Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الشاعر والتشكيلي المغربي عزيز إزغاي: الفن يجعل الانسان جديرا بالانتماء الى زمنه

المثقفون لا يهتمون الا بحقولهم… والمشرق مازال يغري المبدعين المغاربة

الشاعر والرسام والاكاديمي المغربي عزيز إزغاي (اندبندنت عربية)

يكتسي هذا الحوار المطوّل أهميته من خلال ما يذهب إليه عزيز أزغاي من آراء تهمّ الحياة الثقافية والفنية في المغرب. بجرأته وبرغبته الدائمة في التجاوز والتجديد يجيب الشاعر والفنان التشكيلي المغربي عن الأسئلة التي أُريدَ منها أن تُخرج الكثير من النقط المظلمة إلى دائرة الضوء: حقيقة أزمة الشعر وتداوله، التجرؤ على ترجمته، السرّ وراء جنوح الشاعر المغربي إلى طبع كتبه في بلدان المشرق، إلغاء التربية الفنيّة من مناهج الدراسة في المغرب، جهل المثقفين بالفنّ وعدم تفاعلهم مع حقول أخرى غير التي يشتغلون فيها، وغيرها من المحاور التي شكلت مدار هذا الحوار.

 في ورشتيه الشعرية والتشكيلية على السواء، يشتغل أزغاي على نصوصه وعلى لوحاته بحرفية فنّان عرف كلّ شيء ثم نسيه، إذ ثمة دائماً تلك الرغبة المستمرة في الخروج من الإقامات المعتادة، والذهاب بالكتابة والفن إلى مدارجَ جديدة، وإلى تشعبات محفوفة بالمغامرة.

يحمل أزغاي دكتوراه في تاريخ الفن، ويحمل أيضاً في جرابه سبعة أعمال شعرية، أولها "لا أحد في النافذة" وآخرها "حانة الذئب". بألوان ولمسات قليلة يرسم لوحات وبكلمات قليلة أيضاً يكتب شعراً غزيراً، فمع أزغاي يبدو التقشف في اللغة واللون مذهباً فنياً وأدبياً مذهلاً، لعلّه في الغالب مذهبُ الزّهّاد والعارفين.

*لنبدأ من "حانة الذئب" عملك الشعري الأحدث. وهو السابع في مسارك الشعري الذي بدأ منذ ثلاثين سنة تقريباً. ما الذي يجعلك تواصل كتابة الشعر في زمن يبدو للكثيرين أنه زمن غير شعري؟

- في تقديري الشخصي، ليس هناك زمن شعري وآخر غير شعري، نحن من يصبغ على الأزمنة مثل هذه الأحكام من أجل تفسير البرود الذي يصيب حرارة الشعر من حين إلى آخر، أو لتبرير فشلنا الذريع في مسايرة تطورات العصر وجعل هذه الفعالية الإبداعية في قلب تحولات العالم الكبرى المتسارعة. وإلا، كيف يمكن تفسير ذلك الإقبال الجماهيري الكبير على الشعر في عدد من المهرجانات الدولية مثل كولومبيا وفرنسا وأميركا وغيرها من الجغرافيات الشعرية المتجددة؟ أظن أن مشكلتنا ثقافية بالدرجة الأولى. بمعنى أننا لم نستطع، أفراداً ومؤسسات ومجتمعاً مدنياً، أن نحول كل أنواع الفنون إلى ضرورة حياتية، إلى متنفس يخرجنا من ضيق اليومي وإكراهاته الضاغطة.

