ملخص
منذ انتهاء مدة سريان بطاقات التسوية تلك وحتى الآن ظل مصير هؤلاء الأشخاص معلقاً، مما حرم معظمهم من حقوق المواطنة والسفر والتعاملات، كما أنهم يسيرون على الطرقات ببطاقات التسوية تلك لعدم امتلاكهم أوراقاً ثبوتية سواها، ولا يمكنهم استخراج أوراق أخرى أساساً، مما عرضهم في كثير من الحالات لمضايقات على الحواجز وصلت في أحيان كثيرة إلى التعنيف أو الاعتقال أو القتل، كما في أحداث أخرى ارتبطت بمجازر مختلفة.
بعيد سقوط النظام السوري السابق شرعت السلطات الجديدة، ممثلة بإدارة العمليات حينها، في إجراء تسوية شاملة لكل ضباط وعناصر الجيش والأمن السوري السابقين والمجموعات التابعة لهما ليحصلوا على بطاقة تسوية مع تسليم سلاحهم، تلك البطاقات كانت بمثابة هويات موقتة تثبت هوية حاملها لتحل مكان الهوية المدنية (البطاقة الشخصية) على اعتبار أن النظام العسكري العام يقضي بسحب البطاقات الشخصية من منتسبي القوات العسكرية، سواء كانوا متطوعين أم يخضعون للجندية الإجبارية بين أفراد وصف ضباط وضباط، والأمر ذاته ينطبق على جواز السفر بطبيعة الحال.
تلك البطاقات كانت تحمل تاريخاً محدداً لانتهاء سريانها، وهو أشهر قليلة وانتهت بين شهري مارس (آذار) وأبريل (نيسان) الماضيين، وفي ذلك الوقت كانت البلاد شهدت مستوى أعلى من التنظيم الإداري وتشكلت حكومة انتقالية أولية، وجرى إطلاق الإعلان الدستوري وتعيين حكومة جديدة، وتنظيم الجيش والأمن والاستخبارات الجدد، وإطلاق مؤتمر حوار وطني، وتعيين الشرع رئيساً موقتاً في مؤتمر النصر، لكن على رغم كل ذلك لم يحصل شيء مع الذين أجروا التسويات، ولم تتم إعادة هوياتهم المدنية إليهم، ومن ثم حرمانهم من حقوقهم الأصلية المرتبطة بالتشريع المرتبط بالمواطنة المتساوية.
ومنذ انتهاء مدة سريان بطاقات التسوية تلك وحتى الآن ظل مصير هؤلاء الأشخاص معلقاً، مما حرم معظمهم من حقوق المواطنة والسفر والتعاملات، كما أنهم يسيرون على الطرقات ببطاقات التسوية تلك لعدم امتلاكهم أوراقاً ثبوتية سواها، ولا يمكنهم استخراج أوراق أخرى أساساً، مما عرضهم في كثير من الحالات لمضايقات على الحواجز وصلت في أحيان كثيرة إلى التعنيف أو الاعتقال أو القتل، كما في أحداث أخرى ارتبطت بمجازر مختلفة.
هوية الانتقام
والسؤال عمن أجرى التسوية، وتعدادهم بالضبط، لا تجيب عنه وزارتا الدفاع والداخلية ولا تقدمان أرقاماً نهائية دقيقة في هذا الصدد، لكن المؤكد أن العدد الفعلي هو أكثر من عشرات الآلاف من الأشخاص، وربما مئات الآلاف، ويمكن استنتاج ذلك على اعتبار أن جيش بشار الأسد كان يملك قواماً كبيراً في مراحله الأخيرة بعد اندحار المعارك من المدن الرئيسة وركون الجبهات بعد مساري "أستانا" و"سوتشي" في الفترة التي سبقت عام 2020، لذا عادت الجندية الإلزامية للانتظام إلى حد بعيد نوعاً ما، بحسب ما قالت مصادر عسكرية سابقة لـ"اندبندنت عربية".
بعد كل ذلك أصبحت بطاقة التسوية هي هوية الاتهام وسبب الانتقام على اعتبار أن كل حامل لها هو من "الفلول"، وهنا للمرة الأولى لا يشترط أن يكون "الفلول" من العلويين، فالجيش حمل كل الطوائف معه، ومن بينهم نسبةٌ كبرى من الطائفة السنية، مما شكل صدعاً مجتمعياً وأرقاً مستديماً وخوفاً لا فكاك منه لحاملي تلك البطاقات وصولاً إلى مرحلة ملازمة المنازل وعدم الخروج منها أبداً، ويعلل كثير من أصحاب التسويات مظلوميتهم بأنهم لو كانوا متورطين بالدم السوري لما امتلكوا أساساً جرأة إجراء تسوية في مقار الأمن والجيش الجديدين والدخول بقدميهم إليها.
