ملخص
جاء الهجوم الدموي الذي شنته حركة "حماس" خلال السابع من أكتوبر 2023، ليثير سؤالاً رئيساً بعد مرور أكثر من 100 عام على طرح جابوتنسكي، هل لا يزال "الجدار الحديدي" مفهوماً صالحاً ليبنى عليه نهج إسرائيل في الردع؟ فمنذ هجوم السابع من أكتوبر وعلى مدار نحو عامين من الحرب التي دمرت فيها إسرائيل قطاع غزة، يطرح المراقبون في إسرائيل والعواصم الغربية التساؤلات والفرضيات في شأن إخفاق إسرائيل في إحباط الهجوم وماذا بعد.
قبل أكثر من قرن قليلاً، كتب المفكر والقيادي في الحركة الصهيونية العالمية زئيف جابوتنسكي مقالتين يناقش فيهما موقف العرب من وجود غالبية يهودية في فلسطين. ففي حين كان التيار الرئيس للصهيونية يعتقد أن العرب سيرحبون بهجرة اليهود إلى المنطقة بمجرد أن يتفهموا المكاسب الاقتصادية لهذا الأمر، فإن جابوتنسكي الذي كان يقود التيار "التصحيحي" داخل الحركة الصهيونية لا يتفق مع هذا الرأي، وكان يعتقد أن اليهود في حاجة إلى إنشاء "جدار حديدي" من القوة العسكرية المنيعة التي تجبر العرب على قبول الغالبية اليهودية في فلسطين.
كتب جابوتنسكي في مقالتيه الشهيرتين عام 2023 أن العرب لن يقبلوا الدولة اليهودية إلا إذا فقدوا الأمل في هزيمتها عسكرياً، بالتالي يجب أن تبنى الدولة اليهودية خلف "جدار حديدي" من القوة. هذه الفكرة أصبحت أساس استراتيجية الردع الإسرائيلية، بل أكثر من ذلك بحسب المؤرخ الإسرائيلي والأستاذ لدى جامعة أوكسفورد آفي شلايم في كتابه "الجدار الحديدي، إذ إن المعرفة الأكيدة في المنطقة أن إسرائيل سترد بأكثر من "العين بالعين" على أية استفزاز شكلت أساس القدرة النفسية لإسرائيل على العيش في بيئة معادية. وإضافة إلى القوة العسكرية والتكنولوجية التي تشكل عقيدة "الجدار الحديدي"، فإن الحركة الصهيونية التصحيحية التي أسسها جابوتنسكي عام 1925، عارضت أية تسوية إقليمية لا تنطوي على كل فلسطين الانتدابية (فلسطين التاريخية وشرق الأردن) كحدود للدولة اليهودية، ومن ثم رفضوا خطة التقسيم التي قبلها ديفيد بن غوريون عام 1947 والتي تأسست بناء عليها دولة إسرائيل باعتراف أممي انطوي على دولة يهودية ودولة فلسطينية، وهي نفسها الخطة التي رفضها العرب.
في حين تبرأ قادة الصهيونية الرئيسون، مثل ديفيد بن غوريون، من جابوتنسكي وتياره علناً، لكن يشير المتخصص في العلاقات الدولية لدى جامعة أوتوا بيتر جونز، إلى أن أولئك القادة كانوا يعلمون أن البريطانيين، الذين كانوا يحكمون فلسطين آنذاك، لن يقبلوا برؤية جابوتنسكي وأن على الصهيونية أن تظهر نفسها كأنها لا تريد سوى التعايش في وئام مع الغالبية العربية، بينما خلف الكواليس كانوا يتفقون معه.
خلال حربي عامي 1948 و1967 احتلت إسرائيل مزيداً من الأراضي العربية، بعيداً من خطة التقسيم التي أقرتها الأمم المتحدة.
ومع بروز إسرائيل كقوة عسكرية واقتصادية خلال تسعينيات القرن الماضي، مدفوعة بقطاع التكنولوجيا المتقدمة الجديد، اعتقد زعيم حزب العمل ورئيس الوزراء إسحاق رابين أن البلاد لم تعد تواجه خطر الدمار من جيرانها. ويقول الأستاذ بجامعة سان فرانسسكو إران كابلان إنه بالنسبة إلى رابين، أراد الجيل الشاب من الإسرائيليين الاندماج في الاقتصاد العالمي، وكان يعتقد أن حل الصراع العربي - الإسرائيلي سيساعد إسرائيل على الاندماج في النظام العالمي.
