ملخص
في حين يشهد عدد مركبات الإطلاق الفضائية الصينية التي تصعد إلى المدار ارتفاعاً حاداً، فإن نطاق طموحات الصين الفضائية يتجاوز بكثير مهمات الاستكشاف والاتصالات وحتى التصوير، إذ أسفرت الاستثمارات الأخيرة عن أنظمة أقمار اصطناعية متطورة مزودة بآليات تصادم آلية قادرة على التشويش على الأقمار الاصطناعية المعادية أو التقاطها، كما يجري تطوير واختبار "مركبات القتل الحركية" (KKVs) المصممة خصيصاً لتعطيل الأقمار الاصطناعية واعتراض الصواريخ.
لكل من يرغب في فهم الديناميكيات الجيوسياسية التي ستقود القرن الـ21، فإن التحركات السريعة للصين في الفضاء ودمج التكنولوجيا المتطورة حديثاً في استراتيجية عسكرية متماسكة تلفت الانتباه وتستدعي المتابعة، ففي ظل قيادة الرئيس شي جينبينغ أعادت الصين منذ عام 2015 هيكلة نهجها جذرياً تجاه قدرات الفضاء والحرب السيبرانية وحرب المعلومات، مظهرة طموحاً واضحاً لبناء قدرات رائدة تتجاوز الغلاف الجوي للأرض، وتطور هذا الأمر ليصبح برنامجاً فضائياً عسكرياً شاملاً يجسد عزم بكين على تحقيق التفوق في حدود الفضاء.
وفي سعيها إلى أن تكون رائدة عالمياً في مجال الفضاء بحلول عام 2050، أصدر الحزب الشيوعي الصيني في أكتوبر (تشرين أول) 2024 خطة مدتها 25 عاماً لاستكشاف الفضاء، تتضمن خططاً للهبوط على القمر بحلول عام 2030، مع تقديم دعم كبير لشركات الفضاء الخاصة. وتمتد هذه الجهود أيضاً إلى تعزيز القدرات العسكرية الصينية الشاملة في مجال الفضاء، بما في ذلك بناء محطات تتبع أرضية ثنائية الاستخدام في الأرجنتين.
وإلى جانب بناء قدراتها المحلية، اعتمدت الصين في كثير من الأحيان على روسيا في تحقيق أجندتها الفضائية الطموحة، وأعلنت كل من موسكو وبكين عن خطط مشتركة لبناء قاعدة بحوث قمرية مشتركة بحلول أوائل ثلاثينيات القرن الـ21، في مواجهة برنامج "أرتميس" الأميركي، والذي سيتضمن وجوداً دائماً على القمر بحلول عام 2028، علاوة على ذلك، من المرجح أن تعمل الدولتان على امتلاك أنظمة صاروخية فضائية، إذ سبق للصين أن اختبرت سلاحاً فرط صوتياً أُطلق من الفضاء عام 2021.
طائرات فضائية من دون طيار
في حين يشهد عدد مركبات الإطلاق الفضائية الصينية التي تصعد إلى المدار ارتفاعاً حاداً، فإن نطاق طموحات الصين الفضائية يتجاوز بكثير مهمات الاستكشاف والاتصالات وحتى التصوير، إذ أسفرت الاستثمارات الأخيرة عن أنظمة أقمار اصطناعية متطورة مزودة بآليات تصادم آلية قادرة على التشويش على الأقمار الاصطناعية المعادية أو التقاطها، كما يجري تطوير واختبار "مركبات القتل الحركية" (KKVs) المصممة خصيصاً لتعطيل الأقمار الاصطناعية واعتراض الصواريخ.
وإلى جانب هذه الترسانة من أقمار التصادم الآلية ومركبات القتل الحركية، تجري الصين اختبارات على طائرات فضائية من دون طيار، ونذكّر هنا بأن الولايات المتحدة بدأت للمرة الأولى في العالم عام 2010 بتشغيل طائرة الفضاء من دون طيار "بوينغ إكس 37" شديدة السرية التي نفذت تحت رعاية القوات الجوية الأميركية ما لا يقل عن سبع مهمات حتى تاريخه. لذا فإن طائرات الفضاء الصينية، كطائرات الولايات المتحدة، يكتنفها كثير من الغموض.
