ملخص
يعاني لبنان من عدم تطبيق القوانين مما يؤثر في فعالية المؤسسات وسيادة الدولة، وذلك لأسباب متعددة منها الأزمات السياسية وتأثير القوى الداخلية والخارجية، واستنسابية التشريع في البرلمان. كذلك تعاني القوانين اللبنانية من عدم مواكبة الحداثة مما يعوق فعاليتها، فيما بعض القوانين، مثل قانون الجمعيات، لا تزال من العهد العثماني.
أناط الدستور اللبناني مهمة تشريع القوانين وتعديلها بالسلطة التشريعية أي مجلس النواب، والذي يخضع للمحاسبة الشعبية من خلال انتخابات عامة تجرى كل أربع سنوات، في حين أكدت المادتان 65 و66 من الدستور اللبناني على أنه من واجب الحكومة السهر على تنفيذ القوانين والأنظمة.
وعلى رغم وضوح النصوص الدستورية لناحية دور البرلمان في تشريع القوانين ومجلس الوزراء بتنفيذها ودور السلطات القضائية بالمحاسبة، إلا أن أحد أبرز مكامن الضعف في لبنان هو عدم تطبيق القوانين، الأمر الذي له انعكاسات خطيرة على فعالية المؤسسات وسيادة الدولة على جميع أراضيها.
القوانين كثيرة وكذلك الأزمات
تتنوع التفسيرات حول أسباب الفشل في تطبيق القوانين التي تبقى في كثير من الأوقات مجرد حبر على ورق غير قابلة للتطبيق، إذ يرى البعض أن الأزمات السياسية وانتماء بعض الأحزاب لدول إقليمية فرض أمر واقع في الداخل أقوى من قدرة الدولة ومؤسساتها على مواجهته، بالتالي بات القانون خاضعاً لاستنسابية ومصلحة قوى الأمر الواقع في كثير من المناطق، ومنها مثلاً فوضى امتلاك السلاح والبناء العشوائي والتهريب وغيره.
في حين يحمل البعض الآخر إدارة المجلس النيابي المسؤولية من خلال التحكم باقتراحات ومشاريع القوانين وتحويلها على الهيئة العامة باستنسابية الأمر الذي يؤدي الى تشريع قوانين لا تحاكي الواقع وتواجه صعوبة ومعارضة شرسة ما يجهض إمكانية تنفيذها، ومنها مثلاً قوانين الموازنة العامة التي تم تعليق العديد من بنودها على رغم إقرارها، وكذلك تأتي نتائجها بفارق 60 في المئة عن جدواها المالية على رغم إقرارها بمعظم الحالات في أواخر العام المالي، ما يعطي انطباعاً أن تشريعها ليس سوى تشريع لما يلزم.
بينما يرى بعض الخبراء في الدستور أن النظام اللبناني يعاني من خلل في العلاقة بين السلطات الثلاث، فعملياً الفصل بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية غير موجود، إذ في كثير من الأوقات كانت الحكومات نموذجاً مصغراً عن البرلمان الأمر الذي يعطي للحكومة هامش تجاوز القوانين طالما هي بمنأى عن المحاسبة البرلمانية.
مواكبة الحداثة
ويؤخذ على القوانين اللبنانية أنها بمعظمها شرعت في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، فيما أدخلت تعديلات جوهرية على الدستور اللبناني بعد اتفاق الطائف عام 1990، وتبعتها حزمة تشريعات كبيرة لتنظيم وتسيير شؤون الدولة في مسيرة النهوض بعد الحرب الأهلية التي دامت 15 سنة تقريباً.
إلا أن التشريعات لم تشمل جميع الجوانب الاقتصادية والقانونية والاجتماعية في البلاد، ولم تواكب التشريعات التطور والثورة الرقمية التي يشهدها العالم، ما جعل القوانين اللبنانية بنسبة كبيرة متخلفة عن المستوى العالمي، ولا سيما أن الـ20 سنة الماضية شهدت تعطيلاً كبيراً لدور المجلس النيابي في التشريع، فالمجالس النيابية شهدت ما يقارب 25 في المئة من مدتها فراغاً رئاسياً ما يعيق دورها التشريعي كونها تصبح هيئة عامة لانتخاب رئيس للبلاد.
الاجتهادات الدستورية
يعتبر الباحث في القانون الدستوري البروفسور أنطوان مسرة، أن إحدى أبرز معضلات القوانين في لبنان هي استخدام التشريعات لتحقيق مآرب سياسية على قياس أشخاص أو فئات، وصولاً إلى ضرب القواعد الحقوقية الدنيا، تمهيداً لبناء مجتمع آخر في لبنان تغيب فيه البوصلة كلياً.
واختصر مسرة الواقع في مشهد لمسرحية الأخوين "رحباني"، حيث يتكئ المسؤول على مجموعة من كتب القانون ويصدر أحكاماً جائرة "استناداً إلى القانون"، لافتاً إلى أن "القوانين باتت وجهة نظر حيث الاجتهادات الدستورية تفصل على قياسات السياسيين".
ورأى أن "عورات" التشريع في لبنان تبرز عبر تسخير القرار الإداري والقانوني لخدمة الموقف السياسي، إضافة إلى عدم اضطلاع السلطة التشريعية بأدوارها الرقابية والتشريعية، وتركيز النواب على المواقف الشعبية التي تسهم في رفع شعبيتهم لدى الرأي العام.
الأزمات السياسية
ويوضح المحامي الأستاذ المحاضر في القانون الدولي أنطوان صفير، أن الدستور هو القانون الأسمى الذي يحدد شكل الدولة وصلاحيات السلطات الدستورية، لذلك يراعي المشرعون أثناء سن القوانين الأوضاع العامة للدولة، إضافة إلى حاجات ومتطلبات المواطنين، لافتاً إلى أن التطور يستدعي دائماً إجراء تعديلات تراعي معايير الحداثة في المجتمع وتحفظ حقوق الإنسان فيه.
