ملخص
أورد كاتب سيرة موزارت، هاهن، حكاية عن لقاء ما تم بين آخر سادة الموسيقى الكلاسيكية (موزارت)، وأول مبدعي الموسيقى الرومانطيقية (بيتهوفن)، ورغم أن الحكاية تبدو بلا مصدر موثوق فإن كثراً يحبون تصديقها، وحتى هو من دون أن يؤكدها هو تماماً
ربما لا يوجد في تاريخ الحياة الموسيقية الأوروبية لغز يضاهي في غموضه وغرابته، ذاك المتعلق بسؤال قد يبدو في نهاية الأمر، بسيطاً: هل حدث حقاً أن التقى عبقريا الموسيقى الأوروبية وأكبر مؤلفين موسيقيين وجدا على مر التاريخ، يوماً أم لم يلتقيا؟
الحقيقة أن ثمة نظريات حول هذا الموضوع تساوي في عددها عدد طارحي السؤال، ولكن من دون أن يكون أي منها مقنعاً حقاً. ففي نهاية المطاف، ليس ثمة أية وثيقة أو تأكيد قاطع أو شاهد عيان يمكنه أن يزعم أنه حقاً كان شاهداً على لقاء من ذلك النوع.
أما كل الذين تحدثوا عن اللقاء أو عن عدم حصوله، فإنما كتبوا عن ذلك بعد عقود من رحيل موزارت وبيتهوفن، لا سيما منهم مؤرخ الموسيقى المعتمد وكاتب سيرة موزارت، هاهن الذي كان لم يولد بعد حين رحل موزارت ومن بعده بيتهوفن بسنوات.
ومن هنا، على اعتبار أن هاهن كان المصدر "الأكثر" موثوقية في حديثه المتداول عن لقاء ما تم بين آخر سادة الموسيقى الكلاسيكية (موزارت)، وأول مبدعي الموسيقى الرومانطيقية (بيتهوفن)، فإن كثراً يحبون تصديق "الحكاية" التي أوردها، وحتى هو من دون أن يؤكدها تماماً، عن اللقاء الذي يفترض أنه جرى في عام 1787، أي قبل رحيل موزارت بأربع سنوات، وكان بيتهوفن في الـ17 من عمره، ولا يزال دارساً للموسيقى بارح مسقط رأسه بون إلى فيينا كي يلتقي الأستاذ العبقري وكله إعجاب به. وتقول حكاية هاهن إن موزارت وبقدر كبير من العجرفة، طلب من الفتى المنبهر به أن يرتجل شيئاً يعزفه ليرى ما إذا كان سيمكنه أن يكون موسيقياً حقيقياً، وبالفعل طفق الفتى يعزف قطعة لموزارت نفسه. عند ذاك وعلى رغم روعة العزف، وربما بسبب مزاج موزارت السيئ حينها، لم يبد هذا الأخير كثيراً من المبالاة. غير أنه حين انتقل إلى غرفة مجاورة التفت إلى خلصائه المحيطين به قائلاً لهم، "خذوا بالكم من هذا الشاب. فالعالم كله سيتحدث عنه عاجلاً أم آجلاً!". والحقيقة أن هذه الحكاية تبدو في هذا السياق، الأكثر تداولاً.
حكاية مطلوبة
وطبعاً كما أشرنا، لم ترد هذه القصة الأخيرة إلا بعد سنوات طويلة من موت الموسيقيين، وربما لم تكن الغاية من تداولها سوى خدمة ذكرى بيتهوفن بتبيان مدى نبوغه أمام أستاذه الكبير، ولكن من ناحية ثانية تبيان المزاج السيئ الذي كان موزارت يعيشه في ذلك الحين وهو يحدس أن نهايته قد باتت قريبة ويستاء من شظف العيش وربما يحسد الشاب الماثل أمامه، على سعة عيش تجعله قادراً على السفر من بون إلى فيينا لدراسة الموسيقى.
لكن الواقع أن موزارت لم يكن يعلم حينها أن بؤس بيتهوفن لا يقل عن بؤسه إذ إن أباه كان قد دمر الأسرة بإدمانه وأمه على شفير الموت، مما اضطره على أية حال إلى مبارحة فيينا للعودة حتى يكون بجوارها حين ماتت بعد وصوله بشهور قليلة.