ربما يتساءل البعض، بغير قليل من السخرية، عن الجدوى من ذلك بالنسبة إلى شخص جائع أو من دون عمل؟ وهنا نتساءل بدورنا متى كان الإنسان يحيا بالطعام وحده؟ الإبداع تغذية قد تتجاوز، في بعض الحالات، أهمية ما نأكل. أقصد تغذية الروح للحفاظ على توازننا النفسي والوجداني والعاطفي. ينبغي أن نتجاوز وضعيتنا الحيوانية للارتقاء إلى مستوى الإنسان فينا، لكي نكون جديرين بالانتماء، فعلاً، إلى زمننا. من هنا تأتي أهمية الإبداع بعامة والشعر على وجه الخصوص في حياتنا اليومية. ومن هنا أيضاً ضرورة سعينا جميعا نحو إشاعته كقيم وسلوك حضاري ونمط حياة بيننا. هكذا أتصور الأمر، وهكذا أتمثل فعل الكتابة، عطفاً على ذلك، باعتباره مسألة شخصية وفردية. فلا أحد شجعني أو طلب مني، في طفولتي، أن أصبح شاعراً أو أن أظل كذلك طوال حياتي، حتى لو تراجعت آلتي الإبداعية. فما يجعلني أستمر في الكتابة هو اقتناعي الشخصي بقدرتي على نحت جمل وصور يجد فيها الآخرون بعض سلواهم، ومتى بدا لي إنني أصبحت لا أملك هذا الإغراء سأتوقف عن كتابة الشعر بكل بساطة ومن دون تردد. وفي تقديري أن هذا الأمر سوف لن يحزن لأجله أحد. يكفي أننا كشعراء لا ننتبه، مثلاً، لحلول ذكرى وفاة كثير من أسلافنا الكبار الذين طبعوا وجداننا الجمعي ومنحونا ما يكفي من الرفاهية الحسية وسلامة الذوق الجمالي.

أزمة تلقي

*هناك أزمة تداول حقيقية للشعر. الناشرون والإعلاميون ومعهم النقاد طبعاً يؤكدون ذلك باستمرار، ألا يدعو هذا الوضع إلى هجرة أرض الشعر؟

- أعتقد أن الأمر، بناءً على ما سبق، يُعدّ طبيعياً إلى حد كبير، وأيضاً إذا ما قرأناه في ضوء الإهمال الكبير والممنهج الذي تعرفه المدرسة المغربية العمومية، بعد تفريغها من محتواها الوطني وتعطيل فعاليتها المجتمعية وتقزيم أدوارها الطلائعية التي كانت تنهض عليها حتى نهاية ثمانينيات القرن الماضي. ماذا كنا ننتظر من عقلية غير تربوية وغير مواطِنة قامت، في تاريخ قريب، بإهمال الفلسفة من مناهجنا التعليمية، وفسحت المجال واسعا للغيب والخرافة كمدخل للتفكير في الآخرة عوض حياة الدنيا؟! يحضرني، هنا أيضاً، مثال آخر على هذا الهجوم الشرس على العقل والجمال والوجدان، حيث تم، منذ أزيد من سبع سنوات خلت، حذف شعبتَي الفنون التشكيلية والتربية الموسيقية من مسالك التكوين داخل المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين! تصوّر معي أننا لم نعد نؤهل أطراً في هذين التكوينين الهامين اللذين يعدان، إلى جانب الصناعة السينمائية – عطفاً على قيمتهما الروحية والوجدانية والجمالية – مصدراً مهماً لمضاعفة الثروة في بنية اقتصادات كبريات الدول في العالم، يفوق، في الولايات المتحدة الأميركية مثلاً، عائدات صناعة السيارات والأسلحة! ثم نتساءل، بعد ذلك، من أي ثقب تسرب إلينا كل هذا الظلام وهذا اليأس اللذين يتعاظمان داخل المجتمع؟!

أمام هذا الوضع الكارثي الذي له صلة بتربية العين على الجمال وشحن الوجدان بالفرح وتربية الذوق على قيم التعدد، وفي ضوء الفساد السياسي والاقتصادي المتزايد في بلادنا العزيزة، لا يمكن المرء أن يفكر في هجرة أرض الشعر فحسب، وإنما الفرار بجلده من أرض الوطن نفسه والسعي نحو أي بقعة أخرى آمنة من أرض الله الواسعة. شخصياً، لم أصدق يوماً الكذبة القائلة "قطران بلادي ولا عسل بلدان الناس"! أعتبر مثل هذا الكلام مغرضاً ومدسوساً من قبل من يريدون الإبقاء علينا وعلى أبنائنا مجرد عبيد تحت الوصاية، هذا الأمر لا يختلف كثيراً عن مقولة "القناعة كنز لا يفنى" ما هذا العبث؟ مجرد استحضار الجملتين معاً يشعراني بالغثيان والقرف.

