ملخص
كشفت شهادات من أسر الضحايا والعاملين في المجال الصحي بالسودان حالات انتحار عدة وقعت بعد فترة قصيرة من تعرض الناجيات للاغتصاب، في ظل غياب الدعم النفسي والاجتماعي.
في إحدى الحالات التي وثقتها لجنة "نقابة أطباء السودان"، انتحرت شابة بعد أسبوعين من الاعتداء عليها في مخيم للنازحين بولاية الجزيرة، حيث رفضت تلقي أية مساعدة طبية أو نفسية خوفاً من انكشاف الأمر.
منذ اندلاع حرب السودان في أبريل (نيسان) 2023، ارتفعت معدلات العنف الجنسي والانتحار بين النساء في مناطق النزاع بصورة غير مسبوقة، في ظل انهيار المنظومة الأمنية والقضائية، إذ وثقت منظمات طبية وحقوقية مئات حالات الاغتصاب لفتيات ونساء من مختلف الأعمار.
وأشارت تقارير لجنة نقابة أطباء السودان إلى انتحار ما لا يقل عن 135 ناجية خلال العامين الماضيين، فيما قدرت بعثة تقصي الحقائق الأممية أن الأرقام الفعلية أعلى بكثير بسبب ضعف الإبلاغ خوفاً من الوصمة الاجتماعية. فيما تشير بيانات منظمة "أطباء بلا حدود" إلى معالجة مئات الحالات في دارفور خلال الربع الأول من العام الحالي وحده، معظمها ناجم عن اعتداءات جنسية مرتبطة بالنزاع المسلح.
ضعف قانوني
تقول سلمى عبدالرحمن، عضو لجنة نقابة أطباء السودان، إن "انهيار المنظومة الأمنية في السودان منذ اندلاع النزاع المسلح أدى إلى فراغ أمني واسع النطاق، استغل في تنفيذ انتهاكات جسيمة، من بينها الاعتداءات الجنسية الممنهجة. كما تسببت عمليات النزوح الجماعي وفقدان السيطرة الحكومية على مساحات واسعة من البلاد في زيادة هشاشة أوضاع النساء والفتيات، فيما أسهم ضعف تطبيق القانون وانهيار المؤسسات القضائية في تفاقم الأزمة". وتابعت "تشير بيانات بعثة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة إلى أن حالات العنف الجنسي المسجلة في مناطق النزاع بلغت مئات الحالات الموثقة، بينما يقدر العدد الفعلي بآلاف نظراً إلى غياب التبليغ في معظم الوقائع. وفي تقرير صادر عن منظمة ’أطباء بلا حدود‘، جرى توثيق معالجة أكثر من 659 ناجية من العنف الجنسي في ولاية جنوب دارفور بين يناير (كانون الثاني) ومارس (آذار) 2025، ثلثاهن تعرضن لاغتصاب مباشر مرتبط بالنزاع المسلح". وزادت عبدالرحمن "صحيح أن لجنة نقابة أطباء السودان، أفادت بوقوع ما لا يقل عن 135 حالة انتحار لناجيات من الاغتصاب منذ بداية الحرب، وتمثل هذه الأرقام فقط الحالات التي تمكن الأطباء من الوصول إليها، أي بمثابة الحد الأدنى مما يجري على الأرض، لكن معظم الناجيات لا يملكن القدرة أو الرغبة في التبليغ بسبب الخوف من الانتقام أو الوصمة الاجتماعية، فمثل هذه المعطيات تجعل من المستحيل رسم صورة دقيقة لحجم الانتهاكات، لكنها تؤكد أن ما يجري توثيقه لا يعكس سوى جزء محدود".
قصص وشهادات
كشفت شهادات من أسر الضحايا والعاملين في المجال الصحي حالات انتحار عدة وقعت بعد فترة قصيرة من تعرض الناجيات للاغتصاب، في ظل غياب الدعم النفسي والاجتماعي.
في إحدى الحالات التي وثقتها لجنة "نقابة أطباء السودان"، انتحرت شابة بعد أسبوعين من الاعتداء عليها في مخيم للنازحين بولاية الجزيرة، حيث رفضت تلقي أية مساعدة طبية أو نفسية خوفاً من انكشاف الأمر.
قالت والدة هذه الضحية "ابنتي البالغة 22 سنة تعرضت للاغتصاب ودخلت في نوبة نفسية صعبة للغاية، فاختارت العزلة داخل إحدى الغرف رافضة الخروج منها أو مقابلة أي شخص حتى أقاربها، كانت تقول إنها لا تريد أن تعيش وسط الناس بعد ما حدث لها، حاولنا إقناعها بالعلاج، لكنها رفضت بشدة. وقبل أسبوع من وفاتها توقفت عن تناول الطعام وألصقت ورقة على باب غرفتها كتبت عليها: لا تدخلوا، في صباح يوم الحادثة وجدناها شنقت نفسها بحجابها. لم نكن نعرف أنها اتخذت قرار الانتحار، لكنها تركت رسالة قصيرة كتبت فيها: أنا نظيفة في عين الله، لكنكم لن تروني كذلك".
