ملخص
رحلت الممثلة كلوديا كاردينالي، النجمة السمراء، عن 87 عاماً، بعدما انجزت 150 دوراً سينمائياً في إدارة مخرجين كبار من العالم. وظلت هي الإيطالية، الصقلية الجذور، ظلت وفية لتونس التي نشأت فيها.
صفحة من سجل نجمات الستينيات تطوى مع رحيل كلوديا كاردينالي عن عمر ناهز السابعة والثمانين. صفحة كُتبت سطورها الأولى على ضفاف المتوسط، قبل ان تصبح جزءاً من سيرة السينما العالمية. تتحدر كاردينالي من عائلة إيطالية هاجر أفرادها من صقلية إلى تونس وأقاموا فيها لثلاثة أجيال متتالية. نشأت في بيئة مزدوجة الانتماء، متوسطية الطابع وأوروبية الثقافة والتقاليد. هذا الخليط الجغرافي ظلّ يرافقها طوال مسيرتها .
كانت البداية بالصدفة، كما تحب أن تؤكد دائماً: "كل شيء بدأ بالبيكيني". فهي شاركت في مسابقة "أجمل إيطالية في تونس"، لتجد نفسها فجأة في مهرجان البندقية، ومن هناك انهالت عليها العروض السينمائية. ردها كان دائماً: لا. إلى أن وُصمت بـ"الشابة التي ترفض السينما، في مقال نشرته أحدى الصحف، فقررت في النهاية أن تخوض التجربة بدافع الاكتشاف. هذه المهنة حملتها من غرب الكرة الأرضية إلى شرقها، فهي اشتغلت في جميع أنحاء العالم، من أوستراليا الى أميركا، مروراً بروسيا وكندا، لتصبح النموذج الحقيقي للممثلة العالمية.
ورغم جذورها الإيطالية، لم تكن تتقن الإيطالية، بل تنطق باللهجة الصقلية بالاضافة إلى الفرنسية. ومع أن إعجابها المدهش ببريجيت باردو ومارلون براندو كان كبيراً في مراهقتها، شأنها شأن كثر في الخمسينيات، فلم يكن التمثيل من ضمن مخططاتها، لا بل كانت تطمح إلى التدريس. في طفولتها، كانت فتاة شقية، "مسترجلة"، في عبارة تعود لها: "كنت خجولة جداً، ومع ذلك كنت أشبه بالفتيان في تصرفاتي. عندما كنت أتنقل بين البيت والمدرسة، لم أكن أصعد القطار وهو متوقف، بل كنت أفضّل أن يبدأ في التحرك ثم أقفز لأصعد. كان هاجسي الدائم هو إثبات أن المرأة أقوى من الرجل".
تعود بدايات كاردينالي، التي راكمت نحو 150 دوراً على الشاشة، إلى "الخواتم الذهب" لرينيه فوتييه، المخرج الفرنسي المناصر للثورة الجزائرية، ثم "جحّا"، الفيلم الفرنسي التونسي لجاك باراتييه، حيث جسدت أمينة (دور ثانوي) بينما تولى عمر الشريف شخصية جحا في أولى خطواته السينمائية خارج مصر. مع هذا الفيلم ولدت السمراء الجذابة كلوديا كاردينالي. في العقد التالي، أي الستينيات، تحولت إلى نجمة، في إدارة كبار المخرجين الأوروبيين: فيدريكو فيلليني، لوكينو فيسكونتي، ماورو بولونييني، سيرجيو ليوني، ماركو فيريري، لويجي كومنتشيني وغيرهم.
نقطة تحول
نقطة التحول في مسيرتها كانت في "روكو وأخواته" لفيسكونتي (1960). شخصية جينيتا تجسد لمحة من التفاؤل والاستقرار في سرد يطغى عليه التوتر العائلي. هذا الدور، رغم صغره، كشف موهبتها التمثيلية بوضوح. ومنذ انطلاقتها، امتنعت عن التكرار: "أدّت دور العشيقة، المومس، السيدة الأرستوقراطية، الأم المعذبة، وحتى المرأة الحديدية. "
بعد جينيتا لعبت دور زوجة رجل عاجز جنسياً (مارتشيللو ماستروياني) في "أنتونيو الجميل" لماورو بولونييني. "كان علينا ان نتصدى لانتقادات أهل صقلية الذين لم يبلعوا فكرة أن رجلاً صقلياً يمكن ان يكون عاجزاً جنسياً"، قالت لي وهي تضحك، يوم قابلتها في أبو ظبي لإجراء مقابلة معها.