وأشار إلى أن الحياة الدستورية في لبنان كانت صاخبة قبل الحرب الأهلية، حيث كانت هناك مجموعة مشرعين لبنانيين ممن شُهد لهم بالكفاءة، مشيراً إلى أنه خلال الحرب تراجع التشريع وبات لبنان بحاجة إلى عشرات القوانين الجديدة، وعشرات التعديلات القانونية، كي يصبح القانون قادراً على معالجة المقتضيات على مختلف الصعد الاقتصادية والاجتماعية والتربوية.
ورأى أنه في المرحلة الحديثة بات المجلس النيابي يفتقر إلى النواب المشرعين حيث بات أكثريتهم بعيدين من العلوم الدستورية والقانونية، الأمر الذي أدى إلى ظهور الكثير من الثغرات في القوانين ما يجعل تنفيذها صعباً في كثير من الحالات، كذلك الأزمات السياسية التي تمر بها البلاد تؤدي إلى توقف المجلس النيابي عن التشريع في كثير من القضايا الأساسية والملحة التي يحتاجها المواطن.
المجلس الدستوري
وبرأي مؤسس المركز العربي لحكم القانون وسيم الخوري حرب، تكمن إحدى أبرز المعوقات بتطبيق القوانين المشرعة بروحيتها بسبب تجاوز صلاحيات المجلس الدستوري لناحية تفسير النصوص الدستورية والقانونية وحصرها بمجلس النواب الذي يتألف من قوى سياسية تسعى لتفسير النصوص بما يناسبها.
وكشف أن وثيقة الوفاق الوطني تحت عنوان "إصلاحات أخرى" أكدت على إنشاء المجلس الدستوري لتفسير الدستور ومراقبة دستورية القوانين والبت في النزاعات والطعون الناشئة عن الانتخابات النيابية والرئاسية، مؤكداً أن وثيقة الوفاق الوطني أولت المجلس الدستوري صلاحية تفسير القوانين التي تلت تاريخ 21 سبتمبر (أيلول) 1990، إلا أن المجلس النيابي حجب هذه الصلاحية عنه ولم يتطرق لها البتة.
وأشار إلى أنه في عام 2008 تقدم النائب روبير غانم، رئيس لجنة الإدارة والعدل حينها، مع عدد من النواب باقتراح قانون إناطة صلاحية تفسير الدستور بالمجلس الدستوري، مبررين مطالبتهم هذه بانقسام وجهات النظر في المرحلة الأخيرة حول عدد من الأحكام الدستورية التي كانت تحتاج برأيهم إلى تفسير بعض المواد لإيجاد الحلول للقضايا الكبرى الناشئة، إلا أن الاقتراح لم يكمل طريقه نحو التشريع.
استنسابية التشريع
وتلفت المحامية والباحثة القانونية في مجال حقوق الإنسان والحريات العامة نرمين السباعي، إلى أن المادة 136 من النظام الداخلي لمجلس النواب فرضت انعقاد جلسة رقابية بعد كل 3 جلسات عمل على الأكثر في العقود العادية والاستثنائية، إلا أن عدم تطبيق هذه القاعدة الجوهرية باتت الحكومات تنعم بقدرة التهاون في تطبيق القوانين.
ورأت أنه منذ الطائف تم تجويف أية قدرة حقيقية للبرلمانات لتقويم الاعوجاج في الأداء الحكومي في ظل تماهي معظم النواب والوزراء مع نظام "المطابخ الداخلية"، بدلاً من الاعتراض الجدي على المخالفات عبر الأدوات القانونية والدستورية وتبعاً لآليات المجلس.
وأشارت إلى أن للمجلس النيابي هيئة عامة يتمثل فيها جميع النواب حيث يناقشون القوانين ويصوتون عليها، وهيئة مكتب مجلس تنظم عمل الهيئة العامة إدارياً، ولجاناً مختلفة تحضر وتدرس بعمق فيها النصوص. يعتري كل من هذه الأجهزة الثلاث وآليات عملها مخالفات وثغرات بنيوية يتوجب تصويبها من خلال تعديل النظام الداخلي للمجلس لتحسين الشفافية، وتالياً، تعزيز مشاركة الناس في العملية التشريعية والرقابية.
قوانين عثمانية
من ناحيته، يشير المحامي زكريا الغول، إلى أن بعض القوانين التي شرعتها السلطات العثمانية قبل أكثر من مئة عام لا تزال سارية، وبعضها جرى تعديله مثل قانون الأحوال الشخصية المرتبط بالشريعة الإسلامية، وبعض القوانين الإدارية، وأيضاً قانون البلديات الذي حدثه الفرنسيون أيام الانتداب.
ويشير إلى أن "عدداً من القوانين العثمانية تطبق بحذافيرها في لبنان مثل قانون الجمعيات، الذي يعتبر من أهم القوانين التي صدرت إبان الفترة العثمانية وهو لا يزال نافذاً حتى تاريخه، وهو الذي يرعى شؤون الجمعيات وكيفية تشكيلها في لبنان".
وبحسبه، فإن تلك القوانين وضعت لحاجة الدولة إليها في تسيير شؤونها، وأصدرت الدولة أيضاً قوانين تتعلق بمجالي القانون العام والقانون الإداري المالي والضريبي المطبقة على جميع الأراضي العثمانية، وقد اعتمدت على الأعراف المحلية والمبادئ العقلية والقانونية التي كانت سائدة، معتبراً أن الظروف وتطور الحياة يستوجب تطوير القوانين أيضاً من أجل تحسين ظروف تطبيقه.