ملخص
فوز زهران ممداني المفاجئ على أندرو كومو في سباق ترشيح الحزب الديمقراطي لرئاسة بلدية نيويورك يعكس تعطش الناخبين لتغيير جذري، ويثبت أن الأفكار التقدمية قادرة على حشد التأييد وتحقيق انتصارات انتخابية حتى في وجه المؤسسة السياسية التقليدية.
ليست الولايات المتحدة بغريبة عن الدراما السياسية، لكن المفاجأة التي شهدها الحزب "الديمقراطي" في مدينة نيويورك أدهشت حتى أكثر المتابعين تشاؤماً.
فقد تمكن زهران ممداني، الذي يصف نفسه بأنه اشتراكي ديمقراطي (كلمة "اشتراكي" كثيراً ما اعتبرت بمثابة "نقطة ضعف سياسية" في الولايات المتحدة)، وعضو حديث العهد في "الجمعية التشريعية لولاية نيويورك" New York State Assembly، من إلحاق الهزيمة بالحاكم السابق أندرو كومو، ليصبح مرشح الحزب "الديمقراطي" الرسمي لخوض انتخابات عمدة مدينة نيويورك في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.
وكان كومو الذي أجبر على ترك منصبه بسبب فضيحة تحرش جنسي قبل نحو أربعة أعوام، يخطط للعودة للساحة السياسية. لكن مع هذا الفوز، لم يكتف الوافد الجديد زهران ممداني البالغ من العمر 33 سنة، بإقصاء أحد أقطاب السياسة في نيويورك فحسب، بل ضخ أول جرعة حقيقية من الطاقة في الحزب الديمقراطي منذ خسارته للبيت الأبيض العام الماضي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لم يكن فوز ممداني مجرد تصويت احتجاجي من نوع "أياً كان سوى كومو"، فبالنسبة إلى كثيرين خارج حدود الولايات المتحدة - أو حتى خارج مدينة نيويورك نفسها - لا يزال ممداني اسماً غير مألوف. هو نجل الأكاديمي الأوغندي محمود ممداني والمخرجة ميرا ناير، وأمضى جزءاً من طفولته في شرق أفريقيا قبل أن يستقر في نيويورك. وكان انتخب في عام 2020 لعضوية "جمعية الولاية" - وهي المجلس التشريعي الأدنى في الولاية، الذي يمكن مقارنته، بصورة عامة، بالبرلمانات المفوضة في المملكة المتحدة - وينتمي إلى حركة "الاشتراكيين الديمقراطيين في أميركا" Democratic Socialists of America (DSA)، ويمثل جزءاً من حي غرب كوينز، المنطقة التي تشهد عملية تحول عمراني.
إنه يتحدث بلغة يفهمها المستأجرون والمهاجرون والعمال ذوو الدخل المحدود، وبعيداً من التعقيدات والمصطلحات السياسية المجردة، ويخاطب الناخبين بوضوح وإلحاح، وهذا بالتحديد ما منح حملته زخماً وجعلها تنطلق بقوة. فقد تمحور برنامجه حول تجميد أسعار الإيجارات، وتعزيز حقوق المستأجرين، وتوفير خدمة حافلات مجانية، بتمويل يعتمد إلى حد كبير على فرض ضرائب جديدة كبيرة على الأثرياء، وهي مقترحات دأبت المؤسسة السياسية على رفضها ووصفها بأنها متطرفة للغاية.
لكن ممداني أدار حملة شعبية منظمة بانضباط، تمكنت من التفوق على خصومه من خلال التواصل المباشر مع الناخبين، وبناء الثقة داخل المجتمع، والتمسك برسالة مقنعة. ويعكس ذلك مؤشراً على نضج الحركة التقدمية، التي لم تعد تكتفي بإطلاق الشعارات من الهامش، بل أصبحت قادرة اليوم على التنافس وخوض معارك صعبة ضمن آليات الحزب والفوز بها.
هذا السباق الانتخابي يؤكد أيضاً وجهة نظري بأن المزاج السياسي الراهن في الولايات المتحدة ينطوي رغبة عميقة في التغيير، فبغض النظر عن الانتماءات الأيديولوجية، بات الناخبون الأميركيون يتطلعون إلى شخصية قادرة على "قلب الطاولة بالكامل" [تحقيق تغيير جذري].
كنت ابتكرت هذه العبارة أثناء عملي في الحملة الرئاسية لكامالا هاريس العام الماضي، وما زلت أعود لها، فالناخبون لم يصوتوا لدونالد ترمب لأنهم معجبون بسجله الجنائي أو عنصريته أو كرهه للنساء - بل دعموه، على رغم كل ذلك، لأنه كان المرشح الوحيد الذي وعد بتفكيك النظام القائم.