طوال مسيرتها لم تحصر كاردينالي نفسها داخل ضفة سينمائية واحدة، إنما تأرجحت بين السينمات، لا سيما بين الإيطالية والفرنسية، وقد وجد بعض المخرجين من خارج إيطاليا ضالتهم فيها: يرجي سكوليموفسكي، ريتشارد بروكس، بيار شوفالييه، فيليب دو بروكا، فريد بو غدير، وهنري فرنوي الذي أسند لها بعد سنوات دور أمه في فيلمه السيرة "مايريغ". وعرجت على أفلام هوليوودية قد يكون أشهرها "ذا بينك بانثر" لبلايك إدواردز إلى جانب بيتر سيلرز.
يصعب الحديث عن كاردينالي في الستينيات، من دون ذكر فيلمين رائعين أطلت فيهما وخرجا إلى الصالات في العام 1963: "ثمانية ونصف" لفيلليني الذي جمعها بماستروياني مجدداً و"الفهد" لفيسكونتي، المخرج الكبير الذي لعبت في ادارته أربعة أفلام. "ثمانية ونصف" يدور حول مخرج سينمائي (ماستروياني)، مكتئب يهرب من ضغوط الحياة والعمل، لاجئاً إلى عالم داخلي تسكنه الذكريات والأحلام والخيالات، وفيه تجسد كاردينالي المرأة المثالية والملهمة، والحلم البعيد المنال في خيال هذا المخرج. أما في "الفهد"، فتؤدي دور أنجيليكا، إبنة العمدة الثري، التي يزوجها الأمير سالينا (برت لانكاستر) لابن أخيه (ألان دولون)، في خطوة ترمز لقبوله بزوال الطبقة الأرستوقراطية وصعود البورجوازية الجديدة. دورها هذا يعبّر عن التحوّل الإجتماعي الحاسم الذي يرافق انحدار عالم قديم وصعود إيطاليا الحديثة.
وكيف ننسى جيل في رائعة سرجيو ليوني "ذات زمن في الغرب"، الذي جمعها بهنري فوندا. عن هذا الفيلم تقول: "كانت تجرية استثنائية على كل الأصعدة. كنتُ المرأة الوحيدة في فيلم أبطاله رجال قساة يدور في الصحراء".
العقود التالية لم تكن بالزخم نفسه كما في الستينات، لكن كاردينالي واصلت نشاطها بايقاع متقطع، إلى أن أنهت مسيرتها في فيلم "جزيرة الغفران" (2022) للتونسي رضا الباهي الذي أدارها وهي بدأت تعاني من آثار اصابتها بالزهايمر. حتى فترة قليلة قبل تراجع نشاطها، ظلت محافظة على وتيرة معينة في التمثيل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عُرِفت كاردينالي بالحشمة، فهي كثيراً ما رفضت التعري في الأفلام. بعض السينمائيين حاولوا اقناعها بضرورة التراجع عن هذا الموقف، ولكن لم ينجحوا. لهذا السبب طغت عليها صورة "الفتاة العذراء الجميلة". اعتبرت استغلال الجسد وسيلة لا تليق بمهنة التمثيل. هذا الموقف المبدئي كلفها أدواراً، لكنه أكسبها مكانة خاصة في زمن كانت الشهرة تُشترى أحياناً بالتنازلات.
بعيداً عن الشاشة، ظلت متحفظة حيال حياتها الخاصة، رافضة مزجها بحضورها في الشأن العام. لم تتزوج، ولم تسع خلف الأضواء، مفضلةً العمل في مجالات إنسانية، بصفتها سفيرة لليونسكو. إهتمت بقضايا المرأة، حماية الطبيعة، حقوق الإنسان، أطفال كمبوديا ومرضى الإيدز.
قالت في أكثر من مناسبة إن السينما أتاحت لها أن تكون نساء كثيرات في حيوات متعددة. الشاشة جعلتها تكتشف العالم والآخرين ونفسها. على المستوى الشخصي، إحتفظت بوفائها لمكان نشأتها، تونس. كانت تعود إليها، وتشعر بالألم لما آلت إليه أوضاعها، شأنها في هذا شأن شعورها بالخسارة حين تنظر إلى ما آل إليه العالم العربي. عبّرت عن ألمها من دمار سوريا، ومن قوارب الموت القادمة من الضفة التي ولدت فيها. لكنها بقيت متفائلة، تؤمن بـ"المكتوب"، وترى أن الزمن، بكل ما يحمل من خسارات، يجب ألا يُعبَث به. نبذت عمليات التجميل رغم التجاعيد التي كست وجهها الذي كان في الماضي رمزاً للجمال الآسر، لأنها، كما أصرت دائماً، "رفض للزمن الذي يمرّ فينا ويجعلنا ما نحن عليه".