ملخص
من أساطير جلجامش والماء المقدس في العصور القديمة إلى مختبرات اليوم، إذ يسعى العلم لجعل الحلم القديم حقيقة محتملة، ما الذي يجعل البشر يطاردون أبدية الحياة، وهل يمكن أن يتحقق حلم جلجامش أخيراً في زمن بوتين وشي؟
في الأحوال العادية، لو كان هناك حديث يدور بين رجلين فوق الـ70 عن الصحة، سنتوقع تبادل بعض النصائح، والمكملات الغذائية، أو العادات التي تساعدهما على الحفاظ على ما تبقى من قوتهما بعد التقاعد. لكن عندما تكون الدردشة بين الزعيمين الروسي والصيني، يبدو أن الـ70 ليست إلا مجرد منتصف العمر وربما ولادة جديدة، أو حتى مقدمة للخلود نفسه.
قبل أيام، وبينما كان الرئيس الصيني شي جينبينغ ونظيره الروسي فلاديمير بوتين يسيران على السجادة الحمراء في ساحة تيانانمن وسط عرض عسكري ضخم في بكين، التقطت مكبرات الصوت المفتوحة حديثاً غير رسمي بين الرجلين. كان الحديث عن الصحة والحياة بعد الـ70، لكنه سرعان ما انطلق إلى ما هو أبعد من العمر المتوقع، إلى مسارات التكنولوجيا الحيوية وزراعة الأعضاء، وإمكانية تمديد الحياة البشرية إلى حدود تبدو وكأنها مستوحاة من أساطير قديمة.
من أساطير جلجامش والماء المقدس في العصور القديمة، إلى مختبرات اليوم حيث يسعى العلم لجعل الحلم القديم حقيقة محتملة، ما الذي يجعل البشر يطاردون أبدية الحياة، وهل يمكن أن يتحقق حلم جلجامش أخيراً في زمن بوتين وشي؟
جذور في الأسطورة
ليس الهوس بالخلود فكرة جديدة، فقد رافق البشر منذ أقدم الأساطير والحضارات. في ملحمة "جلجامش" السومرية القديمة، ينطلق الملك في رحلة محفوفة بالأخطار بحثاً عن عشبة تمنحه حياة أبدية بعد وفاة رفيقه إنكيدو. وتمثل هذه الرحلة رمزاً لرغبة الإنسان الدائمة في تجاوز حدود الزمن الطبيعي. تظهر القصة كيف أن جلجامش، بعد فقدان صديقه، يسعى إلى الخلود بطريقة تعكس الصراع الإنساني الأزلي مع الفناء.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لم يقتصر هذا البحث على الشرق الأدنى القديم، فأساطير شعوب منطقة البحر الكاريبي وأوروبا تحدثت عن ينابيع الشباب ومصادر مياه سحرية تمنح الحياة الدائمة. على سبيل المثال، ارتبطت أسطورة "ينبوع الشباب" بالرحلة الاستكشافية للبحار الإسباني خوان بونثي دي ليون إلى فلوريدا عام 1513، والذي قيل إنه كان يبحث عن ينبوع يعيد الشباب لمن يشرب من مياهه، وعلى رغم أن هذه الحكاية قد تكون خرافية، فإنها تعكس التوق البشري للخلود.
وفي الحضارة الصينية اتخذت فكرة الخلود أبعاداً أكثر تنظيماً وفلسفة في الطاوية، إذ سعى الحكماء والملوك إلى اكتشاف "حبة الخلود" من خلال تجريب وصفات سرية تمزج بين الأعشاب والتقنيات الطبية، على أمل تحقيق حياة طويلة وخالية من المرض.
ولم يقتصر الأمر على الأساطير فقد حملته الديانات والفلسفات، كل واحدة بحسب رؤيتها. ونُوقشت فكرة الخلود عبر مفهومي الروح والجسد، الحياة بعد الموت، أو الخلود الروحي، أو امتداد الجسد في شكل آخر. في الديانتين المسيحية والإسلامية ينظر إلى الخلود كحياة أبدية في الجنة، بينما في الفلسفات الشرقية يعد الخلود تحقيقاً للوحدة مع الكون أو الروح الأبدية.
محاولات عبر التاريخ
لم يكن حلم الإنسان المستمر بالتمرد على الفناء محدوداً ضمن القصص السحرية والأساطير والتأملات الفلسفية العميقة حول طبيعة الحياة والموت، بل تجسد في محاولات حقيقية عبر الأزمنة. فخلال العصور الوسطى، كان ما يعرف بـ"حجر الفلاسفة" هدفاً رئيساً للخيميائيين الذين اعتقدوا أنه قادر على تحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب ومنح الحياة الأبدية. ومن أبرز هؤلاء كان نيكولاس فلاميل الذي اشتهر بادعاء اكتشافه للحجر، مما جعله شخصية محورية في تاريخ الخيمياء. وعلى رغم عدم وجود دليل علمي على صحة ادعاءاته، فإن سعيه ألهم عدداً من الباحثين في هذا المجال.
