يتهم الرئيس الأميركي دونالد ترمب وسائل الإعلام التي تنتقد سياساته وتصرفاته بأنها "معادية" بل ويسعى أحياناً للضغط عليها بشتى الطرق المتاحة له. فهو لا يحب أن يسمع إلا ما "يطرب أذني"، كما يحلو له أن يقول دوماً. وإذا كان اختياره لفريقه على أساس الولاء أولاً، فهم لا يفعلون غير الإطراء والمديح لكل ما يفعل. إلا أن كل ذلك لا يعني أن الولايات المتحدة خلت من العقلاء الذين يزنون الأمور بميزان المعرفة والحكمة ولا يخشون التعبير عن آرائهم التي مونوها من علمهم وتجربتهم العملية.
من هؤلاء بعض الذين ليست لديهم مشكلة سابقاً مع الرئيس ترمب بل والمتحمسين لبعض سياساته السابقة من الاقتصاديين والمحللين، الذي بدأت أصواتهم تعلو بانتقاد سياساته خصوصاً بعد إعلانه الحرب التجارية على العالم.
من هؤلاء المتخصص في الشأن الاقتصادي في جامعة كولومبيا، الذي اختارته مجلة "الإيكونوميست" واحداً من أهم 10 اقتصاديين مؤثرين في السياسات العامة جيفري ساكس وخبير الأسواق المخضرم بيتر شيف.
المشكلة أن الرئيس ترمب يجلب لنفسه ذلك النقد اللاذع بتصريحاته التي لا تقتصر على المبالغة، لكن أيضاً أحياناً مخالفة الواقع بشدة. على سبيل المثال، وفي كلمة له أمام تجمع للجمهوريين من حزبه بعدما أعلن عن قرارات التعريفة الجمركية قال مفاخراً، "إننا نحقق ثروة مع فرض التعريفة. ملياري دولار يومياً. هل تصدقون ذلك؟". لكن من يصدق ذلك، بينما الأرقام الرسمية لهيئة حماية الحدود والجمارك الأميركية تقول إن أقصى ما يُجمع يومياً من التعريفة الجمركية في حدود 260 مليون دولار.
طالب فاشل
في كلمة له في محفل دولي (منتدى أنطاليا للدبلوماسية) شن المتخصص في الشأن الاقتصادي الأميركي المرموق جيفري ساكس هجوماً عنيفاً على سياسات الرئيس الأميركي، واصفاً ترمب بأنه طالب اقتصاد فاشل وأنه "ما كان ليعطيه درجة نجاح لو كان طالباً عنده". وفي كلمته وصف تصورات ترمب عن العجز التجاري بأنها "وهمية" متهكماً بأنه "حتى ميكي ماوس يعرف أفضل من ذلك".
وفي شرح تبسيطي جداً قال ساكس، "لو أنك أخذت بطاقتك الائتمانية وذهبت للتسوق وتراكمت عليك ديون بطاقتك، فأنت عملياً لديك عجز تجاري مع كل تلك المحال التي تشتري منها. إنما سيكون أمراً غريباً أن تلوم أصحاب تلك المتاجر لأنهم باعوك كل ما اشتريته وتقول لهم: أنتم تسرقونني، فأنا أعاني عجزاً تجارياً معكم". ويتهم ترمب بأن "هذا هو مستوى فهم رئيس الولايات المتحدة الأميركية للمسألة".
ويكرر المتخصص في الشأن الاقتصادي ما يقوله غالب المحللين والاقتصاديين وغيرهم من إن العجز التجاري لا يعكس السياسات التجارية، وإنما يعكس الفارق بين الإنفاق والإنتاج والدخل. ويشير ساكس إلى أن الأميركيين يراكمون عجزاً طوال الأعوام لأن "لدينا بطاقة ائتمان ضخمة في أميركا تسمى الحكومة الفيدرالية" التي تنفق أكثر من مواردها. ويرى أن المشكلة في المشرعين بالكونغرس الذين يوافقون على الموازنات "لأنهم يحصلون على تمويل حملاتهم الانتخابية من أثرياء لا يحبون الضرائب".
يضيف جيفري ساكس أن هذه بديهيات تُدرس في المحاضرات الأولى لطلبة الاقتصاد، ويستشهد بالأرقام الرسمية التي تؤكد أن الولايات المتحدة تنفق أكثر من إنتاجها وعائداتها. ويقول بوضوح عن ترمب، "لو كان طالباً عندي لرسبته في هذه المادة. لكنه رئيس بلادي، وهذا أكثر غرابة".
الملاحظة الأخطر التي ذكرها ساكس في كلمته أنه مع إعلان سياسات التعريفة الجمركية، وخلال يومين، تبخرت 10 تريليونات دولار من أسواق المال حول العالم. ويضيف أن ما لا يفهمه ترمب أن هذه الأموال لم تنتقل من طرف إلى طرف، بل دمرت وتلاشت تماماً. أي إنه ليس هناك خاسر وكاسب في الأمر بل الكل خسران "فالتجارة علاقة نفعية للطرفين، وإذا أوقفت التجارة يخسر الجميع. ليس هناك طرف يربح وطرف يخسر. وهذا ما لا يفهمه الرئيس".