وفي حادثة أخرى، أبلغ فريق طبي عن وفاة امرأة في الثلاثينيات من عمرها إثر تناولها جرعة زائدة من الأدوية، بعد أشهر من تعرضها لاعتداء جماعي أثناء فرارها من منطقة نزاع مسلح في شمال دارفور. وفق روايات معارفها، إذ عانت الضحية عزلة اجتماعية وامتناعاً تاماً عن التواصل حتى مع أسرتها.
الطبيب النفسي عمر أحمد قال "ما نراه ليس مجرد آثار مباشرة للاعتداء، بل انهيار كامل للشبكات الاجتماعية والدعم الأسري، فالخوف من الفضيحة والوصمة الاجتماعية يدفعان الناجيات إلى الانعزال، وفي كثير من الأحيان تكون هذه العزلة هي المرحلة الأخيرة قبل الانتحار".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
اضطراب وصدمة
من جهتها قالت الناشطة النسوية دلال يوسف إن "المعطيات الطبية تشير إلى أن غالبية الناجيات من الاغتصاب في مناطق النزاع يعانين اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، الذي يتجلى في كوابيس متكررة ونوبات هلع وانسحاب اجتماعي كامل، مع غياب خدمات الدعم النفسي المؤسسية، سواء في المخيمات أو في المناطق الحضرية، مما يفاقم الوضع، ويجعل التدخل المتخصص محدوداً أو معدوماً". وأضافت يوسف أن "الوصمة الاجتماعية المرتبطة بالعنف الجنسي تشكل عامل ضغط إضافي، إذ تواجه الناجيات خطر النبذ من الأسرة أو المجتمع في حال الكشف عن تعرضهن للاعتداء. هذا المناخ يدفع عدداً منهن إلى العزلة، وهي بيئة مواتية لزيادة الأفكار الانتحارية. وفي حالات كثيرة، يجري تجاهل المؤشرات المبكرة على الخطر لعدم توفر كوادر مدربة على التعامل مع هذه الفئة من الناجيات".
غياب الحماية
في السياق ذاته، أفادت اختصاصية الدعم النفسي نجلاء إبراهيم بأنه "لاحظت في عملي الميداني داخل المخيمات أن اللحظات الأولى بعد الاعتداء هي الأكثر حساسية في تحديد مسار التعافي أو الانهيار، فهناك ناجيات كثيرات يتركن وحيدات في خيمة أو غرفة، من دون تواصل أو مرافقة نفسية، مما يعمق الشعور بالعجز وفقدان السيطرة".
وواصلت إبراهيم "في بعض الحالات، تبدأ الناجية بالانسحاب التدريجي والتوقف عن تناول الطعام، ومن ثم الانعزال عن الأطفال أو الأصدقاء، ورفض العلاج، وأخيراً التخطيط لإنهاء حياتها. وفي أكثر من حالة تعاملت معها، حدث الانتحار خلال أسابيع قليلة، ومن دون أن يلاحظ المحيطون بها أن الأمر كان وشيكاً".
وأردفت اختصاصية الدعم النفسي أن "الحكومة السودانية تتحمل، بحكم القانون المحلي والاتفاقات الدولية التي صادقت عليها، مسؤولية حماية المدنيين وتوفير آليات فاعلة لدعم الناجيات من العنف الجنسي، إلا أن غياب مؤسسات الدولة الفاعلة، وتدهور البنية التحتية الصحية والنفسية، جعلا المنظمات المحلية والدولية تتحمل العبء الأكبر في تقديم الخدمات".
شعور باليأس
من جانبها أوضحت الناشطة الاجتماعيية منال طه أنه "لا يمكن فصل الدعم النفسي عن المسار القانوني، فالناجية التي تشعر بأن الجاني سيحاسب، تكون أكثر استعداداً لطلب العلاج والمضي في التعافي، لكن في بيئة يسودها الإفلات من العقاب، يصبح الأمل في العدالة معدوماً، مما يزيد من حدة الشعور باليأس ويدفع بعض الناجيات نحو الانتحار".
واستطردت طه "في تقديري يبدأ الحل بإجراءات حماية عاجلة، وخدمات دعم نفسي وقانوني متكاملة، وتوثيق دقيق للحالات يضمن عدم إفلات الجناة من المساءلة".
ولفتت الناشطة الاجتماعية إلى أن "أي جهود دعم نفسي من دون ضمان المساءلة القانونية، ستبقى قاصرة عن الحد من هذه المأساة المتفاقمة".