وعلى رغم أن الغالبية العظمى ممن أجروا التسوية ذهبوا بإرادتهم لفعل ذلك، لكن الأمر فعلياً بدأ مع الشهر الأول من التحرير، وحينها لم تكن السلطات الجديدة تملك قاعدة بيانات دقيقة للجنود والضباط، فكان على الضابط أو العنصر أن يقدم هو معلومات عن نفسه بذاته، أين كان يخدم، ومنذ متى، وفي أية قطعة، وما هي رتبته، وهو ما جعل بعضهم لا يقول الحقيقة، فلم يكن ضابط الأمن ليُكتشف لو قال إنه ضابط إداري في الجيش، وضابط المدفعية في الجيش ما كان ليُكتشف إن قال إنه كان يخدم في أقسام التجنيد، والأمر ذاته ينطبق على ضباط الشرطة العسكرية وهي الجهة التي كانت مكلفة بسجن "صيدنايا" مثلاً، حتى إن عمليات التسوية تلك بعينها، على رغم أنّها سارت بصورة جيدة في حينه، فإنها في أحيان معينة لم تخل من إهانات وضرب أحياناً من دون سبب، وكان ذلك مفهوماً للغاية حين يكون الحديث عن أن العملية بدأت مع التحرير لتوّه، أي حين كانت النفوس بأسرها مشتعلة.
علاء. ن، نقيب سابق في الجيش السوري المحلول، خدم في الفيلق الثالث بوسط البلاد، وقد فر قبيل سقوط النظام مع من فروا نحو بلدته في قضاء مدينة جبلة التابعة لمحافظة اللاذقية الساحلية شمال غربي سوريا. لدى علاء ثلاثة أولاد، طفلةٌ وصبيين، الصغير بينهم عمره أشهر، وهو بحاجة دائمة إلى مستلزمات من بينها الحليب الصناعي، ولا يجرؤ كما غيره من الضباط الذين يحملون بطاقات تسوية على مغادرة المنزل. تقوم غالباً زوجته أو أمه بإتمام الحصول على تلك المتطلبات.
خشيته من الخروج من المنزل نابعة من خوف مما يمكن أن يحصل إن أوقفه حاجز وطالبه بهويته وقدم لهم بطاقة التسوية، يفكر بماذا يمكن أن يحصل بعدما سمع كثيراً من القصص عبر زملائه، تلك المرتبطة بالإهانة تحديداً، ونصائح زملاء آخرين له بألا يخرج من المنزل.
يقول علاء لـ"اندبندنت عربية"، "أقطن مع عائلتي الكبرى في المنزل ذاته منذ نهاية فبراير (شباط) الماضي، أي قبل مجازر الساحل بأيام، ولم أخرج من المنزل إطلاقاً، وورقة التسوية التي أملكها انتهت منذ أشهر طويلة، وهي بالأساس وسيلة للإدانة أكثر منها للعبور وإنجاز الأعمال، نحن اليوم محرومون من العمل، والخروج، وإنجاز التعاملات، والاستحصال على الأوراق الرسمية، والبيع والشراء والقضايا العقارية وكثير من الأمور، ويلفنا الخطر من كلّ جانب، وكيف لا يلفنا ونحن نحمل ورقة تشير بـ10 أصابع نحونا على أننا (فلول) من جيش محلول حارب الثورة طيلة عمرها، وقد انتصرت الثورة في النهاية، أنا أعرف أنني لست متورطاً في انتهاكات وقتل ودم، ولكنّ الخروج من المنزل مغامرة كبرى، الخوف مع الوقت يكبر ولا يصغر، وبطاقة الأشهر القليلة يبدو أنها سترافقنا طويلاً في تمييز واضح وغير معلن بين من هو وطني ومن هو خائن للثورة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مصدر مطلع قال لـ"اندبندنت عربية"، إن اللاذقية وحدها أجرى في مراكزها ما بين 75 و85 ألف ضابط وعنصر تسوية، وهذا ليس الرقم الكلي لمنتسبي المحافظة في الجيش وبقية الأجهزة، ومن هنا يمكن الاستدلال على ضخامة الأرقام التي كانت موجودة في المؤسسات العسكرية، وفعلاً يبدو الرقم كبيراً للغاية.
