ملخص
قد يبدو مفهوم الانسحاب أو التراجع غير بديهي في خضم الصراع، فقد يظهر على أنه استسلام أو ضعف، إلا أن معرفة متى وكيف يتم الانسحاب يمكن أن يكون الفارق بين النصر والهزيمة.
يعتقد كثيرون أن المنتصر في الحرب هو المهاجم وصاحب السلاح الأقوى والأكثر عدداً من العسكريين أو المسلحين سواء في الجيوش أو التنظيمات المسلحة أو المقاومات التي تشن حروب عصابات. وقد يبدو مفهوم الانسحاب أو التراجع غير بديهي في خضم الصراع، فقد يظهر على أنه استسلام أو ضعف، إلا أن معرفة متى وكيف يتم الانسحاب يمكن أن يكون الفارق بين النصر والهزيمة.
ومنحت الاستراتيجيات الحربية حول العالم وعبر التاريخ التراجع الاستراتيجي أو الانسحاب التكتيكي دوراً حاسماً في الانتصار، خصوصاً حين تعتمده القيادات العسكرية والسياسية من أجل إعادة التجمع والتنظيم والتموين والتخطيط للعودة إلى المعركة بصورة أقوى ما يسهم في تجنب الهزيمة أولاً ومن ثم تحقيق النصر. وقد تستخدم استراتيجية التراجع من أجل إيهام العدو في إطار خطة متكاملة توقعه في فخ عسكري مجهز.
من الفوائد الرئيسة للانسحاب التكتيكي أنه يسمح للقوة العسكرية بالحفاظ على مواردها وقوتها البشرية ومنع أو وقف الخسائر غير الضرورية والحفاظ على الذخيرة والإمدادات للمواجهات المستقبلية. ويوفر الانسحاب التكتيكي فرصة للقوة العسكرية لإعادة تقييم موقفها وإجراء التعديلات اللازمة على تكتيكاتها واستراتيجيتها، ودرس تحركات العدو ونقاط قوته وضعفه، وصياغة خطة هجوم جديدة تستغل أي نقاط ضعف تم اكتشافها أثناء الانسحاب، أو كتكتيك مخادع لإشعار العدو بأمان زائف من خلال الظهور بمظهر المنسحب، ثم جره إلى فخ أو كمين. وهذا ما قد يؤدي إلى قلب الطاولة واستعادة المبادرة في المعركة.
فوائد الانسحاب التكتيكي
يمكن استخدام الانسحاب التكتيكي لكسب الوقت لوصول التعزيزات، وتأخير تقدم العدو ومنعه من كسب الأرض، أو لكسب الوقت من أجل شن هجوم مضاد مفاجئ عندما لا يتوقعه العدو. وعلى رغم كل هذه المميزات والفوائد إلا أنه غالباً ما يُنظر إلى الانسحاب على أنه علامة ضعف في الحرب، وقد وضعت الاستراتيجيات العسكرية عبر التاريخ مواقف ومناسبات عدة يكون الانسحاب التكتيكي فيها ضرورياً. أحد السيناريوهات الشائعة هو عندما يتفوق العدو على القوة العسكرية في العدد أو التسليح، في مثل هذه الحالات، يمكن أن يساعد الانسحاب في منع الخسائر الفادحة، وهناك حالة خوف القوة العسكرية من أن تتم محاصرتها من قبل العدو، فيساعد الانسحاب الاستراتيجي في منع قطع القوة عن خطوط إمدادها وضمان قدرتها على القتال في يوم آخر. ويصح الانسحاب التكتيكي عند مواجهة تضاريس صعبة أو ظروف جوية غير مواتية للحفاظ على صحة ومعنويات القوات، ومنع الخسائر غير الضرورية.
ولا يصح الانسحاب الاستراتيجي من دون خطة هدف واضح، سواء كان الأمر يتعلق بإعادة التجمع أو إعادة التسليح أو كسب الوقت، على أن يتضمن الهدف والتخطيط تحديد طرق بديلة للهروب، أو إنشاء دفاعات لتغطية الانسحاب، أو تعيين مهام محددة لوحدات مختلفة داخل القوة. ومن المهم إبقاء جميع القوات على اطلاع بخطة الانسحاب والتأكد من أن الجميع يعمل على الوتيرة ذاتها وللهدف ذاته، لأن مجموعة صغيرة لا تعلم بخطة الانسحاب يمكنها أن تفسدها كلها، فالتواصل الواضح يمنع الارتباك والفوضى أثناء الانسحاب. والانسحاب يجب ألا يكون متأخراً جداً وإلا فشل فأدى إلى نتائج عكسية ويجب ألا يكون مبكراً جداً بحيث يبدو كعلامة ضعف. معرفة متى يجب الانسحاب يتطلب فهماً جيداً لساحة المعركة وقدرات كل من قواتك والعدو. ولهذا فإنه من خلال تحديد الأهداف الواضحة ووضع خطة مدروسة جيداً والاتصال الجيد والتوقيت المثالي، يمكن أن يكون الانسحاب الاستراتيجي أداة قوية في ترسانة أي جيش أو قوة عسكرية مقاتلة.