لا يكترث أفراد الطبقة العاملة بمن يحدث التغيير الجذري - سواء كان ترمب أم ممداني – ما دام أن أحدهما سيفعل ذلك في النهاية.
أشعر بفخر كبير لعملي ضمن حملة هاريس، لكننا واجهنا تحدياً حقيقياً في تقديم رؤية واضحة ومقنعة لتغيير ملموس في حياة الناخبين الذين يشعرون بالتهميش والتجاهل والخداع، فالنظام ببساطة لا يعمل لصالحهم، ولم تمنحهم حملتنا ما يكفي من الأمل بأن التغيير ممكن. هؤلاء الناخبون، سواء انحازوا إلى اليمين الشعبوي أم اليسار الديمقراطي، يبحثون في نهاية المطاف عمن يشعرهم بأن أصواتهم مسموعة. في عام 2024، كان ذلك الشخص هو ترمب، أما اليوم، فهو زهران ممداني.
بالطبع، ليس ممداني بمنأى عن الجدل. فقد جذب الأضواء على المستوى الوطني بسبب مواقفه السابقة الداعمة للقضية الفلسطينية، بما في ذلك مشاركته في احتجاج عام 2021 الذي ردد هتافات تدعو إلى "عولمة الانتفاضة". وفي مدينة يفوق عدد سكانها اليهود عدد سكان تل أبيب، يعد هذا النوع من المواقف ضرباً من الانتحار السياسي. إلا أن ممداني حرص على رسم حدود واضحة بين انتقاد سياسات الحكومة الإسرائيلية من جهة، ومعاداة السامية من جهة ثانية - وهو تميز عجز عنه معظم سياسيي اليسار حول العالم (يكفي تذكر مواقف جيريمي كوربين الزعيم السابق لحزب "العمال" البريطاني). وأكد ممداني باستمرار وبصورة لا لبس فيها، أن تحرير فلسطين يجب أن يسير جنباً إلى جنب مع ضمان أمن وسلامة اليهود في نيويورك.
كما قال براد لاندر، المراقب المالي اليهودي في مدينة نيويورك، الذي قاد حملته الانتخابية بالتعاون مع ممداني لتحقيق الاستفادة القصوى من نظام التصويت التفضيلي [نظام انتخابي يسمح للناخبين بترتيب المرشحين بحسب الأفضلية – وفي هذا السياق يعني أن براد لاندر وزهران ممداني طلب كل منهما من مؤيديه تصنيف الآخر كخيار ثان]، في مقابلة أجراها معه ستيفن كولبير: "لا أحد يتوقع من أية عمدة أن يكون مسؤولاً عما يحدث في منطقة الشرق الأوسط، لكن ما يبعث فعلاً على الأمل هو أن يقف يهودي من أبناء نيويورك إلى جانب مسلم من أبناء المدينة نفسها ليقولا معاً: ’هكذا نحمي جميع سكان نيويورك. لن نسمح بأن يزرع الانقسام بين اليهود والمسلمين في هذه المدينة‘".
إذاً، ماذا حقق "الديمقراطيون" للتو؟ سواء أدركوا ذلك أم لا، ربما يكونون اعتمدوا أخيراً مساراً واضحاً. من المؤكد أن فوز ممداني لن يلقى ترحيباً لدى المانحين من الشركات أو الاستراتيجيين الوسطيين داخل الحزب، لكن تجربتهم أثبتت فشلها عام 2016، وعام 2024. أما هذا الفوز - على عكس ذلك - فيمنح الحزب ما كان يفتقده منذ أشهر: وهو الرؤية.
فوز ممداني يثبت أن الأفكار التقدمية قادرة على تحقيق انتصارات انتخابية، وأن الأصالة بإمكانها أن تتغلب على الرداءة السياسية، وأن الناخبين ضاقوا ذرعاً بالشعارات الفارغة، فهم يبحثون عن قادة يشعرون بمعاناتهم اليومية ويملكون النية الصادقة لتغيير هذا الواقع. لقد قام زهران ممداني أخيراً بما كنت أنتظره وأطالب به وأتمنى أن يقدم عليه أحدهم منذ زمن، ألا وهو: إحداث تغيير جذري.
يتوق سكان نيويورك بحق إلى ممثل لهم يفهم واقع الحياة في شقق ضيقة ومبالغ في أسعارها، وتحمل متاعب التنقلات اليومية الطويلة في مترو أنفاق متهالك. ولعل اشتراكياً مسلماً من "جيل الألفية"، مولوداً في أوغندا، قدم جرعة نشاط وتجدد كان الحزب "الديمقراطي" في أمس الحاجة إليها.
بابلو أوهانا هو مستشار سياسي بارز ومخطط حملات انتخابية مقيم في مدينة نيويورك، وقد عمل في الحملة الانتخابية لكامالا هاريس مرشحة الحزب "الديمقراطي" للرئاسة الأميركية في انتخابات عام 2024.
© The Independent