ملخص
تفتح "اندبندنت عربية" ملف خطف رون أراد وارتباط مصيره بمصير الإيرانيين الأربعة الذين فقدوا في لبنان عام 1982، وتكشف معلومات جديدة من وثائق رفعت وزارة الخارجية البريطانية السرية عنها وتحتوي على مجموعة من البرقيات والتقارير الدبلوماسية السرية المتبادلة بين لندن والبعثات الدبلوماسية البريطانية في بيروت وتل أبيب ودمشق وواشنطن.
كثيرة هي الأحداث التي وقعت في لبنان خلال الحرب الأهلية بين عامي 1975 و1990، من معارك عنيفة وعمليات قتل وخطف وانقسام سياسي وطائفي وجغرافي واجتماعي، بعضه لا يزال قائماً حتى اليوم. كذلك لم تكن أحداث هذه الحرب، التي أودت بحياة أكثر من 100 ألف شخص وأصيب خلالها عشرات الآلاف آخرين، يوماً مختصرة على اللبنانيين فقط، عسكرياً على الأرض أو في السياسة وكواليس صنع القرار، بل تشعبت بين أطراف ومجموعات داخلية لبنانية وخارجية ما بين فلسطينيين وسوريين وإيرانيين وحتى إسرائيليين وأميركيين وغيرهم.
وعلى رغم انتهاء الحرب عسكرياً بين عامي 1990 و1991، لكن تبعاتها وبعض ملفاتها بقي عالقاً ومستمراً، كملف المختطفين والمفقودين إن كانوا لبنانيين أو من جنسيات أخرى.
رون أراد مساعد طيار إسرائيلي تكررت قصته كثيراً في الإعلام بعد سقوط طائرته الحربية في لبنان عام 1986 واختطافه من قبل مجموعة مسلحة، قبل أن تنقطع أخباره ومعها مصيره الذي لا يزال مجهولاً حتى اليوم.
تفتح "اندبندنت عربية" هذا الملف وتكشف معلومات جديدة من وثائق رفعت وزارة الخارجية البريطانية السرية عنها وتحتوي على مجموعة من البرقيات والتقارير الدبلوماسية السرية المتبادلة بين لندن والبعثات الدبلوماسية البريطانية في بيروت وتل أبيب ودمشق وواشنطن، تتعلق بقضية أراد وارتباط عملية خطفه ومصيره بمصير أربعة دبلوماسيين إيرانيين عملوا في السفارة الإيرانية في بيروت عام 1982 واختطفوا حينها، قبل أن تؤكد طهران في أبريل (نيسان) عام 2023 مقتلهم جميعاً وتطوي صفحة بقيت لغزاً لأكثر من 40 عاماً.
خطف أراد ومصير الإيرانيين المفقودين
في الجزء الأول من ملف "خطف رون أراد وارتباط مصيره بمصير الإيرانيين المفقودين"، سيتم تسليط الضوء على رحلة البحث عن مصير الإيرانيين الذين فقدوا في لبنان والاتهامات المتبادلة بقتلهم، ضمن الوثائق البريطانية التي تعود لعام 1994 وتحمل رقم التصنيف FCO 93/7761.
شهدت الأيام الأولى لحادثة سقوط الطائرة الحربية الإسرائيلية عام 1986 وعلى متنها رون أراد وثم خطفه، تبايناً في هوية الجهة التي استهدفت الطائرة، فمن ناحية ادعت حركة "أمل"، وهي حركة شيعية مقاتلة، أن عناصرها تمكنوا من إسقاط الطائرة وأسر طيارها، في المقابل نفت منظمة "فتح" الفلسطينية هذا الادعاء وقالت "أسقطنا الطائرة الإسرائيلية. ضربناها بصاروخ، ولكن هبط الطيار بالقرب من خطوط الحركة".
