ملخص
على رغم التحولات السياسية الداخلية الكبرى التي شهدتها الولايات المتحدة خلال الأيام والأسابيع الأخيرة وانسحاب الرئيس الأميركي جو بايدن من السباق الرئاسي لتحل مكانه نائبته كامالا هاريس المرشحة الأبرز على بطاقة الحزب الديمقراطي لانتخابات 2024، لا يتوقع الإسرائيليون أن تتغير ملامح السياسة الأميركية تجاه إسرائيل وأزمات الشرق الأوسط.
في سبتمبر (أيلول) 2024 قررت تل أبيب وبعد نحو عام من الحرب الطاحنة على قطاع غزة تغيير المعادلة ونقل ثقل الحرب إلى الجبهة اللبنانية التي ظلت تستعد للحرب عليها منذ عام 2006، ووجهت ضربات نوعية للحزب هي الأشد خطورة والأكثر ضراوة في تاريخ إسرائيل، بلغت أوجها بقصف مقر قيادة "حزب الله" أسفل الضاحية الجنوبية مستهدفة الأمين العام للحزب حسن نصرالله وعدداً كبيراً من القادة والكوادر في "تحول تاريخي" يرى كثر أنه قد يغير قواعد اللعبة بصورة كبيرة وينقل الحرب إلى مربع أشد ضراوة من ذي قبل، وسط إجماع حول أن المنطقة دخلت مرحلة حساسة وخطرة. وترى تل أبيب أن الحزب الذي تعرض لأقسى الضربات وأصعبها على الإطلاق، يعيش فراغاً غير مسبوق في بنيته الهيكلية، مما يعزز الفرص لتشكيل تحالف ضد إيران.
وفي خضم تساؤلات حول مستقبل الحرب في جبهة لبنان، والتخوفات من استكمال إسرائيل جهدها العسكري بتنفيذ عملية برية بحال استمرار إطلاق القذائف والصواريخ عبر حدودها الشمالية، رسم محللون وسياسيون وخبراء، سيناريوهات رمادية لما قد يحدث بعد عملية اغتيال نصرالله، في ظل مساع إسرائيلية لاستغلال الدعم الأميركي المطلق، خصوصاً أن وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن أبلغ نظيره الإسرائيلي يوآف غالانت، بأن الولايات المتحدة عازمة على منع إيران والجماعات التي تدعمها من استغلال الوضع في لبنان أو توسيع رقعة الصراع عبر الدعم الكامل لـ"حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، وأنها لا تزال ملتزمة الدفاع عنها.
ووفقاً لمشروع معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي "INSS" الذي نشر في عام 2021 حول الحرب المقبلة في الشمال، أدرج جنوب لبنان كإحدى أخطر دوائر التهديد تجاه إسرائيل نظراً لقربه المباشر من الحدود، بخاصة أن "حزب الله" عزز وجود مقاتليه في منطقة جنوب نهر الليطاني على الحدود اللبنانية مع إسرائيل، وهو ما عدته تل أبيب انتهاكاً لقرار مجلس الأمن 1701 الذي أنهى حرب عام 2006 ونص على انسحاب عناصر الحزب إلى شمال الليطاني، وقصر الوجود العسكري جنوب النهر على الجيش اللبناني وقوات يونيفيل (قوات دولية متعددة الجنسيات تابعة للأمم المتحدة لحفظ السلام في جنوب لبنان)، بينما وضعت العراق ضمن "الدائرة الثانية"، فيما أدرجت إيران واليمن ضمن "الدائرة الثالثة". وظلت المخاوف الأمنية التي يخشاها الخبراء العسكريون الإسرائيليون تدور حول حدوث حرب متزامنة متعددة الجبهات في الدوائر الثلاثة تزامناً مع اشتعال حرب في غزة والضفة الغربية، ضمن ما أطلقوا عليه اسم "حلقة النار" الإيرانية.