الانسحاب الاستراتيجي في غزة ولبنان
اختلفت ردود الفعل الإيرانية فور اغتيال إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" بعد مرور أكثر من أسبوعين على اغتياله. فعقب الاغتيال، أعلن المرشد الأعلى آية الله خامنئي والرئيس مسعود بزشكيان وقادة الحرس الثوري أنهم سينتقمون من إسرائيل، التي حمّلوها مسؤولية الاغتيال. ورفع العلم الأحمر الذي يرمز إلى الانتقام على قبة مسجد جمكران في مدينة قم الدينية.
إلا أن حدة التصريحات الإيرانية حول الانتقام والرد خفتت بعدما تلقت رسائل سياسية من الولايات المتحدة وبعد دعوة قطر ومصر والولايات المتحدة إلى استئناف محادثات وقف إطلاق النار.
سياسة "الصبر الاستراتيجي" كما سمتها إيران، كانت قد اتبعتها بعد مقتل قاسم سليماني في هجوم أميركي بالعراق، واغتيال محسن فخري زاده في طهران، ثم أثناء تدمير إسرائيل قطاع غزة أمام كاميرات العالم، والآن بعد خوض "حزب الله" معركة إسناد غزة لتتحول إلى معركة إسرائيلية كاملة المواصفات على لبنان. وفي كل هذه الحالات التي كان الجميع يتوقع تدخل الحكومة الإيرانية بجيشها وفروعه الكثيرة، من الحرس الثوري إلى فيلق القدس، لمساندة الحلفاء عند حدود إسرائيل، قامت إيران بممارسة الصبر الاستراتيجي أو الانسحاب التكتيكي بسبب علم القادة العسكريين الإيرانيين بحسب محللين سياسيين، أن موازين المعركة ليست في مصلحتهم، وأن الظروف السياسية والعسكرية العالمية لا تدعم مشروعها في المنطقة وبالتالي فإن نظامها في طهران نفسه سيكون مهدداً من قبل أعدائها وعلى رأسهم إسرائيل وحليفتها المتينة الولايات المتحدة. هذه التحديات دفعت الإيرانيين إلى التراجع التكتيكي أمام دهشة حلفائها أولاً ومن ثم المراقبين جميعاً حول العالم، خصوصاً وأن الثمن المادي والمعنوي الذي يدفعه هؤلاء الحلفاء سواء كانت "حماس" في غزة أو "حزب الله" في لبنان أو "الحوثيين" في اليمن، كبير جداً في الأرواح والأموال والدعم الذي تلقاه من البيئة التي تعاني قسوة الحرب الفادحة. إلا أن الخطاب السياسي الإيراني الذي عبر عنه بزشكيان في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل أيام، وكذلك الفعل الميداني الواقعي يدلان على عكس ذلك. وما يسميه الإيرانيون "الصبر الاستراتيجي" هو في الحقيقي ما تسميه الخطط العسكرية والأكاديمية بالانسحاب أو "التراجع التكتيكي" الذي قد يحوله القادة العسكريون المهرة والتكتيكيون لمصلحتهم في كثير من الأحيان.
وكان التعلم من النكسات في الحرب جانباً بالغ الأهمية لتحويل الانسحاب إلى فرصة قيمة لمراجعة الحسابات بالنسبة للقوات العسكرية. إن تحليل الأسباب وراء الانسحاب، مثل الأخطاء الاستراتيجية أو قوة العدو الساحقة، يسمح للقادة بتقييم قراراتهم وتكييف تكتيكاتهم مع المواجهات المستقبلية، وتحديد نقاط الضعف في خططهم، وصقل تفكيرهم الاستراتيجي. وتوفر الانسحابات المرونة والقدرة على التكيف وأهمية الحفاظ على الروح المعنوية في المواقف الصعبة. ويساعد توثيق ونشر الأفكار المكتسبة من الانسحاب التكتيكي في توسيع قاعدة المعرفة داخل المجتمع العسكري. ويعتبر الاعتراف بالتكلفة النفسية للانسحاب أمراً حيوياً لضمان استعداد العسكريين من أجل الحفاظ على الروح المعنوية والوحدة والانضباط وسط الضغوط الناجمة عن الانسحاب وعلى جاهزية القتال وتماسكه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الانسحاب التكتيتي عبر تاريخ الحروب
تم استخدام الانسحابات التكتيكية عبر التاريخ من قبل بعض أعظم العقول العسكرية. من الإغريق القدماء إلى الجنرالات المعاصرين، كانت القدرة على الانسحاب الاستراتيجي وإعادة التجمع عنصراً رئيساً في الحملات العسكرية الناجحة، من خلال الانسحاب من موقف لم يعد مفيداً أو قابلاً للاستمرار.
