ملخص
لم يكن من الصدفة أن يكون الكاتب الأميركي كاشييل هاميت واحداً من قلة من كتاب الرواية البوليسية، خاضت النضال السياسي إلى جانب القوى اليسارية الأميركية، مما فتح عليه عين لجنة السيناتور ماكارثي وجعله في فترة من الفترات عرضة للاضطهاد أسوة بزوجته، في ذلك الحين، الكاتبة ليليان هيلمان
في العام الأول من القرن الـ21 حدث للمدعوة جو هاميت أن كانت تقلب في مخلفات تركها والدها قبل رحيله في قبو منزله مبعثرة بشكل فوضوي، حين عثرت بما يشبه الصدفة على مجموعة من ملفات ووثائق ما إن قرأتها حتى أعلنت صارخة دهشتها، فالأوراق التي كتب معظمها بخط والدها وتوزعت بين فقرات قصيرة وقصاصات صحف ورسائل تلقاها من أصدقاء له ومسودات نصوص نصف معروفة وصور وأوراق عائلية، تمكنت بسرعة من أن تحدث لديها ثورة في نظرتها إلى أبيها بل تبدلاً جذرياً في ما كانت تعرفه من نظرة الناس إليه.
ولربما علينا هنا لكي ندرك أهمية ذلك الاكتشاف وتلك "الثورة" أن نعرف أن والد جو هاميت الذي كان قد رحل عن عالمنا قبل ذلك "الاكتشاف" بـ40 عاماً، لم يكن كما كنا قد قلنا في مناسبة سابقة، سوى واحد من اثنين أو ثلاثة من كتاب الأدب البوليسي الأميركي، عرفوا كيف يقفزون بهذا النوع من الكتابة، من حيز الكتابة الشعبية الرخيصة والقائمة، فحسب، على مبدأ الترفيه، إلى حيز الكتابة الجادة التي تتخذ لها مكانة محترمة في عالم الأدب الرفيع.
من هنا، لم يكن من الصدفة أن يكون واحداً من قلة من كتاب الرواية البوليسية، خاضت النضال السياسي إلى جانب القوى اليسارية الأميركية، مما فتح عليه عين لجنة السيناتور ماكارثي وجعله في فترة من الفترات عرضة للاضطهاد أسوة بزوجته، في ذلك الحين، الكاتبة ليليان هيلمان، التي روت جزءاً من حكايتهما في رواية اقتبس منها فيلم "جوليا" لفرد زينمان قبل حدوث ذلك "الاكتشاف" بعقدين من الأعوام.
ولم يكن والد السيدة جو سوى داشييل هاميت، الذي ارتبط اسمه، في الأقل، بثلاث أو أربع من أهم الروايات البوليسية التي أنتجها الأدب الأميركي أواسط القرن الـ20، كذلك فإن السينما اقتبست من نصوصه أفلاماً عدة تعتبر اليوم من الكلاسيكيات في مجالها، إضافة إلى أن واحدة من رواياته وهي "الحصاد الأحمر" تعتبر الرواية التي لم يكف عن الحلم بنقلها إلى الشاشة بعض أهم مخرجي السينما العالمية ومنهم ستانلي كوبريك وبرناردو برتولوتشي.
الارتقاء بالأدب البوليسي
في الحقيقة إن داشييل هاميت كان، بصورة خاصة إلى جانب رايموند تشاندلر "الكاتب الذي رفع الأدب البوليسي إلى مستوى أرفع صنوف الأدب" هو الذي حتى من قبل رحيله أعلنه زميله تشاندلر سيد النوع من دون منازع، وكتبت ليليان هيلمان سيرته "المأذونة" معتبرة إياه واحداً من أفضل الكتاب الأميركيين من أبناء جيله، لتثني مرغريت إيتوود على ذلك بكتابتها دراسة عنه ندر أن خص بما يماثلها أي أديب أميركي من ذلك الجيل، معلنة فيها أنها منذ قرأته وهي بعد في مراهقتها "فتنت إلى أقصى حدود الافتتان، ورحت أقرأ نصوصه القليلة مرات ومرات وأطلب مزيداً"، ثم "ذهلت حين عرفت أن هذا الكاتب الساحر قد استدعي يوماً من قبل اللجنة الماكارثية التي قررت أن تسجنه لمجرد أنه صمت حين استجوبته رافضاً الوشاية بزملاء له من الشيوعيين والتقدميين، بل حتى رافضاً إجابة اللجنة حين سألته عن... اسمه قائلاً بملل: إنكم تعرفونه أيها السادة!".
بالنسبة إلى مرغريت إيتوود لا شك أن الرجل الذي كانت ترى كتبه أعمالاً أسطورية بات بالنسبة إليها أسطورة هو نفسه، لكنها مثل غيرها راحت تحلق أكثر وأكثر من حول عشرات الأسئلة والغوامض التي تحيط بحياته وكتاباته، بل حتى برفيقة حياته ليليان هيلمان التي لا شك أنها أسهمت بدورها في أسطرته وأسطرة حياته. وهي أسئلة كانت إيتوود تقول دائماً إنها لن ترتاح قبل العثور على أجوبة لها. ولا شك أنها ارتاحت أخيراً وقد دنت من الـ70 حين أصدرت جو هاميت كتابها الجامع أوراق أبيها "المختفية" ورسائله وقصاصاته وما إلى ذلك.