وخلال عام 1993، تفاوض رابين على اتفاقات أوسلو مع الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، وبموجبها أُسست سلطة فلسطينية داخل الضفة الغربية وقطاع غزة، كجزء من الطريق نحو الهدف طويل الأمد المتمثل في إنشاء دولتين، دولة إسرائيل ودولة فلسطينية تتعايشان في سلام. غير أنه خلال العام نفسه، أصبح بنيامين نتنياهو زعيماً لحزب الليكود اليميني، إذ إن نجل المؤرخ اليهودي البارز يرى أن التاريخ اليهودي يواجه دورة متكررة من محاولات التدمير، من الرومان إلى محاكم التفتيش الإسبانية والنازيين، وصولاً إلى العالم العربي.
وتوافقاً مع رؤية التيار التصحيحي، رأى نتنياهو أن عملية أوسلو للسلام هي نوع من التنازلات الإقليمية التي حذر منها جابوتنسكي. فبالنسبة إليه، لن تؤدي التنازلات إلا إلى الصراع، وأي إظهار للضعف سيعني الهلاك. وزعم نتنياهو مراراً وتكراراً أن الرد الوحيد على مثل هذا التهديد الخطر هو دولة يهودية قوية ترفض أية تنازلات، وتحدد دائماً التهديد الوجودي للشعب اليهودي وتواجهه باستعراض ساحق للقوة. ويقول كابلان إنه كما يرفض الفلسطينيون قبول إسرائيل كدولة يهودية، يرفض نتنياهو قبول فكرة الدولة الفلسطينية.
عودة جدار جابوتنسكي
ومع ذلك، جاء الهجوم الدموي الذي شنته حركة "حماس" خلال السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، ليثير سؤالاً رئيساً بعد مرور أكثر من 100 عام على طرح جابوتنسكي، هل لا يزال "الجدار الحديدي" مفهوما صالحاً يبنى عليه نهج إسرائيل في الردع؟ فمنذ هجوم السابع من أكتوبر وعلى مدار نحو عامين من الحرب التي دمرت فيها إسرائيل قطاع غزة، يطرح المراقبون في إسرائيل والعواصم الغربية التساؤلات والفرضيات في شأن إخفاق إسرائيل في إحباط الهجوم، وبين تحليلات وانتقادات ثمة سؤالان يرتبطان بعقيدة الجدار الحديدي، هل إسرائيل لديها من القوة ما يكفي لتحقيق ذلك أم ينبغي لها أن تكتفي بقدر قليل من القوة العسكرية مع قدر أكثر من التعاون السلمي مع دول المنطقة، والذي بلغ أوجه في اتفاقات السلام العربية أو ما يعرف بالاتفاقات الإبراهيمية لتتبع منهج "ببطء ولكن بثبات" لتوسيع وجودها الإقليمي عبر السلام مع جيرانها.
يعتقد مراقبون أن هذا يفسر شراسة رد إسرائيل على الهجوم الدموي الذي شنته حركة "حماس". فالمراقبون الغربيون يرون أن مقتل 1200 إسرائيلي في ذلك الهجوم وأسر نحو 250 شخصاً زعزعا ثقة الإسرائيليين العاديين في قوة "الجدار الحديدي"، بل يفسر آخرون قسوة الرد وتدمير معظم غزة، وإن كان رداً غير متناسب، لكنه بالنسبة إلى كثير من الإسرائيليين فعل لإعادة بناء الحاجز النفسي لذلك الجدار.
وداخل إسرائيل، ينتقد المتخصصون في الأمن اعتماد الجيش الإسرائيلي على الدفاع فقط والتردد في استخدام قواته البرية خلال أعوام ماضية، باعتباره أحد الأسباب التي شجعت حركة "حماس" على القيام بهجوم أكتوبر 2023. ووفق ورقة بحثية منشورة على موقع معهد دراسات الأمن القومي التابع لجامعة تل أبيب، فإنه لمنع وقوع هجوم كان على إسرائيل أن تعيد بناء سمعتها في الحزم والقدرة خلال عدد من الجولات والحملات الردعية السابقة. فهزيمة "حماس" بصورة حاسمة في ساحة المعركة، حتى في منطقة محدودة داخل القطاع، كانت ستبعث رسالة لقادتها بأن إسرائيل لن تكتفي بعد بجولات قتال واتفاقات وقف إطلاق نار قصيرة المدى، بل لديها الإرادة والقدرة على غزو غزة وفرض كلف غير مقبولة على "حماس" إذا واصلت هجماتها. فهجوم مكلف كهذا كان سيدفع "حماس" إلى إعادة حساب نهجها تجاه الردع. ويستشهد البحث بتصريح القيادي في "حماس" موسى أبو مرزوق بأنه لو كانت "حماس" تعلم ما سيحدث، لما شنت هجوم السابع من أكتوبر 2023.