أما على الجانب الآخر من العالم، فكان الإمبراطور تشين شي هوانغ أول إمبراطور للصين الموحدة من أبرز الحكام الذين سعوا وراء الخلود، بعدما أرسل بعثات بحرية للبحث عن جزيرة بينغلاي الأسطورية، التي يقال إن فيها شجرة تمنح الحياة الأبدية. واستهلك مواد سامة مثل الزئبق اعتقاداً أنها تمنحه الخلود، لكنها أدت إلى تدهور صحته ووفاته المبكرة. وفي الصين أيضاً كان الإمبراطور جياجينغ خلال القرن الـ16 يستهلك دم الحيض، اعتقاداً منه أنه يمنحه القوة والشباب الدائم.
وخلال العصور الوسطى الأوروبية كان الإمبراطور فريدريك الثاني يسعى أيضاً لتحقيق الخلود، إذ كان يظن أن الصوم والتأمل يمكن أن يطيلا عمر الإنسان. ويقال إنه كان يمتلك مخطوطات سرية تحوي وصفات لإكسير الحياة. كذلك استخدم الطب التقليدي أعشاباً مثل الجنكة بيلوبا والخزامى لتعزيز الذاكرة والصحة العامة.
وفي الهند يعد الطب الأيورفيدي من أقدم أنظمة الطب التقليدي، والذي استخدم الأعشاب والطقوس الروحية لتعزيز الصحة وطول العمر. على سبيل المثال، استخدم الأيورفيدا عشبة "جياوجولان" المعروفة بـ"عشبة الخلود"، التي يعتقد أنها تمتلك خصائص مضادة للأكسدة تعزز من الصحة العامة وتطيل العمر.
العلم الحديث
وخلال العصر الحديث، أصبح السعي وراء إطالة العمر والتمرد على حدود الزمن الطبيعي أكثر واقعية من أي وقت مضى بفضل التقدم العلمي والتقني. ويدرس العلماء الخلايا الجذعية بعمق لقدرتها الفريدة على تجديد الأنسجة وإبطاء علامات الشيخوخة، فهذه الخلايا، وبخاصة الخلايا الجذعية الوسيطة، تمتلك القدرة على إصلاح الأنسجة التالفة وتعديل الاستجابات المناعية ومحاربة الالتهابات المزمنة، مما يسهم في إبطاء التدهور الخلوي وإطالة عمر الأعضاء. وخلال الوقت نفسه، فتحت الهندسة الجينية وبخاصة تقنية CRISPR-Cas9 آفاقاً جديدة لتحرير الجينات وتصحيح الطفرات المرتبطة بالشيخوخة، إذ أظهرت الدراسات قدرة هذه التقنية على تحسين وظائف الخلايا الجذعية العصبية في الكائنات المسنة، مما يعزز قدرتها على التعافي والتجدد.
تسعى بعض الشركات الناشئة أيضاً إلى دفع حدود الخلود في اتجاهات غير تقليدية، مثل مخابر "كاليكو" التابعة لشركة "ألفابت"، التي تركز على فهم بيولوجيا الشيخوخة وتطوير تدخلات علمية تمكن البشر من عيش حياة أطول وأكثر صحة، ومختبرات "ألتوس" التي تعمل على استعادة مرونة الخلايا وتجديدها لعكس آثار التقدم في العمر والأمراض المرتبطة به.
علاوة على ذلك، يدرس بعض الباحثين إمكانية استخدام الذكاء الاصطناعي لمحاكاة الوعي البشري ونسخ جوانب من التجربة الإدراكية، وهو ما يعرف بالخلود الرقمي. فكرة تثير الجدل، لكنها تعكس الطموحات الجذرية للبشر في مواجهة الموت.
هذه الجهود المتنوعة من تجديد الخلايا وزراعة الأعضاء إلى تحرير الجينات واستخدام الذكاء الاصطناعي، توضح أن حلم إطالة العمر لم يعد مجرد خيال أسطوري، بل أصبح مشروعاً علمياً قائماً على أبحاث وتجارب دقيقة، على رغم أن معظم هذه التقنيات لا تزال في مراحلها التجريبية، وتواجه تحديات كبيرة تتعلق بالسلامة والفعالية والأخلاقيات.
بعد اجتماعي وأخلاقي
مع تزايد التقدم العلمي في مجال إطالة العمر يبرز سؤال مركزي، من يستطيع دفع كلفة هذه الحياة المديدة؟ فالتجارب الحالية تشير إلى أن كلفة مثل هذه التدخلات قد تكون باهظة للغاية، وغالباً ما تكون متاحة فقط لأصحاب الموارد الهائلة. مثال بارز هو رجل الأعمال الأميركي بريان جونسون الذي يخصص ملايين الدولارات سنوياً لتقنيات تهدف إلى تقليل عمره البيولوجي وإبطاء الشيخوخة، في محاولة للوصول إلى حياة أطول وأكثر صحة.
