ملخص
في صالون الحلاقة، تتوارى حقائق البيولوجيا، وتخفت سطوة المجتمع القابعة أمام الواجهة الزجاجية. خلف الواجهة، رجال لم يأتوا لحلاقة الشعر واللحية فحسب، لكن هناك من يخضع لـ"حمام كريم" لتحسين حالة الشعر، وتدليك فروة الرأس لتحسين حالة العميل، وإزالة شعيرات هربت من الشيفرة ببكرة خيط يعتقد البعض أن استخداماتها لإزالة الشعيرات الزائدة حكر على النساء، وحمام بخار لتفتيح المسام، وبالطبع صبغ الشعر لأسباب شتى، وهو التدخل التجميلي الذي ما زال يتربع على قائمة "الأكثر إثارة للحرج" بين الرجال
أوقف سيارته بعيداً، تلفت حوله عشرات المرات قبل أن يفتح باب المحل ويندلف إلى الداخل محتمياً بركن بعيد نسبياً من واجهة المحل الزجاجية المكشوفة بالكامل. همس في أذن المدير، وبعد نقاش خافت بينهما، قاده إلى غرفة منزوية متناهية الصغر بعيدة من الواجهة الزجاجية "الفضائحية". وبعد 50 دقيقة خرج منتشياً منتعشاً منشرحاً. ركب سيارته، وفتح النوافذ، وأطلق العنان لأغنيات صاخبة، وانطلق بعد ما كسا السواد الحالك رأسه محل الشيب.
زيارة الحلاق الأولى لإخفاء الشيب قبل نحو عام تتكرر مرة كل شهرين، مع شرط إخلاء الغرفة المنزوية حتى لا يراه أحد. فهو مهندس "محترم"، له سمعته ومكانته، ولا يرغب أن يصنفه الجيران "متصابياً" أو ينعته "شيخ الجامع" بـ"متشبه بالنساء". كل الحكاية أن غزو الشعر الأبيض لكامل شعر رأسه الكثيف يزعجه ويجعله يبدو في الـ90 لا الـ50.
صدمة ثم قلق
زوجته حين علمت بنيته في البداية صُدمت. ساورتها الشكوك، هل يمر بأزمة منتصف العمر وسيبدأ في مطاردة الفتيات الصغيرات؟ هل تورط في علاقة عاطفية مع إحداهن، وطلبت منه أن يصبغ شعره؟ وسلسلة من الأسئلة التي يدور جميعها في فلك علاقة عاطفية طاردتها، ونقلتها إليه، لكنه أقسم لها أن الأمر يتعلق بحالته النفسية، ورغبته في رأس بلا شيب. وعلى رغم اقتناع الزوجة، فإنها دخلت في دوامة أخرى عنوانها "الحرج من كلام الناس"، و"القلق من القيل والقال".
كلام الناس والقيل والقال بسبب صبغ الرجال شعرهم ما زال يتحكم في كثر. مجتمعات عدة، بما فيها العربية، ما زالت تؤمن أن صبغ الشعر هو صورة من صور الزينة التي لا تصح إلا للنساء، أما للرجال فهي إما خطوة اجتماعية غير لائقة، أو تصرف مظهري غير مقبول، وبالطبع، دائماً وأبداً شبهة دينية، الابتعاد عنها أفضل وأسلم.
كم كبير من الأسئلة تطرح على المواقع الدينية، وكذلك دور الإفتاء الرسمية قوامها: صبغ الرجل شعره حلال أم حرام؟ وتتواتر الردود بين محلل بشروط، ومحرم قطعاً، ومتأرجح بين التحليل والتحريم. الطريف أن أحد الدعاة "الجدد" ممن توجه إليهم عادةً مثل هذه الأسئلة من قبل قاعدة عريضة من الشباب، وبعد سنوات من الإفتاء والدروس عن حكم الصبغ، والألوان المستحبة، وتلك المكروهة، وهل الصبغة تبطل الوضوء، وحكم إزالة الشعر بالليزر، وحكم زرعه بالجراحة، وغيرها من أمور الشعر والألوان، غاب عن الشاشات بخط شعر رمادي متراجع ولحية كثيفة نسبياً يغلب عليها الشيب، ليعود بعد أسابيع بخط شعر متقدم وقاتم جداً، ولحية قصيرة تُركت فيها آثار بسيطة للشيب.
يشار إلى أن المسيحية كذلك فيها من التفسيرات الدينية التي تعد صبغ الشعر للرجال أمراً غير مقبول، ويتعارض مع التعليمات الدينية المتعلقة بالحياء والتواضع والتمييز بين الجنسين والابتعاد عن كل ما من شأنه أن يجعل المسيحي مغروراً أو معتداً بمظهره أكثر من اللازم، حتى لو كان الاعتداد يقتصر على تخبئة الشيب أو تأجيله قدر المستطاع.
