ملخص
تغلب على بنية رواية الكاتب المصري أسامة حبشي "موسم الفراشات الحزين" ما يمكن أن نسميه ثيمة التحولات فيتحول السارد إلى طائر يصرخ في الفضاء ثم فجأة يتحول إلى "كلب" وأخيراً يتحول إلى سلحفاة
لا شك أن موضوعة أي عمل إبداعي ذات تأثير واضح في موقفنا منها سلباً أو إيجاباً، وبهذا الاعتبار ستظل مأساة فلسطين من أهم الموضوعات السردية في الرواية الفلسطينية التي كتبها عديد من أمثال غسان كنفاني ويحيى يخلف وإميل حبيبي وغيرهم، وهذا ما سنجده – كذلك – في الرواية المصرية والعربية عامة. ومن أحدث الروايات التي عالجت هذه القضية رواية "موسم الفراشات الحزين" (دار صفصافة) للكاتب المصري أسامة حبشي. والرواية مسرودة على لسان طفل يستمر في السرد إلى أن يتخطى عمره الأربعين سنة. يبدأ السرد الذي يبدو وكأنه آت من العالم الآخر، بما أنه ينتهي بموت السارد ووصفه لحاله وهو يلفظ أنفاسه الأخير، بعد إطلاق الرصاص عليه خلال انتفاضة الحجارة، هكذا "كان جدي يجلس هناك في مواجهة البعيد، من ورائه المخيم، ومن أمامه الغياب، ينظر وحيداً باتجاه وطن كان لنا".
إن ثيمة الغياب والفقد هي الثيمة المهيمنة التي تبدو في هذا الشاهد وعلى مدار الرواية. وبقليل من التأمل سندرك أن طرفي هذه الرواية الفاعلين هما هذا الحفيد الذي سيكبر ويزداد وعيه مع تطور الأحداث عقب نكبة 1948، وجده الذي ظل متمسكاً بأمل العودة إلى قريته التي هجر منها عنوة، بينما كان أبو السارد أقرب إلى التأقلم مع الواقع الجديد مما جعل الجد الشخصية المحورية المؤثرة في هذا الحفيد، فمنه تعلم حب الفراشات والورد واستمد منه الأمل في عودة ما ضاع يوماً ما. وكان هذا الجد – الشيخ ياسين – يرعى إحدى الفراشات المريضة كأنها طفلته ويضمها في حجره خشية طيرانها.
الجمال والقبح
وللفراشات هنا وللورود كذلك دلالة رمزية على الحياة الوديعة التي لا تعرف الحروب والعنصرية الدينية. إنها رمز الجمال في مواجهة القبح. وهذه هي مفارقة الرواية الأساس التي يمكن تسميتها بصراع "البندقية والوردة"، أو ثنائية "البندقية والفراشة" التي تستدعي على نحو غير مباشر كتاب "أثر الفراشة" لمحمود درويش الذي يهديه حبشي هذه الرواية. نحن إذاً أمام حياتين، حياة شبيهة بالغياب في الحاضر وغموض المستقبل وحياة كانت مليئة بالحب والتآلف في الماضي القريب قبل قيام إسرائيل.
هذا الحب والتآلف كان يعيش فيه الجميع على اختلاف أديانهم، فقد كان الشيخ ياسين صديقاً لأبراهام اليهودي والسارد عاشقاً لسارة حفيدة أبراهام. لكن – مع بداية نشأة الكيان – يتغير كل شيء فينحاز والد سارة لإحدى المنظمات الإرهابية التي تقترف جريمة إبادة الفلسطينيين، مما أهله – بعد أعوام – أن يكون رئيساً للحكومة. هذا التغير يستدعي رواية "أحمد وداود" لفتحي غانم التي قامت على هذا التحول الفادح. ويصور سارد "موسم الفراشات الحزين" علاقته بسارة بقوله "كنت وسارة كالتين والزيتون، يجاور بعضنا بعضاً ولكن كلاً منا يثمر على حدة، أي على طريقته الخاصة". ويصور علاقته بمدرسه اليهودي الذي حكى لهم قصة "جاك السفاح" الذي أصيب بسبب عاهرة بمرض خطر فقرر قتل النساء بطريقة بشعة. وهي حكاية لا يسوقها الكاتب اعتباطاً لأنه سيقوم بتوظيفها حين يشبه الذين ارتكبوا المجازر بحق الفلسطينيين بذلك السفاح، والمفارقة أنهم يقترفون ذلك من دون أن يرتكب الفلسطينيون ذنباً كما في الحكاية القديمة.