وخلص المركز الإسرائيلي بالقول إن هجوم أكتوبر حدث لأن إسرائيل فضلت سياسات الاحتواء والردع التراكمي بدلاً من الردع الاستراتيجي القائم على حملة هجومية وتحقيق انتصار حاسم، مضيفاً أن في نزاعات الإرادة الصعبة، فإن النصر عبر الحرب، يثبت للمنافس أن نطاق الاستراتيجيات الرابحة المتاحة أمامه يتقلص.
إسرائيل الكبرى
ويبدو أن إسرائيل أصبحت أكثر قناعة بعقيدة جابوتنسكي منذ ذلك الحين، فلم يعد قادة اليمين الإسرائيلي يلتزمون بالحديث عن "إسرائيل الكبرى" خلف الأبواب المغلقة، وصادق الكنيست خلال يوليو (تموز) الماضي على قرار يدعو إلى فرض السيادة على الضفة الغربية، وهي خطوة تتسق مع رؤية جابوتنسكي، وفق الكاتبة الإسرائيلية ديبورا هارخام، مشيرة إلى قوله إن السيادة اليهودية في أرض إسرائيل لن تمنح أبداً طواعية من العالم العربي، ولكي تُقبل كان لا بد أن تُفرض كواقع دائم، وفقط بعد أن يتخلى القادة العرب عن فكرة القضاء على الصهيونية يمكن أن تصبح المفاوضات ممكنة.
وتقول هارخام في مقالة سابقة بصحيفة "جيروزاليم بوست" إنه في حين لا يدعو قرار الكنيست إلى السيادة شرق نهر الأردن كما في خطة جابوتنسكي الأصلية، لكنه يعيد طرح فكرة توسيع حدود إسرائيل، وهي فكرة رفضها في البداية قادة الصهيونية العمالية، ثم على مدى عقود معظم القادة الإسرائيليين. بينما الآن، في ضوء السابع من أكتوبر والحرب في غزة، لم تعد رؤية "إسرائيل الكبرى" من المحرمات، مشيرة إلى أنه في رؤيته للدولة اليهودية المستقبلية، حذر جابوتنسكي من وهم وخطر السلام من دون قوة. وتضيف "لقد أظهر لنا السابع من أكتوبر أن التعايش الذي لا تزال معظم الفصائل الفلسطينية ترفضه، يبتعد أكثر فأكثر. فشعار من النهر إلى البحر الذي يرفعه الفلسطينيون، وعلامة عنادهم الأيديولوجي، ليس دعوة للتعايش بل دعوة للإلغاء والحل السياسي الذي سينبثق عن هذه الحرب يجب أن يعترف بهذه الحقيقة".
ويصف المؤرخ اليهودي إران كابلان الحرب الشاملة والمدمرة التي قادها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ضد "حماس" وقطاع غزة منذ السابع من أكتوبر بأنها "جدار الحديد" في أبهى صوره، إذ إطلاق العنان للقوة الساحقة كإشارة إلى استحالة أية تسوية إقليمية مع العرب في شأن فلسطين التاريخية أو كما قال نتنياهو مراراً وتكراراً، لن يكون هناك وقف لإطلاق النار حتى يتحقق نصر إسرائيلي كامل.