منافع سياسية
على رغم التحولات السياسية الداخلية الكبرى التي شهدتها الولايات المتحدة خلال الأيام والأسابيع الأخيرة وانسحاب الرئيس الأميركي جو بايدن من السباق الرئاسي لتحل مكانه نائبته كامالا هاريس المرشحة الأبرز على بطاقة الحزب الديمقراطي لانتخابات 2024، لا يتوقع الإسرائيليون أن تتغير ملامح السياسة الأميركية تجاه إسرائيل وأزمات الشرق الأوسط. ويرى مراقبون أن نتنياهو وإلى حين إجراء الانتخابات الرئاسية الأميركية المرتقبة في الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، سيسعى إلى تحقيق منافع سياسية محضة، تجعل الحرب على غزة، على رغم من إخفاقاتها، شيئاً من الماضي، ويفتح صفحة جديدة في كيفية المضي قدماً في الأشهر المقبلة لتحقيق الأهداف المهمة لكلا البلدين، مثل إطلاق سراح جميع الرهائن، وهزيمة "حماس"، ومواجهة "محور الإرهاب" المتمثل بـ"حزب الله" وإيران ووكلائها، وضمان "عودة جميع مواطني إسرائيل بأمان إلى ديارهم في الشمال والجنوب". ومهما كانت السياسة التي قد تتبعها هاريس، فإنها وفقاً لمحللين سترث نهج بايدن لضمان أمن إسرائيل مع الدفع نحو إنهاء الصراع في غزة، مع خطة لليوم التالي تتضمن سلاماً إقليمياً مع الدول العربية. ولم يكتف بايدن بتبني الولايات المتحدة رسمياً ما طرحه من مقترحات في مايو (أيار) الماضي، من شأنها وقف إطلاق النار في غزة، أعلنت "حماس" قبولها من حيث المبدأ، لكنه حرص على أن تحظى مقترحاته بغطاء دولي يضفي عليها قدراً أكبر من الجدية، عبر إقدام إدارته على صياغة مشروع قرار وطرحه أمام مجلس الأمن، أفضى إلى تبني المجلس القرار رقم 2735، الذي تحولت بموجبه المقترحات الإسرائيلية-الأميركية إلى قرار أممي ملزم، يطالب بوضع آلية تتضمن جدولاً زمنياً للتنفيذ، إلا أن نتنياهو وضع في طريقه كل أنواع العراقيل إلى أن أوصله إلى طريق مسدود. ويعد المستشار العام السابق للمؤتمر اليهودي العالمي، مناحيم روزنسافت في مقال لمجلة "نيوزويك" الأميركية، أنه وعلى رغم أن هاريس "صديقة ومؤيدة لإسرائيل"، فإنه لا يمكن اعتبارها "مضمونة" بالنسبة لنتنياهو وهذا ما يثير رعبه".
لعبة الوقت
وفي تحليل على موقع "معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى"، فإن نتنياهو سيحاول نيل دعم إدارة بايدن حتى آخر لحظة من ولايته للإبقاء على وجود عسكري إسرائيلي غير محدد زمنياً في محور فيلادلفي على طول الحدود بين مصر وغزة، لمنع حركة "حماس" من إعادة تسليح نفسها من خلال شبكة أنفاقها في رفح، والبقاء في ممر نتساريم الذي يقسم شمال القطاع عن جنوبه، لمنع عودة المقاتلين إلى شمال غزة، بل ويصر رغم كل المحاولات الأميركية لفرض التهدئة، على أن الضغط العسكري يجب أن يستمر على غزة لأنه أضعف "حماس" بصورة كبيرة بعد سلسلة من الضربات ضد قيادتها العسكرية. وهناك رأي واسع النطاق مفاده أن نتنياهو يلعب على عامل الوقت، على أمل فوز المرشح الجمهوري دونالد ترمب بالرئاسة، مما قد يخفف عنه بعض الضغوط التي يواجهها حالياً من إدارة بايدن في شأن وقف إطلاق النار، والمستوطنات في الضفة الغربية، وعنف المستوطنين. وبحسب "منتدى السياسة" الإسرائيلي "هناك تصور شبه عالمي بأن نتنياهو حريص على فوز ترمب، على افتراض أنه سيكون قادراً على فعل ما يريد بعد ذلك". ووفقاً لعديد من القراءات والتحليلات، يتعمد نتنياهو عرقلة أي صفقة قد تفضي إلى وقف لإطلاق النار تطرحها إدارة بايدن، خوفاً من أن يساعد ذلك على تمكين مرشح الحزب الديمقراطي في الانتخابات من كسب أصوات الناخبين العرب والمسلمين في الولايات المتأرجحة، مما قد يسهم في حسم هذه الانتخابات لمصلحته.