*قبل "حانة الذئب"، ومنذ عملك الأول "لا أحدَ في النافذة"، انتبهتَ مبكّراً إلى مسألة التكثيف في كتابة قصيدة جديدة، التكثيف اللغوي الذي يصاحبه أيضاً تقشف بلاغي. كيف استطعت التخلص من إرث الثقافة العربية القائمة في معظمها على البلاغة والإسهاب؟ هل مردّ ذلك إلى تأثيرات قراءاتك بلغات أخرى؟

 - الثقافة العربية القديمة، مثلها مثل ثقافات العالم الأخرى المشابهة، لا أحد يستطيع أن يزعم بأنه تخلص منها. إنه مجرد وهم نسوقه من أجل الانصراف إلى تجديد عُدّة الكتابة ولوازمها، إذ لا وجود لقاعدة تدعو إلى التخلص مما قرأناه. ربما صادفتنا في قراءتنا تاريخ الشعر الجاهلي، مثلاً، تلك الوصية الحكيمة التي تتحدث عن ضرورة نسيان ما حفظناه لغيرنا (وكيف لنا أن ننسى بهذه السهولة؟) من أجل إبداع شيء يخصنا، أي السعي نحو اكتساب أسلوب ولغة وطريقة كتابة تشبهنا، بما لا يبقينا رهينة قراءاتنا السابقة. هكذا أفهم عملية "التخلص" التي وردت في السؤال. أما مسألة التقشف البلاغي والتكثيف في الكتابة فقد كانا دائماً حاضرين كطموح لإنتاج نص يذهب رأساً إلى جوهر المعنى من دون زوائد لغوية أو بلاغية أو ما شابه.

أما عن مسألة تأثير القراءة بلغات أخرى فهذا أمر بديهي بالنسبة إلى أي شاعر، يضاف إلى ذلك ضرورة الاستفادة مما تقدمه بقية الفنون الأخرى المجاورة، على اعتبار أننا لا يمكننا أن نحلّق بجناح واحد. ففي الشعر، على وجه التحديد، نحن في حاجة إلى مزيد من الأجنحة تساعدنا على التحليق بشكل مختلف وفي أجواء نائية. إن القصائد المؤثرة عادةً ما تكون خلاصة تداخل لغات وفنون أخرى مثل التصوير والنحت والموسيقى والرقص والمسرح والعمارة وغيرها... ولا ننسى أن الإنسان وعى العالم، لأول مرة، بحواسه، وبعينيه بدرجة أولى، قبل سعيه إلى اكتشاف وسيط لغة الكتابة كما هي متداولة ومعروفة اليوم.

ضرورة الترجمة

*في هذا السياق كنتُ أنتظر دائماً أن أقرأ ترجماتك للشعر العالمي. لماذا لم تنصرف إلى ترجمة الشعر، الفرنسي تحديداً، في ظل ندرة مترجمين محبّين؟

 - صحيح، الترجمة نافذة أخرى لاكتشاف الآخر والاقتراب أكثر من حساسيته المختلفة وذائقته الخاصة. إلا أن الذهاب إليها يتطلب معرفة وخبرة ودراية لا تقل أهمية عن الكتابة الإبداعية نفسها. إنها لغة إبداع ثانية لها مآزقها ومنحدراتها إلى جانب قيمتها التأسيسية لعوالم جديدة تفيد الشاعر في تمهير أدائه وتطعيم خياله. ولا أنفي أنني قمت، في ما مضى، بترجمة ونشر بعض النصوص التي بدت لي حَمّالة رؤى وتصورات ولغة مفارقة، إلا أن ذلك بقي في إطار التجريب، تجريب الاقتراب من الآخر، في خصوصيته الثقافية والتخييلية، حيث يقيم ويبدع. أما مسألة التخصص في ترجمة الشعر فتلك مهمة لا أدعي القدرة ولا المعرفة اللازمتين للنهوض بها، تلك مسؤولية صعبة ينبغي أن تضطلع بها المؤسسات وليس الأفراد الذاتيين العُزَّل.

إن فعل الترجمة أكثر من كونه مجرد محاولات متفرقة يقوم بها أفراد بدواعٍ وخلفيات شخصية، إنه رهان مجتمعي ينبغي أن يتحقق في إطار مشروع تنهض به الدولة وترعى طموحه. والواقع أننا مازلنا بعيدين من هذا المطلب. فما يُنجز من ترجمات يبقى مجرد محاولات واجتهادات فردية يقوم بها أشخاص بخلفيات متباينة. فيما الدولة تبقى غائبة عن هذا الحلم التنويري والتحديثي المجتمعي الكبير.