الشيب، أو الشعر الأبيض، تلك الشعيرات التي تغزو الرأس مع التقدم في العمر، وأحياناً في عز الشباب لأسباب عدة أبرزها وراثية أو هرمونية نقص فيتامينات ومعادن أو توتر وإجهاد شديدين أو التدخين، وغيرها، تخشاها غالبية البشر، نساءً ورجالاً. وعلى رغم التصور النمطي بأن النساء هن الأكثر تضرراً وحزناً وقلقاً على تسلل تلك الشعيرات إلى رأسهن، لارتباط نمطي أيضاً للمرأة بقيم الجمال والجاذبية والشباب، وليس الرجال، فإن الرجال يتضررون بقدر مُتساوٍ، وربما يفوق النساء.
الصور والتصورات النمطية عن النساء والرجال، التي يجري غرسها وتثبيتها والعمل على توغلها وتوارثها من جيل إلى جيل تملي على مجتمعات عدة فكرة قوامها أن الشعر الأبيض للنساء يجب تخبئته، وللرجال محل فخر وزهو، بل وجاذبية ما بعدها جاذبية.
وداعاً للعذراء والشعر الأبيض
"العذراء والشعر الأبيض" (1983) فيلم لخص قيمة الرجل المهيبة والمثيرة أمام صغيرات السن بفعل وفضل شعراته البيضاء، وهي فكرة لم تقتصر على عمل واحد، بل طُرحت في عديد من الأعمال الدرامية والكتابات الأدبية، لا باعتبارها فكرة قابلة للنقاش والاتفاق والاختلاف، بل معلومة ليست محل نقاش.
الشعر الأبيض لدى الرجل ليس نقطة جذب مؤكدة للفتيات من عمر بناته. اللافت والمؤسف والمحزن أن تقارير صحافية تتعامل حتى اليوم مع فكرة انجذاب الشابات للرجل ذي الشعر الأبيض وكأنها أمر مفروغ منه، لا يحتاج إلى تفنيد لفصل الحقيقة عن الخيال، بقدر ما يحتاج إلى تحليل من علماء الاجتماع وتعليل من خبراء النفس.
في لقاء صحافي مع أستاذ طب نفسي مصري معروف، سأل الصحافي: كيف نفسر علمياً انجذاب الفتيات للرجل ذي الشعر الأبيض؟ ليرد أستاذ الطب النفسي المعروف بكل ثقة: "هذا أمر معروف على مر التاريخ. الفتاة الباحثة عن النضج، وشكل الرجل المثالي حسب تصوراتها، والباحثة عن الاهتمام الحقيقي والمكانة المميزة لدى رجلها، التي تفتقد الهيبة والشخصية القوية والسيطرة في الشباب من الأصغر سناً، والباحثة عن الاستقرار المضمون تنجذب للرجل الشايب (الأكبر سناً)".
في تلك الأثناء، كانت أعداد الرجال الساعين إلى تغطية الشعر الأبيض تتزايد، سواء في السر اتقاءً لشرور العادات وتنميط التقاليد، أو في العلن باعتبارها حقاً من حقوق الإنسان، لم تنص عليها الدساتير، لكن نص عليها المنطق وصادق عليه الواقع.
الواقع يؤكد وجود اختلافات، بعضها عميق يأبى أن يتزحزح، والبعض الآخر أوشك على الاختفاء، في نظرة المجتمعات تجاه الشعر الرمادي بين رؤوس النساء ورؤوس الرجال. الواقع والعلم والمنطق أمور تؤكد في مجملها عدم وجود أسباب بعينها تجعل الرجال أقل أو أكثر حزناً من النساء لدى توغل الشعر الأبيض.
وعلى رغم ذلك ما زال كثر يرون الشعر الأبيض تاج حكمة ونضج على رؤوس الرجال، وعلامة شيخوخة مؤسفة على رؤوس النساء. أكثر الصياغات طرافة لفهم التفرقة الاجتماعية والثقافية بين معنى الشعر الأبيض لدى الرجال والنساء جاءت على هيئة سؤال: لماذا يطلق على الرجل الذي يغزو الشعر الأبيض رأسه "الثعلب الفضي" على سبيل الإعجاب، في حين تستدعي عملية الغزو نفسها لرأس المرأة حثاً على حجز موعد لدى "صالون التجميل"؟ المؤكد أنها مفاهيم ثقافية ومجتمعية، لا حقائق بيولوجية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في صالون الحلاقة، تتوارى حقائق البيولوجيا، وتخفت سطوة المجتمع القابعة أمام الواجهة الزجاجية. خلف الواجهة، رجال لم يأتوا لحلاقة الشعر واللحية فحسب، لكن هناك من يخضع لـ"حمام كريم" لتحسين حالة الشعر، وتدليك فروة الرأس لتحسين حالة العميل، وإزالة شعيرات هربت من الشيفرة ببكرة خيط يعتقد البعض أن استخداماتها لإزالة الشعيرات الزائدة حكر على النساء، وحمام بخار لتفتيح المسام، وبالطبع صبغ الشعر لأسباب شتى، وهو التدخل التجميلي الذي ما زال يتربع على قائمة "الأكثر إثارة للحرج" بين الرجال.