وبحسب المعهد العربي الأميركي، فإن ربع الأميركيين العرب فقط، وعددهم 3.7 مليون نسمة، مسلمون، والغالبية العظمى مسيحيون. ويمكن لأصوات العرب والمسلمين التي تشكل نحو واحد في المئة من إجمالي الناخبين في الولايات المتحدة، أن تحسم النتائج في بعض الولايات التي تعد مفتاحية ومهمة، في حين أكدت دراسة جديدة نشرها معهد السياسات الاجتماعية والتفاهم ISPU بالشراكة مع منظمة (Emgage) وChange Research تستند إلى استطلاع أجري في أواخر يونيو (حزيران) الماضي، وركز على نيات التصويت لدى المسلمين في جورجيا، وبنسلفانيا، وميشيغان تحديداً في انتخابات الرئاسة لعام 2024، فإن تعامل الرئيس بايدن مع الحرب في غزة حول المسلمين الذين كانوا من أكبر مؤيديه في عام 2020 إلى أشد منتقديه، وذلك رغم إدراكهم أن عدم التصويت لمصلحة هاريس خصوصاً في الولايات المتأرجحة، قد يساعد ترمب على الفوز. وهو ما يفسر وفقاً لكثيرين حرص بايدن طوال الأشهر الأخيرة على إبرام صفقة تساعد على التوصل إلى وقف الحرب المشتعلة في غزة. وعلى رغم أن هاريس نجحت تدريجاً في تقليص الفجوة فإنها لا تزال في وضع حرج فموقفها من الصراع في الشرق الأوسط المشابه لموقف بايدن، قد يفقدها أيضاً أصوات الجالية اليهودية التي يصوت معظمها تقليدياً لمرشح الحزب الديمقراطي. وفي إحصاء يعود إلى عام 2020 قُدر عدد السكان اليهود الأميركيين بنحو 7.5 مليون شخص، وهو ما يمثل 2.4 في المئة من إجمالي سكان الولايات المتحدة. وبحسب الكاتب اليهودي الأميركي توماس فريدمان في مقاله الأسبوعي بصحيفة "نيويورك تايمز" فإن بايدن "اصطدم مباشرة بسياسة نتنياهو الذي يركز على بذل كل ما هو ممكن لتجنب أي عملية سياسية مع الفلسطينيين من شأنها أن تكسر تحالفه السياسي مع اليمين الإسرائيلي المتطرف".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تغطية لوجيستية
رغم كل ما قدمه بايدن من دعم غير مشروط لإسرائيل عقب هجمات "حماس" فإن نتنياهو وفقاً لوسائل إعلام إسرائيلية، يفضل أن يكون ترمب هو الرئيس القادم للولايات المتحدة، لاعتقاده أن ترمب الذي سمح بنقل السفارة الأميركية إلى القدس الشرقية، واعترف بالقدس الموحدة "عاصمة أبدية لإسرائيل"، واعترف بضم الجولان لإسرائيل إبان فترة ولايته الأولى، سيفسح الطريق أمامه لإعادة احتلال قطاع غزة وضم أجزاء واسعة من الضفة الغربية، وتقديم التغطية السياسية واللوجيستية اللازمة لتفكيك ما يعرف بـ"محور المقاومة" الذي شكلته إيران، وإعادة تغيير معادلات القوة في الشرق الأوسط التي يرجح أن يكون من بينها تنفيذ عملة برية تصل إلى بيروت قد تحدث تغييراً استراتيجياً في الوضع داخل لبنان. كيف لا وقد صرح ترمب أخيراً بأن "إسرائيل دولة محدودة المساحة ولا ينبغي أن تظل كذلك إلى الأبد". وفي دراسة لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) صدرت