خمس روايات لا أكثر
ولعل من أبرز تصريحات داشييل في تلك الأوراق ما فكر به يوماً من دون أن يبلغه لأحد، من أنه قد قرر التوقف عن الكتابة لأنه بات يشعر أنه يكرر نفسه مع أنه، وكما تقول ابنته جو في تقديمها للكتاب لم يتوقف عن الكتابة يوماً في حياته. مضيفاً أن بداية النهاية بالنسبة إليه تحل حين يكتشف، ككاتب، أنه بات يملك أسلوباً معيناً في الكتابة لا يمكنه إلا أن يتبعه.
والحقيقة أن جو هاميت لم تكتف حين كلفت الباحث ريتشارد ليمان بتحرير أوراق أبيها، بأن تدبج مقدمة وافية للكتاب، بل إنها ما إن انتهت من العمل عليه مع ليمان ونشره، حتى ألحقته بكتاب خاص بها هذه المرة، عنونته "داشييل هاميت الابنة حين تتذكر"، ليشكل الكتابان معاً قبلة أساسية في النظر إلى هذا الكاتب الذي لا يذكر الأدب الأميركي الكبير كما ساد أواسط القرن الـ20 إلا ويكون اسمه في مقدمة الأسماء الكبيرة مع أن إنتاجه الحقيقي لم يتجاوز الروايات الخمس.
سيرة مختصرة لكاتب مقل
وتقول لنا سيرة داشييل هاميت الذي رحل عن عالمنا اعام 1961 وهو في قمة مجده الأدبي، إنه ولد عام 1894 في ولاية ميريلاند الأميركية، وتلقى علومه في بالتيمور وفيلادلفيا، ليترك الدراسة وهو في الـ14 من عمره، حيث وكما هي عادة كبار الكتاب الأميركيين العصاميين مارس كثيراً من المهن، كساع وموظف وحمال، وانتهى به الأمر في تلك الحقبة للعمل كتحرٍّ خاص في وكالة بنكرتون، وهي المرحلة التي زودته ببعض أهم مواضيع رواياته وقصصه المقبلة.
خاض هاميت الحرب العالمية الأولى وعاد منها مريضاً، إذ أمضى فترة طويلة في كثير من المستشفيات العسكرية قبل أن يستعيد نشاطه المهني، وتحديداً ككاتب للقصص والروايات البوليسية حيث سرعان ما بدأ ينجح وينظر إليه بوصفه معلماً من المعلمين في ذلك المضمار، وكانت ثلاثة أو أربعة كتب كافية لتأتيه بالشهرة والثروة والمكانة، وفي مقدمها روايته الكبيرة الأولى "الحصاد الأحمر" 1928 ثم "دم فاسد" 1929.
وخلال الأعوام السبعة التالية أصدر هاميت روائعه الأخرى بصورة متتالية: "الصقر المالطي" و"المفتاح الزجاجي" و"الرجل النحيل".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
السينما على خط السيرة
خلال 31 عاماً، هي النصف الثاني من عمره، عاش داشييل هاميت مع ليليان هيلمان، الكاتبة الروائية والمسرحية الشيوعية المعروفة، ومن المعروف أن هيلمان قد وقفت إلى جانبه وساندته حتى حين كانا يفترقان على خلافات سياسية بينهما.
ولا شك أن فيلم "جوليا" الذي كان من أبرز الأفلام السياسية الأميركية التي حققت أواخر سبعينيات القرن الـ20، قد أعاد هاميت إلى الواجهة، إذ ظهر فيه بشخصيته الحقيقية بوصفه ذلك الكاتب الكبير الذي ساعد زوجته ليليان هيلمان (فانيسا ريدغريف في الفيلم) على الوصول إلى برلين في أكثر مراحل الزمن الستاليني ظلاماً في برلين الشرقية، حيث يقدمان عوناً لمناضلة بائسة ضد النظام القمعي (قامت بالدور جين فوندا ببراعة استثنائية يومها).
والحقيقة أننا لا يمكننا أن نذكر فيلم "جوليا" من دون المرور في طريقنا على فيلم "هاميت" الذي حققه السينمائي الألماني فيم فندرز عام 1982، بعد أعوام قليلة من تحقيق فرد زينمان فيلم "جوليا"، بيد أن "هاميت" الفيلم الذي حسب بصورة عامة بكونه نوعاً من سيرة مجتزأة، ومتخيلة، لمرحلة مبكرة من حياة داشييل هاميت نفسه، لم يوفق أبداً في نقل شخصيته الحقيقية على الشاشة، ولم تكن تلك غاية فيم فندرز على أية حال بل كانت غايته المزج بين ما كان يكتبه هاميت باكراً في أعوام الـ20 وبدايات الـ30 ومجريات تلك المرحلة من حياته حين كان بعد كاتباً ناشئاً لا يزال يعمل لكسب عيشه تحرياً خاصاً في وكالة بنكرتون.
صحيح أن الفيلم جاء عملاً فنياً كان من المؤكد أن الجمهور العريض، الذي يعرف هاميت ككاتب بوليسي كبير لم يتمكن من فهم ذلك التداخل فيه بين حياته وحكاية تدور من حول واحد من مساعديه يدعى هو للمساعدة على العثور عليه، إلى آخر ما هنالك... غير أن فيلم "هاميت" على رغم ذلك، كان له تأثير فيلم "جوليا" نفسه في إعادة ذكرى الكاتب الكبير إلى واجهة الأحداث السينمائية، كما إعادة الحديث عن تطلع كبار المخرجين لأفلمة تحفته "الحصاد الأحمر".