يطرح هذا تساؤلاً مهماً حول مدى إمكانية أن تصبح مساعي الخلود متاحة على نطاق واسع، أم إنها ستظل رفاهية حصرية للأغنياء وأصحاب النفوذ، كما كانت الحال مع محاولات الإنسان القديمة للحصول على الحياة المديدة. لكن يمكن أن نتأمل في تجربة مشابهة من الماضي القريب، عمليات التجميل التي كانت يوماً نادرة جداً وحكراً على المشاهير والأثرياء، ويُروج لها على أنها وسيلة لإخفاء آثار الشيخوخة وتأخير مظاهر التقدم في السن.
اليوم، أصبحت هذه الإجراءات متوافرة بصورة أكبر، بل وأكثر من ذلك أصبحت شائعة بين شرائح من أصحاب الدخول المتوسطة والضعيفة أحياناً أكثر من الطبقات العليا الواعية بمضار هذه العمليات أو أخطارها الصحية. ويفتح هذا المثال احتمالاً مفاده أنه ربما مع تطور تقنيات إطالة العمر قد تتحول مساعي الخلود من رفاهية حصرية إلى خدمة أكثر انتشاراً، مع اختلاف التوزيع على الصعيد العالمي، وتفاوت درجات الوعي والفهم بالأخطار والفوائد، مما قد يغير شكل المجتمع والعلاقات بين الطبقات الاقتصادية بصورة غير مسبوقة.
من ناحية أخرى، يعطينا التاريخ أمثلة على سعي النخب السياسية لتحقيق الخلود، مثل محاولات لينين وستالين السعي إلى الحفظ والتحنيط بعد الموت كجزء من رغبتهما في البقاء مؤثرين حتى بعد الرحيل، مما يعكس التداخل بين السلطة والخلود.
أما على صعيد المجتمع، فإن تحقيق الخلود للجميع ليس مجرد مسألة طبية، بل يحمل آثاراً عميقة على بنية المجتمع، شيخوخة السكان وضغوط على سوق العمل وتوزيع غير متكافئ للموارد، وحتى تحديات في العدالة الاجتماعية. فلو عاش البشر 150 أو 200 سنة، كيف ستتعامل المجتمعات مع هذه الزيادة غير المسبوقة في الأعمار؟ هل سيظل مفهوم "الحياة الجيدة" مرتبطاً بالإنجازات والذكريات المحدودة، أم أن حتمية الفناء هي ما تعطي للحياة معناها وجاذبيتها؟
هنا يظهر البعد الفلسفي والأخلاقي، قد يبدو الخلود حلماً جذاباً، لكنه يطرح أسئلة جوهرية حول طبيعة الزمن والموت والوجود البشري. هل يجعلنا العيش لفترة أطول أكثر حكمة وسعادة، أم إنه قد يقود إلى فراغ وجودي وفقدان الشعور بالقيمة؟ هل يصبح التركيز على الإشباع المادي والبيولوجي بدلاً من تجربة الحياة بحدودها الطبيعية؟ بهذه الأسئلة، يلتقي العلم بالمعنى الإنساني، ويبرز الصراع الأبدي بين الرغبة في البقاء والطبيعة الفانية التي شكلت تجربة الإنسان عبر العصور.
من ناحية أخرى، لا يمكن فصل السعي نحو الخلود عن البعد السياسي والجيوستراتيجي، فالاهتمام الذي يظهره قادة مثل بوتين وشي بهذه القضايا ليس صدفة، بل يعكس إدراكهم لقيمة التحكم في العمر والقدرة على تمديد النفوذ كأداة للقوة. فالخلود، كما يبدو، قد يصبح ساحة سباق علمي - تكنولوجي بين القوى الكبرى، إذ تتنافس الدول ليس فقط على الموارد أو التأثير العسكري، بل على السيطرة على المعرفة البيولوجية والتقنيات التي قد تجعل الحياة البشرية أطول وأكثر مرونة. وفي هذا السياق، يمكن أن تستخدم هذه المساعي لتعزيز القوة الناعمة أو حتى لإرساء الهيمنة المستقبلية، فتصبح السيطرة على مفاتيح العمر الطويل جزءاً من أدوات النفوذ السياسي والاقتصادي على مستوى العالم.
ومع هذا الواقع، يبرز التساؤل الأخلاقي والفلسفي، هل تحقق البشرية أخيراً حلم جلجامش بالخلود، أم إن هذا الحلم سيظل مقيداً بالسلطة والثروة؟ وهل نريد أن نعيش طويلاً في عالم يسيطر عليه قادة يسعون إلى خلودهم بينما يشعلون حروباً وأزمات وينفقون ثروات طائلة على أسلحة تقتل الآلاف؟