المؤكد في الروايتين أن أراد وقع في الأسر، وفي هذا الإطار تكشف الوثائق البريطانية أنه وبعدما صرح مسؤولو الحركة في 17 أكتوبر (تشرين الأول) في العام نفسه أنهم يحتجزون الطيار الإسرائيلي، وتم نقله إلى بيروت من قبل مصطفى الديراني، القيادي في الحركة، انطلقت مفاوضات مباشرة بين "أمل" وإسرائيل عام 1987 تتركز على اقتراح لتبادل رون أراد بأربعة إيرانيين اختطفوا من جنوب لبنان على يد مجموعة لبنانية بقيادة إيلي حبيقة، لكنها لم تنته بنتائج إيجابية.
جهود كنسية بين لبنان وقبرص وبريطانيا
ضمن الوثائق البريطانية السرية، رسالة أصدرها اللورد نيكولاس بيثيل، وهو عضو البرلمان الأوروبي، بتاريخ 4 مارس (آذار) 1994، إلى رئيس أساقفة كانتربري في الكنيسة البريطانية وفيها معلومات عن الإيرانيين المفقودين في لبنان عام 1982، وكيف أنه أرسل الأسقف جون براون من قبرص لزيارة بيروت عام 1988.
وعن هؤلاء الديبلوماسيين يذكر اللورد بيثيل في رسالته أن أسماءهم هي سيد محسن موسوي وهو القائم بالأعمال في بيروت، أحمد متوسليان من الحرس الثوري وتابع للسفارة الإيرانية في بيروت، كاظم أخوان مصور لدى وكالة الأنباء الإيرانية ومحمد تقي رستجار مقدم وهو سائق في السفارة الإيرانية في بيروت.
ويضيف أنه منذ عام 1987، قامت كل من كنيسة إنجلترا، من خلال رئيس أساقفة كانتربري آنذاك، روبرت رانسي، والمسؤولين الغربيين، بالتحقيق في مصير الإيرانيين المفقودين. وقد سعى رئيس الأساقفة للحصول على معلومات ومساعدة من مجموعة واسعة من جهات الاتصال بالكنيسة بما في ذلك الفاتيكان وزعماء الكنيسة من جميع الطوائف في المنطقة. كما أوفد الأسقف جون براون من قبرص إلى بيروت في عام 1988 كمبعوث شخصي له من أجل مواصلة تحقيقاته، لكنهم لم يصلوا إلى أي معلومة تكشف عن مكان الإيرانيين المفقودين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وما تكشفه هذه الرسالة أن محاولات الكشف عن مكان الإيرانيين لم تقتصر فقط على البريطانيين، بل تعدتها إلى أميركا، وتذكر أنه في 29 مايو (أيار) 1990، أعلنت الحكومة الأميركية أنها بذلت جهداً كبيراً في جمع المعلومات من دول أخرى، ومن المنظمات الدولية، ومن مصادر خاصة، ونقلت هذه المعلومات إلى طهران، وهنا يقول اللورد نيكولاس بيثيل "لقد تم نقل هذه المعلومات إلى الإيرانيين كعمل من أعمال حسن النية، وكبادرة إنسانية، من دون شروط مسبقة".
تراشق الاتهام بقتلهم
في تلك الفترة، أي بين عامي 1986 و1988 وما تلاه، كانت الحرب الأهلية اللبنانية في أوجها وأكثر مراحلها قساوة.
تكشف الوثائق البريطانية كيف أن اتهامات داخلية في حزب القوات اللبنانية، والذي كان مشاركاً بشكل مباشر في الحرب، خرجت إلى العلن في ما يتعلق بقتل الدبلوماسيين الأربعة، فقد اتهم نائب الأمين العام للقوات اللبنانية، كريم بقرادوني، إيلي حبيقة والذي كان في ذلك الوقت رئيساً لجهاز الأمن والاستخبارات في القوات اللبنانية، بإصدار أوامر لتصفية الإيرانيين، كما تشير وثيقة صادرة عن قسم الأبحاث والتحليل الدولي بوزارة الخارجية البريطانية بتاريخ 16 نوفمبر (تشرين الثاني) 1990.