*لماذا يفضّل عدد كبير من الشعراء المغاربة أن يصدروا أعمالهم عن دور نشر عربية خارج المغرب؟ هل يتعلّق الأمر برحلة بحث عن القارئ؟

 - أظن أن مسألة النشر في بلد عربي آخر، بخاصة في الشرق، تظل محكومة، في جانب منها، وفي منطقة اللاشعور الفردي والجماعي على حد سواء، باستمرار ذلك الإحساس المهيمن، لدى كثير من الشعراء المغاربة، بقيمة هذا الشرق التاريخية على مستوى الإبداع والريادة الشعريتين، اللتين تكرستا لسنين طويلة خلت. وهي، بالنسبة إلى شعراء آخرين، تفسَّر بالسعي نحو تأكيد الذات المبدعة ولم لا الحصول على "تزكية" و"اعتراف" من قبل هذا المركز الشعري القديم، الذي مازال يجر خلفه غير قليل من الإغراء السحري والسلطة الرمزية. أما بالنسبة إلى البعض الآخر، الذي يشكل القلة، فإن هذا الأمر يتخذ شكل منافسة غير معلنة بوضوح، موجهة نحو شعراء هذا الشرق الجدد لإطلاعهم على أهمية ما يكتبه نظراؤهم المغاربة، باعتباره قيمة مضافة إلى خريطة الشعرية العربية. فيما ترى البقية الباقية أن مسألة النشر في الشرق تبقى محكومة بالسعي نحو توسيع دائرة القراءة، واكتساب قراء جدد خارج حدود الجغرافيا المحلية. ولا ينبغي أن ننسى، عطفاً على ذلك، التراجع الكبير الذي باتت تعرفه سوق النشر والتوزيع والقراءة في المغرب، في السنوات القليلة الماضية، الأمر الذي انعكس سلباً على ترويج الكتاب الشعري وتداوله، إنْ قراءةً أو نقداً أو حضوراً جماهيرياً. فأغلب الناشرين يعتبرون الشعر بضاعة غير مربحة، وهو ما يفسر تراجع الإقبال على نشره. هذا الوضع كرّس، لدى أغلب الجمهور مع مرور الوقت، نظرة جديدة للشاعر باعتباره شخصاً يائساً ومعطوباً ومسكيناً، وهو أمر زاد من عزلته داخل نسيج الثقافة المغربية وأصاب سلعته بالبوار والكساد.   

الشعر والتشكيل

*أنت فنان تشكيلي أيضاً. وقد تمّ اعتماد عدد كبير من لوحاتك أغلفةً لدواوين الشعراء المغاربة وفي دول أخرى عربية وغربية. هل كان هذا نوعاً من الوفاء للشعر؟

 - بدأت رساماً يكتب الخواطر، قبل أن يتعرف عليّ الجمهور شاعراً يمارس هواية الرسم. كان ذلك قبل أزيد من ثلاثين سنة خلت. على أن هذا الفصل بين الفعاليتين أرى فيه غير قليل من التعسف، على اعتبار أن كلا الحقلين الإبداعيين يتطلبان انفتاحاً ضرورياً على كل الفنون، مادامت الفنون جميعها تستمد ماءها من البحر ذاته، أي من بحر الخيال، فيما يظل الاختلاف في الوسائط، أي في أداة الإنجاز فقط. يكفي أن نذكر أن كل المبدعين القدامى، عرباً وعجماً، كانوا يبدعون في أكثر من مجال، بل كانوا علماء مُجيدين حتى في مجال العلوم الحقة كذلك.

