ملخص
دورينمات الذي عرف كاتباً مسرحياً وقصاصاً وروائياً، والذي عادت السينما لاقتباس نصوصه، كان رساماً أيضاً، ويبدو أن مسرحية "فرانك الخامس" قبل أن تنسى تماماً وتوضع على الرف لأسباب تظل "غامضة"، قد أوحت إليه بلوحة ضخمة عنوانها "الاجتماع الأخير للجمعية العمومية"، وحققت شهرة كبيرة حين عرضت وطبعت في منسوخات دخلت بيوتاً كثيرة.
في عام 1959 كان الوقت أبكر من أن يتيح للأدب، والمسرحي منه على وجه الخصوص، أن يدنو من موضوع بات اليوم الشغل الشاغل لعديد من المجتمعات: موضوع المؤامرات التي تحاك في عالم المال والأعمال. فتطرق إميل زولا إلى مثل هذه القضايا منذ النصف الأول من القرن الـ19 في بعض أجزاء "آل روغون - ماكار"، لا سيما في الجزء المعنون "المال" كان قد نسي منذ زمن بعيد بفعل أمور كثيرة أكثر إلحاحاً طرأت في القرن الـ20. وخبطة الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت على مكتبه صارخاً في عام 1936 أن "المال المنظم يبدو لي على خطورة الجريمة المنظمة" مرت من دون أن يتنبه إليها لا الجمهور العريض ولا أهل النخبة، ومن تنبه اعتبرها طرفة لا أكثر. ففي تلك الأزمنة لم تكن ثمة برامج تلفزيونية يومية تتتابع فيها مليارات الدولارات وأخبار البورصة وما إلى ذلك.
سويسرا وساعة "الكوكو"
كذلك في عام 1959 كان لا يزال الناس حين يتحدثون عن سويسرا يتفكهون بالطرفة اللئيمة التي أطلقها الكاتب الإنجليزي غراهام غرين بصددها في حوارات فيلم "الرجل الثالث" الذي كتبه مباشرة للسينما وأخرجه كارول ريد من بطولة أورسون ويلز. وفحواها أن 300 سنة من الحكم الديمقراطي في سويسرا لم تنتج سوى ساعة الحائط ذات الطائر الذي يصدح بـ"كوكو... كوكو" عند كل ساعة. لكن الناس بعد ذلك بأعوام قليلة اكتشفوا أن سويسرا عندها مبدعون حقيقيون يكتبون بثلاث لغات وتراث إبداعي عريق وقوي من بين أقطابه اثنان اعتبرا في مقدمة كتاب المسرح والقصة في أوروبا، ولهما اسمان باتا شهيرين: فردريش دورينمات وماكس فريش. ولقد انتشر اسم أولهما، وهو من يهمنا هنا، خلال النصف الأول من ستينيات القرن الـ20 بفضل السينما وتحديداً بفضل فيلم قام ببطولته نجمان من أكثر نجوم العالم شعبية في ذلك الحين إنغريد برغمان وأنتوني كوين. وكان عنوان الفيلم "زيارة السيدة العجوز" وكان اكتشافاً حقيقياً، وفي غمرة ذلك الاكتشاف تبين أن القصة في الأصل مسرحية في غاية القسوة تفضح النوازع البشرية وتكالب المواطنين على الربح بأي ثمن كان.
المسرح "المركانتيلي"
طبعاً لن تستعيد هنا هذه الحكاية لكننا سنشرح السبب الذي يمكننا من الربط بين الفقرتين السابقتين. فإذا كان فيلم "زيارة السيدة العجوز" قد مكن كثراً في العالم من اكتشاف أدب دورينمات وقسوة مواضيعه وفضحه "مركانتيلية" العلاقات البشرية في عصر العولمة، فإنه مكنهم أيضاً من اكتشاف مزيد من أعماله التي غالباً ما تدور في الفلك الأخلاقي نفسه. ومن تلك الأعمال مسرحيته الغنائية المعنونة "فرانك الخامس" التي أنجزت وقدمت، للمرة الأولى، في عام 1959 الآنف الذكر. صحيح أن هذه المسرحية لم تحقق ذلك النجاح الضخم الذي حققه فيلم "زيارة السيدة العجوز" فالسينما غير المسرح طبعاً، لكنها وضعت في التداول صنفاً مسرحياً جديداً هو المسرح "المركانتيلي" الذي يقوم على موضوع المال، سابقاً زمنه بنحو ثلث قرن وأكثر. بل لنقل سابقاً في ذلك شاشات التلفزة التي باتت البورصة وأرقامها الحقيقية لا المتخيلة كما في المسرحية جزءاً من العرض اليومي حيث وبشكل يبدو خارقاً ليوميات المتفرجين، يشهد بشكل مبك ومضحك في الآن عينه، مليارات تنتقل يومياً من جيوب إلى أخرى في ألعاب مصرفية حسبنا أن نطل اليوم على آخر أخبار لبنان، إذ نسيت الحرب العبثية في الجنوب لتقفز إلى الواجهة أخبار الاعتقال المبكي والمضحك، بدوره، الذي أودع في السجن الحاكم السابق للبنك المركزي اللبناني رياض سلامة وسط صراخ المواطنين ساخرين مؤكدين أن ما يحدث إنما هو كـ"حرب الجنوب، مسرحية هزلية!".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
طبعاً هذا الصراخ ليس ما يهمنا هنا ونحن بالكاد نعطي لزاويتنا هذا الحق في الدنو من مثل هذه المواضيع. لكن حديثنا عن فردريش دورينمات ومسرحيته "فرانك الخامس" فرض نفسه. فهذا الكاتب السويسري الذي عاش بين عامي 1921 و1990 والذي أعطى كما يبدو في مسرحيته المبكرة تلك نوعاً من وصية "اقتصادية" في وقت ندر أن فهم أحد ما يريد قوله فيها، سيبدو لنا في نهاية الأمر وكأنه في مسرحيته هذه إنما قدم البرهان القاطع على صحة ما قاله الرئيس روزفلت حين خبط يده على مكتبه غاضباً. ففي "فرانك الخامس" يضعنا الكاتب أمام حكاية عائلة من أثرياء المصرفيين السويسريين هي بالتحديد العائلة التي يسميها آل فرانك ويصورها لنا بصورة كاريكاتيرية جامعة في أخلاقياتها كل ما يمكن للشعب البائس واللئيم أن يسم بها هذه الطبقة بأسرها سواء كان ذلك في سويسرا أو في غيرها.