طبعاً لا يمكن اتهام جيفري ساكس بأنه متعاطف مع المعارضة الديمقراطية للرئيس الجمهوري، فكثيراً ما انتقد ساكس الديمقراطيين بشدة وبصورة لاذعة أيضاً بسبب سياساتهم الاقتصادية والمالية.
المشكلة في أميركا
في مقابلة مطولة مع جيريمي شافرون على قناة "كيتكو نيوز" يتحدث بيتر شيف كبير استراتيجي الأسواق في شركة "يورو باسيفيك اسيت مانجمنت"، وأحد خبراء السوق المخضرمين عن هرب رؤوس الأموال من أميركا، وكيف أن هيمنة أميركا على النظام المالي العالمي انتهت.
ويسخر شيف من وصف الرئيس الأميركي يوم إعلان قرارات فرض التعريفة الجمركية في الثاني من أبريل (نيسان) بأنه "يوم التحرير". ويقول "يوم التحرير ليس ما قاله ترمب، وإنما هو تحرير أميركا من العيش بأكثر من مقدراتها، أي الاستهلاك بأكثر مما تنتج... هو أيضاً تحرير للعالم من الاستمرار في دعم الاقتصاد الأميركي بسد العجز عبر ضخ أموالهم فيه".
وينتقد ما يراه من أن العجز التجاري مع الآخرين هو المشكلة ويجب حلها لأن "الأجانب يغشوننا ويسرقون أميركا" كما يقول الرئيس دوماً. ويقول خبير الأسواق "الواقع أن العجز التجاري هو عرض من أعراض المشكلة، والمشكلة هنا في أميركا. فلا أحد يسرقنا أو يغشنا. المشكلة أننا كأميركيين نعيش بأكبر من قدراتنا لعشرات السنين الآن. فنحن نستهلك أكثر مما ننتج كثيراً. لكن كيف يمكننا ذلك، بالاستدانة. فنحن نبيع أصولنا ونقترض الأموال ونتمتع بمستوى معيشة أعلى بكثير مما نستحق".
ويقول بيتر شيف، إن ذلك وضع مستمر منذ عقود، والسبب هو أن "بقية العالم هم من يجعلون ذلك ممكناً، فهم ينتجون ما لا ننتجه ويشترون أصولنا ويقرضوننا الأموال... والنتيجة أنه لدينا في أميركا المزيد لنشتريه بأسعار منخفضة ولدينا أسعار فائدة منخفضة بسبب انسياب الأموال الأجنبية إلينا. وهكذا ترتفع مؤشرات البورصة وأسعار الأسهم ونكون أغنياء على الورق فقط".
ومثل كثير من المحللين والمعلقين، يتوقع شيف ارتفاع معدلات التضخم والمزيد من تدهور قيمة الدولار نتيجة خروج المستثمرين من الأصول الأميركية. ويضيف، "كثيراً ما حذرت من ذلك لأعوام، لكني كنت أتوقع أزمة تدهور الدولار نتيجة عوامل خارجية ولم أتوقع أن نفعل ذلك بأنفسنا... لقد فجرنا فقاعتنا بأنفسنا".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يبالغ بشدة
ويرى المحلل الاستراتيجي للأسواق أن "ترمب يبالغ بشدة حين يقول إن بيديه أوراق اللعبة، مع أنه ليس بيديه شيء. من السهل استبدال الاستهلاك، فالكل يستهلك... إنما الصعب هو الإنتاج، فالعرض هو الذي يولد الطلب. من السهل على الصين استهلاك ما تنتج، أو تتاجر بما تنتجه مع الآخرين. أما المستحيل بالنسبة إلى أميركا فهو أن تستهلك ما لا تنتجه". ويضيف، "في الواقع، لن تستورد الصين مزيداً من السلع من أميركا، فهم سيستوردون مزيداً من المنتجات الزراعية أو المواد الخام الأخرى التي كانوا يستوردونها منا سيستوردونها من أميركا الجنوبية. لذا ستكون تلك الدول أغنى لأنها تصدر المزيد، وتتمكن من استيراد ما تنتجه الصين مما كانت تصدره لأميركا".
أما المستفيد الأكبر من تدهور قيمة الدولار فهي في رأيه "الأسواق الصاعدة والدول التي ترزح تحت وطأة ديون كبيرة مقيمة بالدولار. فما إن ينهار الدولار، تختفي تلك الديون". ويتوقع شيف أن "الذهب مستمر في الارتفاع لأن البنوك المركزية تشتري الذهب لتتخلص مما لديها من الدولار تحسباً لأنه لن يصبح عملة الاحتياط العالمية".
تبقى مشكلة أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب لا يسمع لهذه الآراء، بل يهاجمها باعتبارها ضد "المصلحة العامة" ولا تريد له أن "يجعل أميركا عظيمة مجدداً". حتى أقرب مستشاريه، الملياردير إيلون ماسك، حين انتقد قرارات فرض التعريفة الجمركية لم يهتم ترمب بآرائه. وحين قرر الرئيس التراجع موقتاً عن قراراته بتأجيل تنفيذ فرض التعريفة الجمركية لمدة ثلاثة أشهر قال إنه فعل ذلك لأن الأمر يحتاج الوقت لاستيعابه، وليس لأن الأسواق اضطربت بشدة وكادت تنهار.