أما بخصوص اعتماد أعمالي التصويرية واجهة للكتب أو حرصي على إخراجها الفني، فهذا الأمر تحصل لي نتيجة لبعض الخبرة الجمالية التي راكمتها منذ الربع الأخير من القرن العشرين، أي منذ صدور ديواني الأول "لا أحد في النافذة"، الذي وضعت تصور غلافه على مستوى الإخراج الفني. ومنذ ذلك الحين، حصلت لي قناعة مفادها أن السحر الأول الذي ينبغي أن يمارسه أي كتاب على القارئ يجب أن يمر عبر غلافه، فيما يأتي اكتشاف المحتوى في مرحلة لاحقة. هذا الجانب ولّد لدي قناعة ثانية وهي أن لوحة الغلاف - وعلى عكس تلك النظرة التقليدية التي كانت وما تزال سائدة لدى كثير من المبدعين والنقاد على السواء - لا ينبغي أن تكون ترجمة، بالضرورة، لمحتوى الكتاب، بقدر ما يجب أن تصبح بمثابة وجبة إضافية ونصاً موازياً يفتح شهية القارئ على المحتوى. وفي تقديري إن ما أقوم به أعتبره إسهاماً متواضعاً في سبيل إعطاء الكتاب المغربي مسحة جمالية تواكب ما كرسته كبريات دور النشر في العالم. 

*لديك اهتمام كبير بالتاريخ، غير أن ذلك لا يظهر في نصوصك الشعرية بشكل جليّ. هل يضع أزغاي حداً فاصلاً بين الشاعر وأستاذ مادة تاريخ الفن؟

 - كانت دراستي الجامعية الأولى في التاريخ، حيث حصلت على شهادة الإجازة في موضوع كرسته لدراسة تاريخ المغرب القديم (القرن الأول قبل الميلاد). وأثناء دراستي بسلك الماستر داخل وحدة التكوين "الأدب العام والنقد المقارن" أنجزت بحثاً في الصناعات الثقافية، تناولت فيه تاريخ صناعة الكتاب في المغرب، قبل أن أتحول في سلك الدكتوراه، تخصص آداب وفنون متوسطية، إلى اقتراح أطروحة تناولت بالدرس موضوع تاريخ النقد الفني في المغرب. وكما ترى، على الرغم من ابتعادي، في دراستي الجامعية العليا، عن درس التاريخ المباشر، إلا أنني كنت أختار زاوية نظر تاريخية لمعالجة موضوعاتي. التاريخ ذاكرة الإنسان المتجددة وكتابه الكبير، إليه نعود كلما ضَلَّت بنا السبل.

أعتبر درس التاريخ حاضراً، بطريقة ما، في كل نصوصي وكتاباتي، باعتباره منجم أفكار وتصورات وخزان ثقافات. فلا شيء يحدث خارج معطف التاريخ الهائل. كل ما نكتبه يستمد، بالضرورة، كثيراً من ملامحه من التاريخ؛ تاريخ الكتابة وتاريخ النصوص والأفكار والأحداث أيضاً. ربما أحاول، ما أمكن، الابتعاد عن الاستدعاء المباشر للحدث التاريخي إلى نصي، وعوض ذلك أستثمر في اليومي والهش والعابر، لكونه يمثل لحظة عبور أساسية من الحاضر إلى ما سيصبح ماضياً بعد الانتهاء منه مباشرة. بهذه الطريقة أواصل تأثيث علاقتي بالتاريخ على مستوى الإبداع، أما تدريسه في مجال الفن فتلك حكاية أخرى. 

*قلتَ مرة: "لكي يكون للمغرب فنانون كبار يحتاج - في المقابل - إلى متلقين كبار كذلك". هل نعيش أيضاً أزمة تلقٍ للفن؟

 - صحيح. نحن في حاجة متواصلة إلى متلق نبيه وفطن، بل ومتواطئ؛ بما يعنيه كل ذلك من انخراط واع وفعلي في قراءة وتأويل الأعمال وتنويع مقاصدها. بهذا المعنى وحده نستطيع أن نضمن لهذه الأعمال الفنية حياة حقيقية وممتدة في الزمن. فما يقتل أي إنتاج فني، على اختلاف الأنواع الإبداعية، هو بقاؤها في حدود جغرافية تَمَثُّلٍ محدودة، هي مجال تحرك المبدع نفسه وتصوراته. فيما المطلوب سفرها إلى أبعد نقطة من أراضي التأويل. أتذكر هنا عبارة الباحث السيميائي المغربي سعيد بنكراد التي ذهبت إلى اعتبار "العين أَمَّارة بالتأويل". ثم أليس تاريخ الإنسان هو تاريخ العين بامتياز؟

