تضرب العلاقات المصرية البريطانية بجذورها لعدة قرون مضت، حين بدأ التنافس البريطاني الفرنسي على المستعمرات، وفي مقدمها مصر، فنحن نتذكر "حملة نابليون" التي كانت بداية الصحوة المصرية الحديثة وميلاد الدولة العصرية، كذلك نتذكر "حملة فريزر" على مدينة رشيد المصرية عام 1807، ونتذكر أيضاً المواجهة البحرية الدامية بين الأسطولين الفرنسي والبريطاني كجزء من الصراع على مناطق النفوذ وراء البحار.
وإذا كانوا يقولون إن الهند هي أكبر درّة في التاج البريطاني، فإن مصر هي أجمل أيقونة امتلكتها بريطانيا في الشرق الأدنى، الذي أطلقت عليه وزارة المستعمرات البريطانية في مطلع القرن العشرين مصطلح "الشرق الأوسط" تمييزاً له عن المناطق المحيطة به وتأكيداً لما تم في معاهدة (سايكس بيكو) من تقسيم للوطن العربي وتمزيق لأوصاله بين مناطق النفوذ، لذلك ظلت العسكريّة المصرية حية في الوجدان الوطني، وهي التي مرّت بمحطات مشهودة بدءاً بالثورة العرابية ووصولاً إلى ثورة 1952 والكفاح المتصل بينهما في مواجهة الوجود البريطاني.
لذلك ظلّت القضية المصرية المحور الذي تدور حوله العلاقات المصرية البريطانية، ولقد استقر في العقل المصري أن بريطانيا دولة ذات رؤية بعيدة ولها سياسات ثابتة في المناطق المختلفة من العالم، ويضيف خبراء الدبلوماسية الإقليمية أن لندن وضعت قاعدة ثابتة للعلاقات مع مصر منذ أكثر من قرنين- ولا يبدو أنها تغيرت أبداً– وهذه القاعدة تشير إلى أن مصر هي الدولة المركزية المحورية في المنطقة، والمثل البريطانيّ الشهير يقول (إذا عطست مصر فإن ذلك معناه أن الشرق الأوسط مصاب بالإنفلونزا).
وتعتمد النظرية البريطانية على آليات خارجية ترى أن مصر لا يجب أن تسقط أبداً، فسقوطها يعني انهيار المنطقة، كما أنها يجب ألا تحلّق عالياً لأن ذراعيها تمتدان خارج حدودها مثلما حدث في حالتي محمد علي وجمال عبد الناصر، ولذلك فإن الوضع الأمثل بالنسبة للدولة المصرية من وجهة نظر السياسة البريطانية هي أن تطفو على سطح المياه فلا تغرق ولا تحلّق، بل تظلّ ركيزة للاستقرار في المنطقة في مختلف الأحوال التي تمر بها العوالم العربية والإفريقية والإسلامية والبحر متوسطية، ويهمنا هنا أن نسجل بعض الملاحظات حول الدور المصري والموقف البريطاني، منها:
أولاً: لم تنجح سياسة الاحتلال البريطاني في استيعاب الدولة المصرية وظلت متمركزه في العاصمة ومنطقة قناة السويس وبعض المدن الكبرى، ولكنها لم تصل ثقافياً في الأقل إلى أعماق الإنسان المصري، خلافاً لما يحدث بين الاستعمار الفرنسي والدول التي يحتلها، حيث تنجح فرنسا دائماً في سياسة "الفرنسة" والاستيعاب لمستعمراتها بصورة لم تشهدها النماذج البريطانية في الاحتلال الخارجي.
ثانياً: لقد ظلت العلاقات بين الشعب المصري وبريطانيا هامشية في معظم المراحل التي سيطر فيها الاحتلال على مقدّرات الدولة المصرية، ولم يتحقق للإنجليز في مصر ما تحقق لهم في الهند مثلاً، فبقيت مصر دولة متفرّدة ومتمرّدة في آن واحد، فلم يستوعب المصريون لا الثقافة ولا اللغة اللتين جاء بهما الاستعمار البريطاني، كما لم تدخل مصر مجموعة دول الكومنولث واختارت لذاتها طريقاً بعيدة، ولم يمانع البريطانيون في ذلك لأنهم يدركون نفسيّة الشعب المصري وتركيبته الخاصة.