آفاق للحلم
ووظف الحكاية التي روتها أم مريم الفلسطينية العجوز وهي حكاية "قمر الزمان وبدور"، ذلك الثنائي الذي يملك كل الجمال والجاه ولكن كلاً منهما لا يرغب في الزواج، وهو ما ينطبق على السارد وسارة بعد أن أرسلها أبوها إلى أميركا لدراسة السينما، بل يرى أن أي "فقد" هو شبيه بهذه الحكاية فالدليل الذي ذهب مع الجد وأسرته في رحلة العودة إلى القرية يشبه أم السارد مع ذراعها المفقودة بشخصية بدور مع قمر الزمان، فكلا الأمرين " فقد" و"غياب". ويمكن القول إن ابتعاد الجد من قريته يأتي في هذا السياق، لكن الجد يقاوم مصيره ويعود إلى قريته ويموت على ترابها بعد رحلة يمكن وصفها برحلة العذاب إذ لم يروا في الأفق غير القتل والدمار. وعلى رغم ذلك يفتح السارد آفاقاً للحلم حين يعبر عن تمسك الفلسطينيين بمفاتيح بيوتهم على أمل العودة إليها. وتسوق المصادفات الرجل القصير البدين زوج اليهودية إلى حديقة الورد فيترك للسارد بيته ومحله في القدس مقابل أن يقيم وزوجته بين الورد، بعد أن توفي زارع الورد. إننا أمام شخصيات محبة للسلام في مقابل من يمارسون القتل يومياً إذ يرى السارد جثثاً تنقصها أجزاء، حتى خيل له أنه يرى هاملت وشبح أبيه ينتقل من جثة إلى أخرى.
شخصيات معوقة
وهو ما يتوازى مع ثيمة العاهة التي طاولت كل الشخصيات. فالسارد كانت له ساق أكبر من الأخرى، وأمه كانت وحيدة الذراع، وصاحب الورد بساق واحدة، وحتى الأصحاء جسدياً كانوا معوقين عقلياً، مثل والد السارد الذي كان يهجر أسرته لفترات طويلة من دون أن يعرف أحد مكانه. واللافت أن السارد يتحدث عن بريق هذه الأجزاء المحذوفة أو بريق الحلم بها، إن المحذوف يؤكد الأمل والإرادة ومن هنا يأتي بريقه. وغلبت هذه العاهات على أسماء الشخصيات الصريحة فاكتفى السارد بذكر هذه العاهات وصفاتها فيقول "الرجل ذو الساق الواحدة" و"الرجل القصير البدين". وحين يذكر أسماء بعض الشخصيات فيكون ذلك بصورة عابرة ولمرة واحدة إذ يهمه سرد تطور الأحداث. وبعد انتقال أسرة السارد – لفترة – إلى قرية سارة ينضم السارد إلى الحزب الشيوعي ويمارس الكتابة في جريدته. لكن ما كتبه من مقالات خاصة مقالته عن ثورة 1936 الفلسطينية كانت سبباً في اعتقاله.
الجد والبئر
وإذا كان السارد توقف سابقاً أمام حب جده للفراشات رمز الجمال والوداعة، فقد صور أيضاً علاقة هذا الجد بالبئر التي ترمز للخير والخضرة والنماء حين يقول "كنت أذهب إلى مدرستي وأرى الزيتون صباح مساء وجدي كان والبئر شيئاً واحداً". في وقت يصور فيه علاقة الفلسطينيين جميعاً بالحجر الذي به يبنون منازلهم وبه يحلمون ويشمون رائحة الخبز ورائحة أبنائهم. ويوظف رمزية القمر الذي ينير سماء الجميع على اختلاف أديانهم ويتعجب من ذلك القتل الذي يمارسه الإرهابيون الصهاينة. ويقول مصوراً ذلك "كيف يكون هنا القتل والأشخاص على مختلف الديانات يغدون ويأتون بلا توقف؟ كيف يكون القتل هنا والقمر يحرس أبواب مدينة الله وأزقتها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الفردوس المفقود
هذا القتل يصوره في بعض المشاهد بصورة فانتازية تتوازى مع عبثيته التي تفتقد المنطق، إنهم يقتلون البشر ويدمرون الحجر. عندما رأى الجد تدمير القرية التي رجعوا إليها سقط مغشياً عليه، وسجد الأب أرضاً وبدأ يلطم خديه ورمت الأم الصرتين وبدأت تجري وتولول بصوت عال على رغم تحذير الدليل لها، حتى لا ينكشف أمرهم. وعلى رغم هذه المآسي يظل هناك المكان الذي يقاوم هذا القبح بجمال الورد التي لاحظ السارد أنها تكتب بتوزعها داخل الحديقة عبارة "وطن صغير". ويتساءل السارد "أيمكن أن يكتب وطن بورد في بلاد الحرب وفي جزء يكاد يكون منسياً هنا؟". وتظل مدينة الله – القدس – شبيهة بالفردوس المفقود فهي "مدينة تصلح لألف دين وألف ملة إن أرادوا أن يعيشوا بها فقط وليس أن يقتتلوا".
وتغلب على بنية الرواية ما يمكن أن نسميه ثيمة التحولات فيتحول السارد – في أحد المشاهد التي تصور القتل – إلى طائر يصرخ في الفضاء ثم فجأة يتحول إلى "كلب"، وأخيراً يتحول إلى سلحفاة. ويرى أبراهام في الحلم وقد تحول إلى ثعبان. وينطبق الأمر نفسه على الطبيعة إذ يتحول البحر إلى صحراء ثم تتحول الصحراء بدورها إلى منزل. وأخيراً يمكننا القول إن أسامة حبشي عالج إحدى القضايا المحورية من دون مباشرة بل بأسلوب شاعري لا نجده في عدد من الروايات التي تناولت المأساة الفلسطينية.