صحيح أن مسألة تلقي الفن، على الأقل في المغرب، مازالت تطرح عدداً من الصعوبات الثقافية. لعل أهمها، في تقديرنا، علاقتنا التاريخية بالفن الحديث، وهي علاقة لا تتعدى نصف قرن من الزمن أو يزيد بقليل. هذه الهوة التاريخية لم تستطع المدرسة المغربية ردمها، وإنما قامت بتعميقها، من خلال إمعانها في تصنيف التربية الفنية والموسيقية والمسرحية، والبصرية عموماً، باعتبارها أنشطة تكميلية أو موازية لا تستدعي أن يخصَّص لها حيز معتبر في خريطة مناهجنا التعليمية. وهذه كارثة حقيقية. والنتيجة أن وعينا البصري مازال، حتى بالنسبة إلى نخبة المجتمع المثقفة، يستمد كثيراً من مفرداته وآليات استقباله وتلقيه للوحة والمنحوتة الفنيتين، بأدوات قراءة النص المكتوب نفسها، إن في تفسيرها أو تأويلها. والحال أن سؤال المعنى في مجال التشكيل لا يحظى بالأهمية ولا القيمة ولا الضرورة نفسها التي يحوزها في بقية الأنواع الأدبية الكتابية.

وأتذكر، في هذا السياق، ما سبق للفنان المغربي الراحل محمد القاسمي أن عبر عنه في أحد حواراته، بخصوص تلقي الفن، حيث يقول: "حين يطرح علي – أو على كثير من المبدعين العرب - سؤال عن معنى هذه اللوحة أو تلك أو ما أريد قوله من خلال صورة أو حركة خط... إلخ أتأكد أن المثقف العربي لا يعثر على متعته إلا داخل الكلام. وأقول بصراحة إنني أخجل أحياناً حينما أسمع كلام بعض المثقفين عن الفن. فكيف لأستاذ متمكن من اللغة وتاريخ الأفكار أن تكون حاسته مبتورة بهذا الشكل. لذلك، فكل معارفنا نصية، وإذا استثنينا فئة قليلة جداً، فإن أغلب مثقفينا محاصرون بالكتب، وهم، في الغالب الأعم، مثقفو مناظرات". مما لا شك فيه أن هذا البتر الذي تعرضت له حاستنا البصرية كانت ولا تزال له مضاعفاته السلبية على تكوين شخصيتنا السوية في علاقتها بتلقي الصور. لقد كرس لدينا الاعتماد على ثقافة النص المكتوب وحدها عطباً حَوَّلنا، مع الوقت، إلى كائنات معاقة تنظر إلى العالم وتتلقى أعطيات الطبيعة باختزال شديد يقوم على الإهمال والبتر والنقصان. أتمثل، في هذه اللحظة، ما عاناه الفنان المغربي الكبير الراحل الجيلالي الغرباوي (1930 – 1971)، الذي أُدخل، أكثر من مرة، إلى مستشفى الأمراض النفسية والعقلية، بسبب سخرية الجمهور - جمهور المعارض الفنية من المثقفين – من أعماله الفنية، التي كانت تتميز بتلك اللمسة الأسلوبية التجريدية الطارئة على عين ووعي المتلقي المغربي، قبل أن يصبح هذا الأسلوب في الرسم "أعزّ ما يُطلب" لدى كثير من الفنانين المعاصرين، أي بعد أزيد من أربعين سنة على وفاة هذا الفنان الطلائعي، الذي وُجد ميتاً فوق كرسي في إحدى الحدائق العمومية الباريسية!

قارئ اللوحة

*تبحث عن قارئ للوحاتك يكون شبيهاً بقارئ لقصائدك. هذا ما صرحتَ به في أحد حواراتك. أليست هذه معادلة صعبة، في ظل وجود مسافة بين المجالين، خصوصاً أنك تعرف أن قارئ الشعر بشكل عام مرتبط بضيق اللغة، أضف إلى ذلك أن القارئ العربي ترعرع لقرون على حاسة السمع، لا النظر.

- ربما أخذتني الحماسة غير الناضجة للتصريح بمثل هذا الكلام غير الدقيق. لقد علمتني الصباغة والتجربة وصحبة الكبار، أن مسألة التمثل تختلف من تلقي الشعر إلى تلقي الأعمال التصويرية. فإذا كان الشعر في حاجة دائمة إلى معنى جماعي مشترك حتى لا يتحول إلى مجرد ثرثرة وهذيان، فإن الصباغة، على العكس من ذلك تماماً، تتطلب قدراً من التأمل الفردي الخاص، حتى نضع العين والوجدان معاً على بعض سحرها الخفي والمنفلت.