وعلى رغم أن إعلان مقتلهم رسمياً من إيران أتى عام 2023، لكن الاعتقاد بأن الدبلوماسيين الإيرانيين قتلوا كان سائداً منذ زمن.
يكشف هذا الملف السري في بريطانيا كيف أن أكبر هاشمي رفسنجاني، والذي كان حينها رئيس البرلمان الإيراني ولاحقاً رئيس البلاد، أثار ملف المفقودين بداية عام 1987 وطلب الحصول على معلومات بشأنهم، فكان رد البريطانيين بأن أرسل رئيس الأساقفة روبرت رانسي إلى قادة الكنيسة المسيحية في لبنان يطلب منهم النظر في قضية الأربعة المفقودين، فكان الجواب على نطاق واسع بأن الإيرانيين المختطفين قُتلوا على الأرجح.
وتضيف الوثائق "مع ذلك، لم يكن هناك أي دليل أو روايات مباشرة موثوقة تؤكد هذا الأمر. وقد جاءت المعلومات الأوثق من بطريرك الأرمن الأرثوذكس كاريكين، الذي أخبر السفارة البريطانية في بيروت أنه اتصل ببقرادوني، الذي أبلغه أن الأربعة قُتلوا بأوامر من حبيقة. وقد استند بقرادوني في ذلك إلى أنه اطلع على وثيقة تحمل أسماء الأربعة كتب عليها حبيقة "صفوهم" (اقتلوهم) ضمن أوراق أخذت من حبيقة عندما أطاح به (سمير) جعجع (رئيس حزب القوات اللبنانية حالياً) في عام 1986.
وفيما تذكر الرسائل الموجودة في هذا الملف السري أن الفرنسيين والأميركيين حققوا أيضاً في الأمر وتوصلوا إلى نفس النتيجة، تكشف أيضاً أن "العديد من أولئك الذين كانت لديهم معرفة مباشرة بمصير الإيرانيين إما ماتوا أو اختفوا من المشهد... نفت القوات اللبنانية احتجاز الإيرانيين أو أي رهائن آخرين، ومع ذلك أغفل البيان ذكر ما إذا كانت المجموعة قد اختطفتهم في المقام الأول أم لا. من المؤكد أن جعجع يعرف الحقيقة وحبيقة يعرف بالتأكيد. وربما يعرف السوريون أيضاً. إذا كان الإيرانيون يحتاجون حقاً إلى أدلة لتهدئة نفوس أقارب الأشخاص المفقودين، فيجب عليهم أن يسألوا هؤلاء الأشخاص".
"قتلوا عام 1982"
في هذا الملف السري، اطلعت "اندبندنت عربية" على رسالة بعثها اللورد بيثيل إلى السير مايكل بيرتون، في وزارة الخارجية وشؤون الكومنولث، تكشف عن معلومات تلقاها بيثيل شخصياً من مستشار بالسفارة الإسرائيلية في لندن وتؤكد مقتل الإيرانيين الأربعة عام 1982 لكنها تبرئ الإسرائيليين وتتهم الجيش اللبناني بتصفيتهم.
ويقول في رسالته "لقد زودني أحد معارفي في السفارة الإسرائيلية ببعض المعلومات الإضافية عن وفاة الدبلوماسيين الإيرانيين الأربعة في يوليو (تموز) 1982... يقول الإسرائيليون إن الرجال الأربعة اعتقلوا عندما أوقفت سيارتهم عند حاجز على طريق بيروت – طرابلس (شمال لبنان)، وتم نقلهم إلى مقر الاستجواب التابع للجيش اللبناني في بيروت. وقد قتلوا بعد ظهر أو مساء الرابع من يوليو (تموز 1982)، في المقر نفسه. وهناك روايات مختلفة عن مكان دفنهم. ومن المرجح أنهم دفنوا في فناء مبنى المقر، أو في حقل بالقرب من أسوار المبنى.