في مارس (آذار) الماضي، بعد مرور أكثر من خمسة أشهر من الحرب الإسرائيلية على غزة، خلص الباحثون إلى أنه في ضوء المشهد الاستراتيجي المتغير وقدرات "حزب الله" المتطورة، فإن هناك خيارين أمام إسرائيل للتعامل مع الجبهة اللبنانية عسكرياً، وهما الانخراط في حرب محدودة للضغط على الحزب وشغله على مدى زمني طويل، أو خوض حرب شاملة ضد الحزب في محاولة من إسرائيل لتدمير قدراته بضربة حاسمة، وفي كلتا الحالتين تسابق الجهات الإقليمية والدولية، التي تخشى تبعات الحرب، الزمن لاحتواء التصعيد قبل أن تصبح المواجهة الشاملة بين الطرفين أمراً واقعاً، وهي مواجهة سيكون لها تداعيات أوسع بكثير من حرب إسرائيل ضد قطاع غزة التي تشارف على دخول عامها الثاني. وبحسب ما نقله موقع "أكسيوس" الأميركي فإن السبب وراء الهجوم الكبير على الضاحية الجنوبية هو أن نصرالله لم يفصل "حزب الله" عن "حماس" في غزة ولم يوقف القتال على الحدود الشمالية منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، لذلك كان القرار هو إبعاده عن صورة صنع القرار.
تعزيز الحرب
وفيما يربط محللون وخبراء بين الجبهتين في غزة ولبنان، وحقيقة أن إسرائيل لا تزال عالقة فيهما، يرى آخرون أن إسرائيل غير قادرة على خوض حرب ضد "حزب الله" يمكن أن تتطور إلى حرب إقليمية تشمل إيران من دون دعم الولايات المتحدة. ففي غزة لم يجر إنهاء القتال لمصلحة إعادة المحتجزين، وفي الشمال هناك 90 ألف نازح من منازلهم منذ نحو عام من دون حل سياسي، بل تتعزز احتمالات الحرب، خصوصاً أن استطلاع الرأي الذي نشرته صحيفة "معاريف" الإسرائيلية قبل أيام يكشف عن أن 57 في المئة من الإسرائيليين يعتقدون أن على إسرائيل مواصلة الحرب على لبنان من خلال الغارات الجوية فقط، فيما اعتبر 24 في المئة أن على إسرائيل شن اجتياح بري في لبنان. وتبين من الاستطلاع أن 69 في المئة من ناخبي أحزاب المعارضة يؤيدون استمرار الغارات الجوية فقط على لبنان، بينما يؤيد ذلك 48 في المئة من ناخبي أحزاب الائتلاف مقابل 38 في المئة من هؤلاء الناخبين الذين يؤيدون اجتياحاً برياً، ويؤيد 48 في المئة من الجمهور في إسرائيل استمرار الحرب على غزة، فيما 42 في المئة يؤيدون وقف الحرب والتوصل إلى اتفاق تبادل أسرى.
ومع بدء العد التنازلي للانتخابات الأميركية، يرى محللون أن أمام الرئيس بايدن فرصة ضعيفة لمواصلة الضغط على رئيس الوزراء الإسرائيلي خلال الأشهر المتبقية له في منصبه، للتركيز على التوصل إلى نهاية لحرب غزة. ويدرك إسرائيليون وعلى رأسهم نتنياهو، أنه في جميع الأحوال لن يخسر شيئاً، فإذا فاز ترمب فسيكون قد ضمن حليفاً أفضل له من هاريس، وإذا فازت الأخيرة فلن تذهب بعيداً من سياسة بايدن في الضغط عليه، خصوصاً وأنه نجح مراراً بالتملص من الضغوط التي مورست عليه خلال الأشهر الأخيرة.