ولأن قوام الجيش كان كبيراً فعلاً، وكثير من القطعات والفرق والجهات مكتفية بما لديها، برزت ظاهرة سمّيت "التفييش"، وهي أن يلتحق الجندي بالخدمة، إجبارية أو تطوعية، ثمّ بعد أن يلتحق بالخدمة بفترة قصيرة يتفق مع الضابط المسؤول على ألا يخدم فعلياً على الأرض، مقابل أن يترك راتبه كاملاً للضابط المسؤول وفوقه مبلغ إضافي، وكانت تصل مبالغ "التفييش" أحياناً إلى مليون ليرة سورية، أي ما يعادل مئة دولار على حسابات سعر الصرف اليوم.
وكانت السلطات العسكرية القيادية تعلم بتلك الأمور بأدق تفاصيلها، نظراً إلى الارتفاع الكبير في نسبة هؤلاء الملتحقين بالخدمة الذين يظلون في بيوتهم، وإلى حدٍّ كبير كانت تلك الظاهرة مباركة من القيادة على قاعدتين: الأولى هي تقاسم الأموال النهائية بين القيادات عبر هرم تسلسلي، والثانية ما يشبه عملية تدوير بيروقراطي حكومي يسمح للضابط القائد في قطعته بأن يكون مرتاحاً مالياً على حساب فائض جنوده، على اعتبار أن وجود الضابط أهمّ من وجود العسكري، وفي الوقت ذاته هذا لا يعني أن كل الجيش كان في منازله، إذ كانت هناك نسب مئوية محددة لتلك الظاهرة بحسب الاختصاص ومكان الخدمة، ففي حين كانت مسموحة في الجيش، لم تكن كذلك في الأمن إلا في حالات نادرة جداً.
مجرمون وأعداء
في عام 2020 تمكن الجندي عبدو.م، من الاتفاق مع رئيسه على المبلغ الذي يمكّنه من البقاء في منزله، وكانت تلك صفقة رابحة للجندي بطبيعة الحال، فأولاً يُعفى من المهمات العسكرية، وثانياً يتخلص من قلّة الراتب، مما يتيح له العمل في التجارة أو أي عمل آخر يدرّ عليه أرباحاً أكبر، والأهم يبقيه قرب عائلته.
عاد عبدو إلى قريته في قضاء مصياف غرب مدينة حماة بوسط سوريا، وهناك عمل بتجارة السيارات من خلال أحد المعارض، وكان يجني أرباحاً جيدة مكنته من الزواج وتأسيس منزل وإنجاب طفل، ومع سقوط النظام السوري كان كلّ ما بحوزته من وثائق رسمية هويته العسكرية، وكان لا بد من إجراء التسوية.
يقول عبدو "بعدما أجريت التسوية سدّت كل الطرق في وجهي، لم أتمكن من العمل من جديد، الجميع يرفض تشغيلي لأنني لا أملك وثائق شخصية سوى بطاقة تسوية منتهية الصلاحية، وفوقها صار التنقل أمراً شبه مستحيل خشية تعرضي للاعتقال، في النهاية غادرت زوجتي وطفلي المنزل إلى منزل ذويها، ولا أحد يريد إخبارنا متى سيتم العفو عنا ومنحنا هوياتنا المدنية لنعود ونعيش حياتنا الطبيعية، نحن اليوم بالنسبة إلى السلطة، ولا أقصد القيادة ولكن في الأقل الأفراد في الطرقات، نحن مجرمون بهذه البطاقات وأعداء".
تواصلت "اندبندنت عربية" مع كثير من حملة بطاقات التسوية، وفي أكثر من محافظة سورية كحمص، وحماة، والساحل، ودمشق، وغيرها، الجميع تقريباً أجمع على أن نطاق حركتهم محدود للغاية ضمن حيز ضيق في محيط سكنهم، في حين أن آخرين لا يغادرون منازلهم إطلاقاً، كما أشار بعضهم إلى أن قتل كثيرين في مجازر الساحل تم بناء على حملهم بطاقة تسوية، وكلّهم اليوم من دون عمل، وتلك معضلة أخرى بحدّ ذاتها، فالعسكريون لا يملكون من الخبرات الحياتية المدنية ما يؤهلهم فعلياً للمشاركة في الأعمال الاقتصادية صغرت أم كبرت، هذا عدا عن الأثر النفسي المرتبط بالانتقال من الحال القيادية إلى الوجه المنبوذ مجتمعياً بأثر سلطوي.