جدار يعززه السلام
غير أنه على الجانب الآخر، يرى المؤرخون والمراقبون اليهود في العواصم الغربية أنه لا مفر عن السلام مع المحيط العربي، ففي حين لا تزال إسرائيل في حاجة إلى "الجدار الحديدي" فإن القوة وحدها لا تكفي. ويقول بعض إن فكرة الجدار الحديدي التي طرحها المفكر الصهيوني، كانت تتعلق بأهداف وغاية محددة خلال وقت زمني محدد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويقول كابلان إن نتنياهو يعتقد أن قوة إسرائيل ستترسخ مع اتساع دائرة التطبيع العربي وإقامة علاقات دبلوماسية مع مزيد من الدول العربية. وبلغ هذا التطبيع آفاقاً جديدة مع اتفاقات أبراهام عام 2020، وهي الاتفاقات الثنائية الموقعة بين إسرائيل والإمارات والبحرين وغيرها من الدول العربية، إذ كانت هذه الاتفاقات بمثابة الإثبات النهائي لرؤية نتنياهو الإقليمية. ويشير إلى أن هجوم "حماس" خلال السابع من أكتوبر وقع في وقت كانت فيه السعودية تقترب من تطبيع العلاقات مع إسرائيل. وعندما تراجع السعوديون لاحقاً عن خطط التطبيع، أعاد الهجوم تأكيد رؤية نتنياهو الأوسع، فالحركة التي تعهدت بعدم الاعتراف بإسرائيل أبداً حرصت على إفشال الاعتراف العربي بإسرائيل. ومن ثم أتاح هجوم "حماس" لنتنياهو فرصة لإعادة تأكيد جدار إسرائيل الحديدي وجابوتنسكي.
وعندما كتب الرئيس الأميركي دونالد ترمب مطلع يوليو (تموز) الماضي أن إسرائيل وافقت على الشروط اللازمة لوقف إطلاق النار داخل غزة لمدة 60 يوماً تمهيداً لإنهاء الحرب، أشار الكاتب الأميركي ديفيد إغناتيوس ضمن مقالة في صحيفة "واشنطن بوست" إلى أن مثل هذا الاتفاق من شأنه أن يفتح الباب أمام اتفاق سلام أوسع كثيراً، إذ إن الأمل هو توسيع اتفاقات أبراهام لتتضمن تطبيع العلاقات الإسرائيلية مع السعودية، وتوقيع اتفاق أمني مع الحكومة الجديدة في سوريا، والأخير تشير تقارير عدة إلى أنه جارى العمل عليه.
ويجادل المتخصص في العلاقات الدولية لدى جامعة أوتاوا في كندا بيتر جونز بأن طرح جابوتنسكي في الأصل يتحدث فقط عن الحاجة للرد على أي هجوم بقوة ساحقة حتى يأتي يوم يقبل فيه جميع أعداء إسرائيل، كيفما عرفوا، وجودها بشروط الإسرائيليين. وربما كان ذلك منطقياً عندما كان يهود فلسطين أقلية وجميع جيرانهم تقريباً ضدهم، لكنه لم يعد منطقياً اليوم. وهذا هو المنطق الذي قاد رئيس الوزراء رابين إلى اتخاذ قراره الشجاع بالدخول في محادثات مع منظمة التحرير الفلسطينية ومع جيران إسرائيل، أي صنع السلام مع العرب المعتدلين الذين يقبلون بوجود إسرائيل، بما في ذلك تقديم تنازلات على الأرض، من أجل ضمهم إلى تحالف ضد من لا يزال يرفض وجود إسرائيل.
ويقول إن التمسك الجامد بالجدار الحديدي اليوم لا يمكن النظر إليه إلا كوسيلة للحفاظ على حال الصراع للتغطية على استمرار التوسع الإسرائيلي، أي إنه مجرد ذريعة. فقبل قرن، طرح قادة الصهيونية الأوائل استراتيجية ردع ربما كانت مناسبة لزمانها، أما اليوم، فلم تعد كذلك، فثمة حاجة لاستراتيجية أكثر دقة تأخذ في الاعتبار أن موقع إسرائيل قد تغير، وكذلك مواقف كثير من جيرانها. لذا فإن الفشل في إحداث هذا التغيير يهدد قدرة إسرائيل على صنع سلام مستدام مع من هم مستعدون لقبوله داخل المنطقة. كما أن هذا الفشل يعزل أعداداً متزايدة من الشباب في الغرب، بمن فيهم شباب يهود غربيون، الذين سيقررون خلال العقود المقبلة ما إذا كانت إسرائيل ستواصل التمتع بالدعم الحاسم.
كان "الجدار الحديدي" استراتيجية دفاعية لإعطاء إسرائيل وقتاً بينما تبني نفسها بعيداً من أعدائها. لكن تلك المرحلة من تاريخ إسرائيل انتهت، وفق جونز، الذي يحذر من خطر أن يتحول الجدار الحديدي إلى جدار يختبئ خلفه شكل معين من إسرائيل، يشن هجمات مفرطة على أي تهديد متصور، بينما يتبع سياسة توسع إقليمي ستحرمها من جيران مستعدين لقبولها، وفي النهاية من الدعم الغربي أيضاً.