة الأولى حكايته "المهنية" التي يعود بها إلى السنوات السابقة على مراهقته حين اكتشف التلفزيون قبل أن يكتشف السينما. وكان ذلك بحسب روايته في عام 1956 حين كان هو والتلفزة في سنوات ما قبل المراهقة: "وكان ذلك الاكتشاف من خلال ألفيس بريسلي الذي ظهر حينها على الشاشة الصغيرة في برنامج (إد ساليفان) الشعبي للمرة الأولى". وهاكم الحكاية كما رواها لينش للصحافة الفرنسية عام 2002: "كنت في العاشرة وألعب أمام منزلي حين رأيت وقد آذن الليل بالهبوط، رفيقاً لي يخرج من بيته راكضاً كالمجنون ليخبرني أنني فاتني أن أشاهد الفيس بريسلي على التلفزيون!".
ثمن القوة والنجاح
يقول لينش، "صعقت، ليس من أجل التلفزيون طبعاً، لكن من أجل ألفيس الذي كان معبودنا في ذلك الحين. مما يعني أن ظهوره في برنامج ساليفان كان أشبه بهبوط أورفيوس من عليائه إلى عالمنا الأرضي والسمو به. ولاحقاً حين قرأت كتاباً عن المغني الكبير ووجدته يذكر ذلك اللقاء بوصفه مؤسساً في مساره الإبداعي، لم أتمكن أبداً من نسيان ذلك والتفكير متسائلاً: لماذا لا أفكر بأن تكون مسيرتي عبر ذلك الجهاز الصغير الذي رغم صورته الباهتة كان يوصل من يشارك فيه إلى كل بيت وقلب وعقل"، والأهم من ذلك أن لينش غاص في أحلامه أكثر وأكثر حين قرأ تفاصيل الحلقة حيث ثمة وصف للحمى التي استعرت داخل الاستوديو وكيف أن منتج البرنامج الأسطوري كان يخرج بين الحين والآخر من قاعة التصوير ليستلقي على كنبة مريحة فينضم إليه ألفيس وعلى وجهه علامات الرضا والسرور. "فهما في الأقل، وبحسب ما سيدرك لينش بعد عقود من السنين، كانا في طريقهما لتغيير كل شيء حتى ولو على تلك الطريقة التلفزيونية البدائية" كما أكد لينش حين طلب إليه أن يبرر عند عرض "توين بيكس" إقدامه على تلك "المغامرة" التي بدت أول الأمر شديدة البعد من عالمه السينمائي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"لكن، لا... أبداً لم تكن بعيدة"، سيقول لينش بهدوء وثقة، أوائل سنوات التسعينيات. والدليل على ذلك هو أن ذلك المسلسل على رغم أنه يعد اليوم واحداً من أقوى المسلسلات التي عرفتها التلفزة الأميركية فإنه لم يحقق نجاحاً جماهيرياً كبيراً، ولعل هذا هو السبب الحقيقي الكامن في خلفية توقيفه بعد موسمين، على أية حال (ملاحظة من كاتب هذه السطور) "لكنه وبالتأكيد، حقق أمراً آخر تماماً: أكد أن في إمكان المسلسلات التلفزيونية أن تكون إبداعية وذكية حتى ولو دفعت ثمن ذلك غالياً".
تغييرات لا تعد ولا تحصى
ومن هنا لئن كان ظهور ألفيس بريسلي لحظة تغييرية هائلة في تاريخ الموسيقى والروك والغناء التلفزيوني معاً، فإن "توين بيكس سيكون لحظة تغييرية لا تقل روعة، في تاريخ السينما نفسها، ومن هنا بالطبع النجاح الكبير الذي سيحققه فيلم للينش نفسه عنوانه (توين بيكس... النار تسير معي) كنوع من التمهيد اللاحق لحبكة المسلسل نفسه وحققه لينش في سياق الضجيج الذي صاحب ظهور موسمي المسلسل الأولين، وذلك بالتحديد انطلاقاً من أن المسلسل، إن لم يكن في حبكته أو حتى في أسلوب تقديمه والسيناريو البدائي الذي كتب له، ففي الأقل في لغته السينمائية بدنوها المطلق مما سيسم سينما لينش على الدوام وحتى آخر إنجازاته قبل رحيله المبكر، أي من قواعد في الأداء السيريالي الذي طبع عوالمه بطابع مدهش وفريد... لقد أدخل "توين بيكس، على الأداء التلفزيوني عوالم وقواعد قد لا تضاهيها في قوتها التغييرية، سوى ما أدخلته هي بدورها على فن السينما ودائماً هنا على خطى لينش نفسه.
ومهما يكن من أمر فإن "توين بيكس" هو أولاً وأخيراً، وتقنياً بالتحديد، مسلسل تلفزيوني أميركي سوريالي من تأليف ديفيد لينش ومارك فروست، وهو مسلسل يعد من الناحية التصنيفية عملاً درامياً يتسم برعب غامض. عرض للمرة الأولى على قناة "ABC" في الثامن من أبريل (نيسان) 1990، واستمر لموسمين حتى جرى إلغاؤه عام 1991. ثم بعد غياب طويل، عاد المسلسل عام 2017 لموسم ثالث على قناة "شوتايم" سيكون موسمه الأخير.
وتدور أحداث المسلسل، بحسب المطبوعات المتعلقة به، في بلدة توين بيكس الخيالية في شمال غربي المحيط الهادئ، حيث يتتبع تحقيقاً يقوده عميل مكتب التحقيقات الفيدرالي الخاص ديل كوبر (كايل ماكلاشلان) في مقتل المراهقة ابنة المنطقة، لورا بالمر (شيريل لي).
يعتمد سرد المسلسل على سمات روايات الجريمة البوليسية، إلا أن نبرته الغريبة وعناصره الخارقة للطبيعة وتصويره الميلودرامي المبالغ فيه للشخصيات غريبة الأطوار مستوحى أيضاً من سمات الرعب الأميركية والمسلسلات الشعبية. ومثل معظم أعمال لينش، يتميز المسلسل بالسوريالية والتصوير السينمائي المميز والفكاهة غير التقليدية. قام أنجيلو بادالامينتي بتأليف الموسيقى التصويرية مع لينش.
الفيلم ينطلق من المسلسل
وإذ تبع العرض الأصلي فيلم "توين بيكس: فاير ووك ويذ مي" عام 1992، الذي يعد بمثابة مقدمة للمسلسل. أثار نجاح المسلسل امتيازاً إعلامياً، مما أدى إلى إصدار عديد من الكتب المرتبطة به، بما في ذلك "المذكرات السرية للورا بالمر". تحت إشراف لينش، ضمت إعادة إحياء المسلسل عام 2017 جزءاً كبيراً من طاقم التمثيل الأصلي. وفي الأعوام التي تلت الموسمين الأولين، اكتسب المسلسل قاعدة جماهيرية واسعة، وتمت الإشارة إليه في مجموعة واسعة من وسائل الإعلام، وحاز إشادة نقدية واسعة النطاق وأوسمة مختلفة.
يعد "توين بيكس" نقطة تحول بارزة في الدراما التلفزيونية، وغالباً ما يدرج ضمن أعظم المسلسلات التلفزيونية على الإطلاق. كما حظي إحياء موسم جديد وثالث منه لم يكن متوقعاً في عام 2017 بإشادة نقدية واسعة، حيث وصفته مجلة الأفلام "كاييه دو سينما" بأنه أفضل فيلم في العقد الثاني من القرن الـ21.