وأثارت هذه الطائرات الصينية والأميركية تكهنات واسعة حول تطبيقاتها المحتملة في الاستطلاع وتعطيل الأقمار الاصطناعية والنشر السريع للحمولات، وتمثل قدرة الطائرات الفضائية على الاستفادة من المفاجأة والتكيف، تطوراً مهماً لقدرات الصين في مجال حرب الفضاء واللوجستيات.
دمج الذكاء الاصطناعي في الفضاء
توازياً، يمثل الذكاء الاصطناعي العمود الفقري لاستراتيجية الفضاء الحديثة للصين، واعتمد جيش التحرير الشعبي الصيني الذكاء الاصطناعي لإدارة شبكات أقماره الاصطناعية الواسعة وتمكين تحليل التهديدات في الوقت الفعلي، مما زاد بصورة كبيرة من سرعة اتخاذ القرارات خلال العمليات المدارية وكفاءتها. وعام 2023، أجرت الصين تجربة ناجحة تحكمت فيها عبر الذكاء الاصطناعي بقمر "كيمينغسينغ 1"، وهو قمر اصطناعي للاستشعار عن بعد في مدار أرضي منخفض.
وقام نظام التحكم بالذكاء الاصطناعي هذا بتشغيل القمر الاصطناعي بصورة مستقلة لمدة 24 ساعة من دون أي تدخل بشري، مما أظهر قدرة بكين الفاعلة على تطوير أنظمة مستقلة للعمليات الفضائية ونشرها.
وتمكّن الأدوات التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي جيش التحرير الشعبي الصيني حالياً من التنبؤ بالعمليات الفضائية ومحاكاتها وتنفيذها بأقل قدر من زمن الوصول، فيما تعزز خوارزميات التعلم الآلي أنظمة المراقبة والاستطلاع عبر الأقمار الاصطناعية، مما يضع الصين في موقع متميز من ناحية الاستعداد للحرب المدارية.
وهذا التكامل التكنولوجي بين الذكاء الاصطناعي وقدرات الفضاء يسهل تطوير إمكانات جبارة وتوفير مجموعة أوسع من الخيارات للاستراتيجيين العسكريين الصينيين.
استراتيجية التفوق الفضائي
التطورات التي ذكرناها آنفاً تقلق بطبيعة الحال صناع القرار في الولايات المتحدة، إذ وصف رئيس العمليات في قوة الفضاء الأميركية الجنرال تشانس سالتزمان، أخيراً التقدم الذي أحرزته الصين في القدرات الفضائية بأنه "مذهل"، مؤكداً أن بكين تطور ردعاً قوياً، وقال ما حرفيته "نحن مقبلون بالتأكيد على فترة من المنافسة الشديدة، أو ما يسمى ’سباق الفضاء العسكري‘، إن صح التعبير".
وبحسب التقديرات الأميركية، فإن طموحات الصين الفضائية لا تقتصر على اللحاق بالركب فحسب، بل تتجاوز مجرد الردع العسكري، وتمثل محاولة استراتيجية للريادة، وهذا ليس مفاجئاً في حد ذاته، نظراً إلى النمو السريع للصين وخبرتها التكنولوجية وتعدادها السكاني الهائل، فمن خلال الاستثمار بكثافة في تقنيات الفضاء والدفاع المضاد للفضاء، تسعى بكين إلى تحقيق تفوق عسكري وإعادة تشكيل السوق الدولية للفضاء في المجالين المدني والعسكري.