فوق ذلك يحمل هؤلاء الأشخاص مخاوف من حملات اعتقالات عشوائية، ويرون أنهم أقرب الأهداف لأية مداهمات خلال البحث عن مجرمين، وأقرب المتهمين ليكونوا "فلولاً" ومخربين وعدائيين، مما يضعهم ضمن معادلة معقدة تعوق عودتهم لحياتهم الطبيعية، وينعكس على أوضاعهم الاقتصادية والإنسانية والاجتماعية والنفسية في انتظار استعادة حقوقهم المدنية التي طال انتظارها كثيراً من دون تبريرات أو أسباب معروفة، وكأنّ الملف قد أُقفل من أساسه، كما عبر بعضهم.
لم يرغب أحد من أولئك الذين أجروا تسويات في الحديث بأسمائهم الصريحة أو الكاملة، ويبدو ذلك مفهوماً تماماً تحت الضغط الذي يعيشونه منذ قرابة تسعة أشهر، وفي الوقت ذاته لا يمكن إعفاء الجميع والقول إنهم كلهم غير متورطين في الدم السوري، فحال ضياع البيانات، والعجالة في إتمام التسوية أتاحتا الإمكانية لضباط الأمن والشرطة العسكرية الحصول على بطاقات تفيد بأنّهم ضباط خدموا في مواقع أخرى.
أحد الضباط الذين خدموا في الاستخبارات الجوية في حمص، وهو واحد من أشد الأفرع الأمنية بطشاً، كما يعرف السوريون، تقدم للتسوية وحصل عليها مطلع العام الحالي، ومن ثمّ ترك زوجته وابنته في منزلهم في حمص، وهرب هو إلى قريته في ريف محافظة طرطوس، انطلاقاً من قناعته بأن السجلات إن عادت لتفتح من جديد فستتم ملاحقته ولكن لن تتم ملاحقة زوجته وابنته، على اعتبار أن هذه الواقعة تكررت أكثر من مرة خلال مطاردة قاضٍ عسكري في حمص أيضاً تاركاً أسرته خلفه من دون أن يتعرض أحدٌ منهم لمضايقة، ففي هذه الحالات تقتصر المداهمة على الشخص المطلوب لا أطفاله، وفي إطار مشابه أجرى أحد ضباط الشرطة تسوية كذلك، والشرطة أيضاً كانت مطالبة بإتمام التسوية على رغم أنّ الشرطة في سوريا، أي وزارة الداخلية، جهاز يتمتع أفراده بالصفة المدنية، أي يحتفظون بحقوق السفر والهوية الشخصية، وقال الضابط لنا "أجريت التسوية من غير اضطرار خشية فتح أوراق الماضي وطلبي أو اعتقالي، ورأيت أنه من الأفضل أن أتقدم بنفسي إلى التسوية، والسلطات لدينا تعلم أنّ الشرطة كانت جهازاً داخلياً لا علاقة له بارتكاب انتهاكات أو جرائم موصوفة".
حاولت "اندبندنت عربية" الحصول على معلومات رسمية تشير إلى الموعد التقريبي الذي سيتم فيه البدء بتسليم الهويات المدنية، ولكن اتضح أنه لا أحد يملك إجابة نهائية، سوى ما قيل لنا إن الأمر ربما يكون قريباً، وسيشمل أولاً العناصر والمجندين، وفي وقت لاحق الضباط وصف الضباط، وستكون هناك استثناءات ولن تمنح للبعض هوياتهم أساساً، وقد يكون ذلك مرتبطاً بمسار العدالة الانتقالية لضمان عدم إفلات أحد من المحاسبة، أو أن يكون التأخير والمماطلة هما صلب ما يزيد قلق ومخاوف أصحاب التسوية، فلا جدول زمنياً واضح، ولا حقوق مدنية مستعادة، حتّى باتت المواطَنة المتساوية تغدو كصورة من الترف المبالغ به أمام جيش اتخذ قراره الأخير قبل سقوط النظام بعدم القتال والدفاع عن الرئيس المخلوع، فكانت معارك خلع النظام من دون دماء تذكر، وعلى هذا يعول العسكريون منتظرين إنصافاً لموقفٍ ولو جاء متأخراً، وتحديداً أولئك الذين لم يخوضوا معركة واحدة أو يطلقوا رصاصة في الأعوام الأخيرة.