حكاية ثري متنور
لكن فرانك المعاصر لنا الذي يحمل الرقم خمسة في تراتبية السلالة لا يبدو كآبائه أو جدوده، إنه ثري متنور يعشق الفلسفة ويقرأ يوهان غوته بشغف، بالتالي لا يقيم وزناً للمال ولا يعرف كم يملك منه. وتكون النتيجة أن تراثه العائلي المادي يهرول تحت إدارته نحو الإفلاس. وهو في مواجهة ذلك الواقع لا يفعل أي شيء، لا يقوم بأي عمليات إنقاذ بل يجر الأمور إلى مزيد من التدهور فرحاً بالنظر إلى أن الإفلاس الكلي سيريحه ويمكنه من أن ينصرف إلى شغفه الفلسفي وتطلعاته الإبداعية إذ لا يخفي أنه إنما يريد أن يعيش في هدوء ودعة في سنوات عمره الأخيرة، لكن هذه الخطة التي رسمها فرانك الخامس بكل دقة، تفشل حيث يتكالب جميع المحيطين به للتصدي لها بدءاً بأقاربه من أبناء السلالة وصولاً إلى معاونيه وأعضاء مجالس الإدارة وحاملي الأسهم وحتى صغار الموظفين والعمال. وها هم يتضافرون حتى لإخفاء السجلات الفضائحية التي قد يكون في الاطلاع عليها كشف للرشى الهائلة التي مكنت ذلك العمل المصرفي الضخم من البقاء والازدهار خلال المراحل السابقة على وصول فرانك الخامس إلى سدة المؤسسة. وأمام ذلك التضامن الصلب الذي يتنطح لمواجهته يزعم فرانك الخامس، ذات لحظة، أنه يحتضر ويموت، ومن هنا تسرع "أرملته" لإقناع رئيس البلاد وهو عشيقها على أي حال، بدفع الدولة للتدخل كي تنقذ البنك مسددة خسائره الضخمة، وذلك في وقت يعلن فيه موظف فاق ضميره وهو على فراش الموت، بأنه سيكشف كل شيء فتكون النتيجة أن يرسل إليه قسيس مزيف ليتلقى اعترافاته ويخفيها قبل تسربها، لكن القسيس يكتشف أن الأكثر أماناً هو قتل ذلك الموظف البائس، وتتتابع الحالات المشابهة إذ يتم التخلص من جميع "أصحاب النفوس الضعيفة" الذين يريدون الاعتراف، بدورهم، وتكون النتيجة أن تنجح العملية وتبقى أسرار البنك في... أمان!
الواقع أقوى
بقي أن نذكر أن دورينمات الذي عرف ككاتب مسرحي وقصاص وروائي والذي عادت السينما لاقتباس نصوصه (لكنها لم تقترب من "فرانك الخامس" لاستحالة الحصول على تمويل لفيلم يقتبسها)، في أفلام لعل أشهرها، بعد "زيارة السيدة العجوز"، فيلم "العهد" الذي عرض في "كان" قبل أعوام من إخراج شون بن، وبطولة جاك نيكلسون، كان رساماً أيضاً، ويبدو أن مسرحية "فرانك الخامس" قبل أن تنسى تماماً وتوضع على الرف لأسباب تظل "غامضة"، قد أوحت إليه بلوحة ضخمة عنوانها "الاجتماع الأخير للجمعية العمومية"، وحققت شهرة كبيرة حين عرضت وطبعت في منسوخات دخلت بيوتاً كثيرة. وفي اللوحة ما يشبه "العشاء الأخير" الذي يجمع مجلس إدارة واحد من البنوك الكبرى وقد أقدموا على الانتحار معاً جنباً إلى جنب مع كبار أصحاب الأسهم في ذلك البنك.
ولئن كان دورينمات قد نبه جمهور مسرحه ولوحته إلى ذلك الواقع "الجديد" في وقت مبكر، لا شك أن ذلك المعلق الظريف على هذا الصنف الإبداعي الجديد الذي كان من مبتكريه الأوائل، يبدو محقاً اليوم حين يقول إن اللجوء إلى كل هذا القدر من الإبداع لفضح الخلفيات الحقيقية للألعاب المصرفية بالتالي المالية ومن ثم السياسية، لم يعد ضرورياً فـ"الواقع في حد ذاته يبدو كافياً، أما دورينمات فيمكننا اعتباره رائداً في هذا المجال، ولكن حتى في تكذيب القول المأثور إنه لا مكان لنبي في وطنه، فمكانته في سويسرا كانت وتبقى محفوظة" ولو أنها باتت من دون فائدة بحسب ما جاء في السطور السابقة.