صحيح أن القارئ المغربي والعربي ظل خاضعاً لقرون عدة لسلطة السماع قبل أن يصبح رهينة مأزق المكتوب مع إهماله حاسة النظر وثقافة الصورة، إلا أن ذلك ليس قدراً. وُجد الإنسان في الطبيعة بكل حواسه، وهو ما يستدعي منا، بالضرورة، تفعيل كل حواسنا حتى لا نتحول إلى كائنات معاقة أو ناقصة.

صحيح كذلك أننا عشنا تاريخاً من الإهمال لحاسة البصر، لأسباب موضوعية متصلة، بدرجة أولى، بتأويل الخطاب الديني بطريقة بائسة ومغرضة، لكن ذلك لا يمنع من تدارك الموقف لمعالجة هذا العطب واللحاق بالإنسان المتحضر. تكفي الإشارة بالنسبة إلى المغرب مثلاً، أن مجرد إثارة موضوع تأثيث الساحات العامة بمنحوتات لشخصيات تاريخية، ما زالت تلقى معارضة متشنجة من قبل حراس المعبد ومن يسير في ركابهم من الجهلة والمتطرفين. هذا واقع يجرح الروح حقيقة. آن الأوان لفتح نقاش شجاع وصريح في الموضوع يكون مدخلنا للمصالحة مع ذواتنا ولإعادة الاعتبار لكل حواسنا. ما عدا ذلك، سنبقى، كمغاربة، مجرد كائنات غريبة تذكر الإنسان المتحضر بماضيه المتخلف البعيد. وتلك، في تقديري، أكبر لعنة يمكن أن تصيب شعباً يعتقد أنه يعيش في الألفية الثالثة.

*حاول كتابك "التشكيل وخطاباته"، تعقّب مسارات الممارسة النقدية في حقل الفن التشكيلي في المغرب. هل يمكن القول إن هذا الكتاب يندرج ضمن ما يمكن أن نسميه "نقد النقد"؟ وهل حقق وظيفته؟

- أظن أن أهمية هذا الكتاب، وهو موضوع الأطروحة التي تقدمت بها للحصول على شهادة الدكتوراه، تكمن في كونه يضم أفكاراً ونصوصاً ظلت متفرقة حتى وقت قريب. وأزعم أنني أسهمت في تجميع أغلبها كما قمت بترتيب أسئلتها وإعادة إثارة طموحاتها على نحو يفيد الدارس لتاريخ الفن والنقد الفني في المغرب. بمعنى آخر، إن هذا الكتاب - الذي كان حظه سيئاً على مستوى التوزيع - حقق قيمته التوثيقية فيما يتصل بتاريخ المغرب البصري، الذي يُعنى بفن التصوير بحصر الموضوع.

على أن هذا المجهود البحثي لم يتوقف عند هذا الحد التوثيقي، وإنما تجاوزه لممارسة ما سميته "نقد النقد"؛ أي محاولة تجميع ما توصلت إليه من نصوص نقدية كتبت عن التجارب الفنية في المغرب، منذ مطلع القرن العشرين إلى اليوم، مع الحرص على تصنيفها بحسب طبيعتها وخلفياتها المعرفية والثقافية، قبل الانتقال إلى دراسة قيمتها النقدية الفعلية. هل وُفقتُ في ذلك أم لا؟ أظن أن الجواب عن هذا السؤال يبقى مطروحاً على نقاد الفن أنفسهم بدرجة أولى، وعلى القراء والباحثين في الموضوع بدرجة ثانية.

ما يهمني، حقيقة، أنني غامرت بالبحث في موضوع التشكيل الذي ظل مهملاً، حتى بداية الألفية الثالثة، داخل الجامعة المغربية، وبخاصة في شعبة اللغة العربية، التي كانت ولا تزال تجتر موضوعات لا تخرج عن نطاق نقد الشعر والسرد قديماً وحديثاً. ويكفيني فخراً أن هذه الأطروحة اختيرت، من بين مجموعة من الأطروحات التي نوقشت بين سنتي 2011 و2013، باعتبارها أفضل بحث جامعي طريف وطموح أنجز داخل الجامعة المغربية. 

المزيد من ثقافة