ويساعد التقدم السريع للصين في القدرات الفضائية، المعزز بالذكاء الاصطناعي والتكامل السيبراني، على تحقيق مرحلة جديدة في الاستراتيجية العسكرية الصينية، وتجسد هذه الاستراتيجية التي تتميز بنهج شامل للغاية ومتعدد المجالات دمج الفضاء السيبراني والذكاء الاصطناعي للسيطرة على الفضاء.
ساحة للتنافس
من ناحية ثانية يطرح توسع القدرات العسكرية الفضائية للصين، بالتوازي مع جهود مماثلة من روسيا، رؤية أوسع نطاقاً، إذ يتوقع أن يصبح الفضاء ساحة للتنافس، ويؤثر النفوذ المتزايد الذي تحققه المبادرات الفضائية في التحالفات الجيوسياسية، ويزيد من الأخطار على الدول المعتمدة على تكنولوجيا الأقمار الاصطناعية في الاتصالات والملاحة والدفاع.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكما تعاونت الولايات المتحدة وأوروبا مع دول حليفة استراتيجياً في برامج فضائية في الماضي، نتوقع من الصين أن تحذو حذوها، وتفتح المجال لعدد من الدول التي كانت ستستغرق وقتاً أطول للوصول إلى هناك بمفردها، وهكذا فإننا أمام احتمال تسلح فضاء حقيقي يشمل قدرات تدمير الأقمار الاصطناعية وتقنيات تعطيل المدارات ويشكل تحدياً للنظام الفضائي الذي قادته الولايات المتحدة تاريخياً والذي كان يفترض ببساطة أن أياً من خصوم الولايات المتحدة لن يكون قادراً على استخدام الفضاء، ولو من بعيد، بالطريقة نفسها التي استخدمتها لعقود.
تقرير "البنتاغون"
واحتمال كسر السيطرة الأميركية في الفضاء تطرق إليه تقرير وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) الأخير الذي حمل عنوان "التطورات العسكرية والأمنية المتعلقة بجمهورية الصين الشعبية"، مسلطاً الضوء على تسارع وتيرة التحديث العسكري الصيني، مع زيادة التركيز على تقنيات الفضاء والذكاء الاصطناعي. وقدم التقرير، رؤى حول قدرات بكين المتنامية التي يهدف كثير منها إلى مواجهة النفوذ الأميركي في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
وركز التقرير على استخدام الصين للأقمار الاصطناعية والذكاء الاصطناعي لدعم عملياتها العسكرية، ووصف كيف توظف بكين بصورة متزايدة المراقبة الفضائية لتتبع القوات الأميركية وحلفائها وتعزيز قدراتها على توجيه الضربات الدقيقة، وتشمل هذه القدرة دمج بيانات الأقمار الاصطناعية مع أنظمة الذكاء الاصطناعي المتقدمة لتحديد نقاط الضعف وتوجيه ضربات الصواريخ عالية الدقة.
وأشار التقرير إلى أن قدرات الصين الفضائية توسعت بوتيرة سريعة، فخلال عام 2010 كانت البلاد تشغل أسطولاً متواضعاً من 36 قمراً اصطناعياً. وبحلول عام 2024 ارتفع هذا العدد إلى أكثر من 1000، مع تخصيص أكثر من 360 منها لمهمات الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع.
ولفت التقرير أيضاً إلى أن الصين تشدد على أهمية قدرات المراقبة الفضائية في دعم الضربات الدقيقة، ومنذ عام 2022 واصلت تطوير مجموعتها من أقمار الاستطلاع العسكرية التي يمكن أن تدعم رصد القوات الأميركية وقوات حلفائها، فيما تبنت "حرب الدقة متعددة المجالات"، وهي استراتيجية تدمج الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة وتقنيات الفضاء لتنفيذ عمليات عسكرية عالية التنسيق.
وخلص تقييم "البنتاغون" إلى أن بكين لا تسعى إلى زيادة الجاهزية على المواجهة العسكرية الفضائية فحسب، بل إن ما يجري يعكس كذلك طموحاتها نحو الريادة التكنولوجية والاستراتيجية العالمية.