وتفهماً من أصحاب بعض هذه الصالونات لعامل الحرج، وضماناً أيضاً لأكبر هامش ربح ممكن عبر تقديم الخدمات التي يرغب فيها العملاء بالشروط أو في الأجواء التي يفضلها ضماناً لطلب تكرار الخدمة، يجري تخصيص غرفة صغيرة أو ركناً منزوياً لـ"صبغة الرجال"، لا سيما أن غالب صالونات الحلاقة الرجالي الحديثة ذات واجهات زجاجية ضخمة تكشف ما يجري خلفها.
سيكولوجيا الشيب والصبغة
"مع تقدم الرجال في السن، غالباً يثير ظهور الشيب مجموعة معقدة من المشاعر والتحولات النفسية. الأمر لا يقتصر على احتمال تأثر ثقة الرجل في نفسه وهيبته فحسب، بل يمثل الشيب الانتقال إلى مرحلة أخرى في الحياة، وعادة تصحبها تأملات في ما مضى من شباب وطموح وإنجازات، وما هو قادم من تغيرات وتأثير في النشاط والحيوية والجاذبية، ويصل الأمر إلى درجة بدء التفكير في الموت، لذلك ليس غريباً أن يمثل لون الشعر أهمية كبيرة في تشكيل المشاعر والإدراك. وهنا يبزغ دور صبغة الشعر في حماية وتعزيز الصحة النفسية للرجل. الصبغة تحسن صورة الذات، وتعزز الثقة بالنفس، وتعيد تعريف الشيخوخة بصورة إيجابية. استعادة الرجل لون شعره الشبابي علاج للروح والقلب والعقل".
هذه الأسطر عن "التأثير النفسي للشيب وسيكولوجيا اللون" لم يكتبها خبير علم نفس أو أستاذ صحة نفسية. كتبها فريق الحلاقين في أحد أشهر صالونات الحلاقة بأميركا على موقعه الإلكتروني، مع إمكان التواصل مع أحد خبراء الصالون للحصول على استشارة مجانية عن اللون الأنسب للبشرة والعمر والحالة النفسية.
خلف صبغات الشعر للرجال أسباب ودوافع تتعدد بتعدد من يسلمون رؤوسهم للحلاق ليغير اللون، أو حتى يقومون بها بأنفسهم، حقناً للقيل والقال. بين رغبة في إخفاء الشيب، سواء لرجال شابوا ويريدون أن يُبدوا أصغر سناً، أو شباب تعجل الشعر الأبيض في قرار الغزو، أو قادة ومسؤولين تقدموا أو طعنوا في العمر، لكن المستشارين يريدون أن يخبروا شعوبهم بأن "القائد بخير" تتعدد أسباب ودوافع إخفاء الشعر الأبيض.
ويضاف إلى ما سبق أنه عكس الاعتقاد الشائع بأن كل من يصبغ شعره من الرجال يقوم بذلك بهدف إخفاء الشعر الأبيض، هناك اتجاه متزايد بين البعض لا لإخفاء اللون الأبيض، لكن للتغيير والتعديل والتحسين والتجميل، تماماً كما تفعل النساء.
المغامرة والرغبة في تجربة شكل جديد، الاعتقاد أن لون الشعر الطبيعي لا يناسب لون البشرة، وجهة نظر فنية بأن تغيير اللون إلى درجة أغمق أو افتح يوحي شعر أكثر كثافة، الرغبة في لفت الأنظار أو إحداث صدمة لدى الأسرة أو حتى المارة في الشارع، لا سيما حين تلوين الشعر بألوان غير معتادة، أو يقبل شخص داكن البشرة على صبغ شعره بلون أشقر، أو اختيار ألوان مثل الأخضر والأزرق وغيرهما من الألوان غير الطبيعية للشعر، الرغبة في الشعور بأن الشخص ما زال يسيطر على حياته وتفاصيلها، لا سيما لدى مروره بأزمة نفسية أو مشكلات أسرية أو عملية، نوع من التعافي عقب طلاق أو انفصال عاطفي أو حدث مزلزل وغيرها أسباب وعوامل تجعل شباباً ورجالاً يقبلون على تغيير لون الشعر بغرض التغيير أو المغامرة أو مداوة النفس المجروحة أو القلب العليل.
وعلى رغم كل ما سبق من تطورات وتغيرات في عالم تجميل الرجال، وعلى رغم توسع قاعدة خدمات صالونات الحلاقة الرجالية، لتشمل حمامات بخار وكريم وتدليك وجه وتخلص من شعيرات زائدة بالخيط وغيرها من وسائل إزالة الشعر التي كانت نسائية فقط حتى عهد قريب، وعلى رغم قائمة الخدمات والأسعار المعلن عنها في الصالونات لكل ما سبق، يظل صبغ الشعر متكتماً عليه حفاظاً على هوامش الرجولة الكلاسيكية وبقايا عادات وتقاليد تعرض "عمو" و"جدو" بشعرهما الأسود الداكن للقيل والتلسين والتقريع.