أشهر الأمثلة على الانسحاب التكتيكي في التاريخ العسكري هو معركة دنكيرك خلال الحرب العالمية الثانية. في مايو (أيار) 1940، عندما اقتربت القوات الألمانية من قوات الحلفاء المحاصرة على شواطئ دنكيرك، أمر رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل بإخلاء كامل. وعلى رغم الموقف الخطير، تمكنت البحرية البريطانية، جنباً إلى جنب مع أسطول من القوارب المدنية، من إنقاذ أكثر من 300 ألف جندي، وتحويل كارثة محتملة إلى نصر استراتيجي.
تشكل المناورة الاستراتيجية المتمثلة بـ"الانسحاب التكتيكي" مناورة للتوازن بين الحفاظ على القوات والتنازل عن الأرض في مواجهة معارضة هائلة من الجمهور أو من قادة عسكريين في المؤسسة ذاتها. هذا الأمر شغل القيادات العسكرية الكبرى منذ فجر الحروب التاريخية. ففي خلال الحروب البونيقية عام 216 ق.م بين قرطاج وروما، قاد القائد القرطاجي هنيبال جيشه في مواجهة الجيش الروماني نحو التراجع الوهمي، فجعل جناحي الجيش القرطاجي يتراجعان بشكل متعمد ليغري الجيش الروماني بالتقدم نحو المركز، مما أدى إلى اندفاع الرومان في تشكيل ضيق وغير منظم، ما سمح لقوات هنيبال بسحق الجيش الروماني في واحدة من أكبر الانتصارات التكتيكية في التاريخ.
في معركة شهيرة أخرى وخلال الغزو الفارسي لليونان قاد الملك ليونيداس من إسبرطة قوة صغيرة من الجنود للدفاع عن ممر ترموبيل ضد جيش فارسي ضخم. في اللحظات الأخيرة من المعركة، وبعد علم ليونيداس بأن الفرس التفوا حولهم، أمر بإخلاء معظم الجيش اليوناني بينما بقي هو و300 من المحاربين الإسبرطيين للدفاع حتى الموت. ما منح فرصة للجيش اليوناني للتراجع المنظم من أجل الاستعداد لمعارك لاحقة، وأسهم في تعزيز الروح المعنوية والمقاومة اليونانية ضد الفرس.
وفي بداية حملة الإسكندر الكبرى ضد الإمبراطورية الفارسية، واجه جيشه قوات فارسية كبيرة على ضفاف نهر جرانكوس، لذا قام الإسكندر بتوجيه جزء من قواته للقيام بتراجع متعمد لإغراء الفرس بالهجوم على الجناح، فشن الإسكندر هجوماً مفاجئاً على مركز الجيش الفارسي، فحقق الإسكندر نصراً ساحقاً في المعركة، مما فتح له الطريق للتقدم أكثر نحو قلب الإمبراطورية الفارسية.
وتكرر الاعتماد على الانسحاب الاستراتيجي في الحروب الحديثة، فحين غزا نابليون بونابرت روسيا عام 1812، وكان يخطط للسيطرة على موسكو، قرر الجيش الروسي التراجع بدلاً من خوض معارك مدمرة مباشرة مع قوات نابليون، ثم قام الروس بعملية "الأرض المحروقة" أثناء تراجعهم، ما ترك الجيش الفرنسي من دون موارد طبيعية خلال تقدمه. هذا التكتيك أدى إلى إضعاف جيش نابليون الذي واجه برد الشتاء الروسي القاسي وقلة الإمدادات، مما أدى إلى تدمير جزء كبير من الجيش الفرنسي خلال الانسحاب.
في الحرب العالمية الثانية وبعد معركة ستالينغراد، بدأ الجيش الألماني في التراجع على طول الجبهة الشرقية، وتم تنفيذ انسحاب منظم بهدف إعادة تشكيل الدفاعات الألمانية والانسحاب إلى مواقع أكثر أماناً، ما سمح بتفادي مذبحة كبرى كان يمكن للجيش السوفياتي أن يرتكبها بالجيش الألماني.
ويمكن للميليشيات المسلحة أن تقوم بالتراجع التكتيكي على أكمل وجه نظراً لحرية التحرك النسبي الذي تملكه مقارنة بالجيوش الكبرى ومعداتها الثقيلة وخططها التي تحدد حركتها. فعندما غزا السوفيات أفغانستان، اتبعت المقاومة الأفغانية تكتيكات حرب العصابات لمواجهة القوات السوفياتية الكبيرة، فكانت تتراجع باستمرار من المناطق التي لا يمكن الدفاع عنها وتعيد تنظيم صفوفها في الجبال أو المناطق الريفية قبل شن هجمات جديدة، هذا التراجع التكتيكي المستمر أسهم في استنزاف القوات السوفياتية ودفعها إلى الانسحاب في النهاية من أفغانستان.