ومهما يكن من أمر فلا شك أن تلك الزيارة التي قام بها بيتهوفن حقاً إلى فيينا في ذلك العام والتي من المرجح أنه لم يلتق موزارت فيها، لم تكن زيارته الوحيدة إليه، لكنها كانت الوحيدة وموزارت لا يزال على قيد الحياة. لذا يصعب تأكيد اللقاء، بل وربما يصعب تأكيده من ناحية نفسية، بالنظر إلى أن بيتهوفن سيبقى طوال حياته حافظاً وداً شديداً لموزارت، متابعاً له في بعض توجهاته الموسيقية مما يفترض أنه لو جوبه فعلاً بمثل تلك العجرفة من سلفه الكبير، لما بادأه بكل ذلك وهو الذي سيعرف لاحقاً بكبريائه وعزة نفسه التي ما كان لها أن تجعله يقبل ذلك الموقف المتعجرف من إله كان هو نفسه يبجله، وظل يدرس مؤلفاته طوال حياته.
ومن هنا ما يمكن الافتراض أن الحكاية مختلقة بقدر ما ترمز إلى قدرة إبداعية كبيرة متخيلة: موزارت يستمع إلى بيتهوفن وهو يتنبأ بأنه سيكون خليفته ويقلب وجه الموسيقى الأوروبية رأساً على عقب.
موزارت في فن بيتهوفن
وحتى ولو لم يلتق الاثنان فعلاً، فلا شك أن تأثير الأول ظل حاضراً في حياة الثاني وفنه، بالنظر إلى أن سيمفونيات بيتهوفن المبكرة، لا سيما منها الأولى والثانية، تحمل ملامح بناء كلاسيكي قد تكون مستمدة من هايدن جزئياً، لكنها بعد تدقيق ستبدو على ارتباط وثيق بكلاسيكية موزارت، تلك الكلاسيكية التي يرى مؤرخ الموسيقى الرومانطيقية ألفريد أينشتين أن بيتهوفن لم يتحرر منها إلا بدءاً من سيمفونيته الثالثة "البطولة" التي كانت أول إعلان سيمفوني من جانبه عن ولادته كموسيقي رومانطيقي.
غير أن المهم في هذا كله هو ما يؤكده أينشتين نفسه من أن بيتهوفن "بقي طوال حياته يشعر أنه في حوار مستمر ومثر مع موزارت، يستعير من بنياته ويطورها، بل حتى لا يتوقف عن تحدي قواعدها، ولكن من دون أن يقطع معها تماماً"، كأن موزارت ظل بالنسبة إليه ذلك الأب الضائع الذي لم يعرف كيف يفارقه تماماً أو يعترف بفقدانه.
والحال أن هذا الواقع المرصود بعناية، يعيدنا إلى موضوعنا الرئيس هنا ولكن، هذه المرة من خلال سؤال آخر: إذا كانت الأمور كذلك، لماذا ترانا في أحيان كثيرة نحب أن نتمسك بحكاية اللقاء بين موزارت وبيتهوفن، ونرى إمكانية يشاركنا فيها المؤرخ هاهن، في أن يكون لقاء ما قد تم بين الاثنين؟
إن في وسعنا هنا أن نتطلع باحثين عن جواب يمكن أن يوفره لنا ما يمكننا أن نعده علم النفس الجماعي. فلئن تساءل البعض عن السبب الذي يجعلنا كما حال المؤرخين والكتاب، مصرين على ترداد قصة قد لا تكون حقيقية، لا ريب أن الجواب يكمن في طبيعة الذاكرة الجماعية التي لا تبحث عادة عن الدقة بل عن الترميز. وواضح في حالتنا هنا أن "لقاء" موزارت وبيتهوفن "المتخيل" يعطينا رمزاً مكثفاً يتعلق بانتقال العظمة من يد إلى يد أخرى، في لحظة نادرة يلتقي فيها الماضي بالمستقبل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أسطورة مؤسسة
إن الأمر هنا يبدو منتظماً في سياق الأساطير المؤسسة في ما يشبه ميلنا إلى تصديق أن هوميروس قد التقى يوماً فيثاغورس أو أن دانتي التقى بيترارك، ولعل قمة في هذا السياق وصل إليها الكاتب اللبناني باللغة الفرنسية أمين معلوف، حين بنى كل روايته الرائعة "سمرقند" على لقاء، دام حياة بأسرها بين عمر الخيام وحسن الصباح ونظام الملك، أو لعله ملك شاه! فهذه اللقاءات حتى وإن لم يكن في إمكانها أن تحدث في الحقيقة، توفر لنا صورة شعرية أخاذة لمجريات التاريخ تجعله يبدو أكثر حيوية وأقل جموداً مما هو في حقيقته.