ثالثاً: المطالع لمراسلات السير مايلز لمبسون (اللورد كيلرن)، المعتمد البريطاني في مصر، يكتشف أن ذلك الدبلوماسي البريطاني كان يعتنق الأفكار التي أسلفناها، كما كان يتحدث عن مصر بودّ مفقود ويشير إلى الملك فاروق في مكاتباته بكلمة (الولد)، ورغم أن تلك ملاحظات سطحية وبسيطة إلا أنها تعكس قراءة الجانب البريطاني للدولة المصرية.
رابعاً: ظلت العلاقات بين القاهرة ولندن في صعود وهبوط، فهي في أسوأ أوضاعها عام 1906 بسبب (حادثة دنشواي)، ثم اهتزت تلك العلاقات في غضون ثورة عام 1919، أي منذ مئة عام تحديداً، ولكن التدهور الأكبر بدأ بعد ثورة يوليو عام 1952 وتأميم عبد الناصر لقناة السويس والعدوان الثلاثي الذي شاركت فيه بريطانيا وفرنسا وإسرائيل ضد مصر، فكان السقوط الحقيقي لمنحنى العلاقات بين القاهرة ولندن حيث ظلت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين مقطوعة لسنوات عدّة وظل المصريون على يقين بأن بريطانيا تنظر لمصر عموماً بغير حماس، ولقد انعكس ذلك في مناسبات كثيرة، فرغم أن معدل التبادل التجاري مرتفع بين الدولتين ورغم أن بريطانيا هي المستثمر الثاني في الترتيب داخل مصر إلا أن الجفوة ظلت قائمة والأزمات قابلة للتجدد في أي وقت.
خامساً: صُدم الرأي العام المصري على المستويين الرسمي والشعبي من موقف الحكومة البريطانية بعد سقوط الطائرة الروسية التي أقلعت من شرم الشيخ منذ سنوات قليلة، حيث اتخذت لندن موقفاً عنيفاً ضد حركة الطيران المصري وافتقدت فيه مظاهر اللياقة والتقدير المتبادل، ويكفي أن نقول إن رئيس الوزراء البريطاني السابق السيد كاميرون اتخذ قرار إيقاف الرحلات الجوية بين لندن وشرم الشيخ بينما الرئيس السيسي لا يزال ضيفاً رسمياً على حكومة لندن، فكان القرار مجحفاً ولا يتسم بالودّ أو الحرص على العلاقة بين الدولتين.
سادساً: إن الدبلوماسية البريطانية– في نظري– هي الدبلوماسية الأم وهي ناتجة من رصيد الدُّهاة من أعمدة التاريخ البريطاني، وعلى قمتهم "ونستون تشرتشل" و"مارجريت تاتشر"، فالإنجليز هم الذين علّموا الدنيا الأساليب الدبلوماسية المعقدة دائماً والملتوية أحياناً، ويكفي أن نتذكر هنا أن الدبلوماسي الأميركي الداهية "هنري كسنجر" كان يمر بمدينة لندن في طريق الذهاب والعودة إلى الشرق الأوسط في أعقاب حرب أكتوبر عام 1973 والسعي لفك الاشتباك بعد اجتماع (الخيمة 101)، لكي يستفيد من الخبرة البريطانية والحصول على المشورة ذهاباً وتحليل النتائج إياباً، لذلك نرى أن بريطانيا هي المعلم الحقيقي للسياسة الأميركية، وذلك يفسر أيضاً التحالف الصامت بين لندن وواشنطن، ولنا في الحرب على العراق خير دليل باعتبارها جاءت نتيجة تنسيق كامل بين الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير.
إن هذه النقاط الست تعكس الاستقراء للعلاقات بين القاهرة ولندن، وهي تبدو عناصر كاشفة لتلك العلاقات الطويلة صعوداً وهبوطاً، والتي تؤكد في النهاية أن المصريين يعتقدون دائماً أن بريطانيا وراء معظم المشكلات والأزمات ولكنهم لا ينكرون في الوقت ذاته أهمية العقل البريطاني في رسم السياسة الخارجية والقبول برؤية لندن الشاملة للأحداث الكبرى في أوروبا والعالم، ولعل ما يجري حول موضوع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي تأكيد لرغبتها في الاتجاه ببصرها إلى الجانب الآخر من المحيط، أي إلى الحليف القوي، إلى الولايات المتحدة الأميركية!