يتضح من الرسالة أعلاه أن إسرائيل، وعبر كلام مستشار تابع لها في سفارتها بلندن، حاولت التنصل من مسؤولية اغتيال الإيرانيين الأربعة واتهام الجيش اللبناني بذلك، لكن الفقرة الرابعة في وثيقة بريطانية أخرى وهي عبارة عن رسالة تحمل توقيع السيد ج. وارينجتون ومؤرخة بتاريخ 7 أبريل (نيسان) 1994، تنفي مزاعم المستشار الإسرائيلي.
ومما أتى في نص الرسالة "أكدت إدارة الأبحاث أنه لا يوجد شيء جديد في المعلومات التي نقلها المستشار في السفارة الإسرائيلية، إلى اللورد بيثيل. ولكن من الجدير بالذكر أن الدبلوماسيين الإيرانيين قُتلوا على الأرجح في مقر القوات اللبنانية، وليس مقر الجيش اللبناني".
تسليم الرهائن الإيرانيين إلى إسرائيل
وضمن مراسلات السفارة البريطانية في بيروت عام 1994، وثيقة تتضمن ترجمة لتقرير نشر في صحيفة "إرنا" الإيرانية ويتحدث عن تسليم الإيرانيين الأربعة لإسرائيل.
إيلي حبيقة، والذي كان وزيراً للموارد المائية والكهربائية بعد انتهاء الحرب، قالت مصادر مقربة منه للصحيفة الإيرانية إن الإيرانيين على قيد الحياة وتم تسليمهم، بعد اختطافهم على يد القوات اللبنانية، عن طريق البحر لإسرائيل من قبل عناصر تابعة لسمير جعجع.
وتنفي القوات اللبنانية المزاعم التي تتحدث عن وقوفها وراء اختطاف الديبلوماسيين الإيرانيين أو قتلهم.
اختطاف مصطفى الديراني
وبالعودة إلى محاولات إسرائيل الوصول إلى معلومات عن الطيار رون أراد، تستعرض البرقية المرسلة من السفارة البريطانية في تل أبيب إلى وزارة الخارجية البريطانية في لندن، بتاريخ 23 مايو 1994 تفاصيل اختطاف قيادي في حركة "أمل" يدعى مصطفى الديراني من جنوب لبنان عبر وحدة خاصة إسرائيلية، سعياً للحصول على معلومات مفيدة عن مصير أراد.
كما تتضمن البرقية تحليلاً مقتضباً للأحداث في تلك الحقبة وتناقش تداعيات العملية الإسرائيلية "المتهورة"، كما وصفتها البرقية، على مجريات محادثات السلام في الشرق الأوسط، لا سيما المسار السوري- الإسرائيلي.
ومما جاء في نص البرقية "اختطفت وحدة كوماندوس تابعة للجيش الإسرائيلي محمولة بطائرة هليكوبتر مصطفى الديراني... من منزله في وادي البقاع في لبنان... انتقل الكوماندوس إلى منزله، حيث قاموا بتقييد أفراد عائلته، وبحثوا عن وثائق ومواد أخرى ثم غادروا مع الديراني".
وفي حديثه في مؤتمر صحافي يوم 21 مايو (أيار)، قال (إسحق) رابين (وزير الدفاع الإسرائيلي حينها) إن الهدف من العملية كان الحصول على معلومات حول مكان وجود الطيار الإسرائيلي وليس استخدام الديراني كورقة مساومة في المفاوضات من أجل إطلاق سراح أراد، فيما أبلغ رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية الصحافة أن الديراني ووثائقه قدمت بالفعل معلومات مفيدة.
الصحافي الإسرائيلي رونين بيرغمان، كان وصف في كتابه "انهض واقتل أولاً"، عملية البحث عن أراد بأنها "أكبر عملية إنقاذ في تاريخ إسرائيل"، فيما قال مسؤول في "الموساد" إن عملية البحث عن أراد كانت "أكبر عملية بحث في التاريخ الحديث... لم يكن هناك حجر لم نقلبه، ولا مورد لم نستخدمه، ولا رشوة لم ندفعها".