ملخص
وثيقة "لبنان الأزمة والحلول" أنجزت معظم بنودها باستثناء البند المتعلق بالسلاح غير الشرعي، و"التيار الوطني الحر" يفضل التمييز بين سلاح "حزب الله" كـ"سلاح مقاومة" والسلاح الآخر المتفلت، ويطالب باعتماد صيغة تفتح باب النقاش ولا تشكل تحدياً للحزب، ومصدر من اللجنة يقول "إن مبدأ حصر السلاح بيد الدولة غير قابل للنقاش".
في مرحلة حساسة جداً من تاريخ لبنان الحديث ابتعدت فيها كل المكونات عن بعضها بشكل جذري، لم تكن مهمة سهلة أن تلتقي القوى المسيحية المتخاصمة أيضاً، المستقلة والحزبية والمتخصصة، على صيغة واحدة توصف فيها الأزمة الحالية في كل جوانبها وتقترح الحلول العملية لإنهائها، تمهيداً لحوار وطني شامل يجعل مما يعرف اليوم في الداخل اللبناني بـ "الوثيقة المسيحية"، في البداية، وثيقة وطنية بمشاركة المكونات اللبنانية كافة.
هذه الوثيقة التي تحمل عنوان "لبنان الأزمة والحلول" أنجز معظم بنودها حتى الساعة باستثناء البند المتعلق بالسلاح غير الشرعي، وهي بصيغتها الحالية على طاولة السينودس السنوي لأساقفة الكنيسة المارونية المنعقد في مقر البطريركية المارونية في بكركي (جبل لبنان) منذ الإثنين الماضي.
وتكشف مصادر المشاركين أن النقاشات التي احتضنتها بكركي لممثلي الأحزاب والقوى المسيحية باستثناء تيار "المردة" (برئاسة الوزير السابق سليمان فرنجية المرشح لرئاسة الجمهورية) الذي رفض المشاركة، كانت صريحة وحامية في مرات عدة لكن بروح إيجابية، وبنتيجة النقاشات أدخلت تعديلات على الصيغة الأولى التي كان وضعها فريق عمل متخصص في الدستور والقانون والسياسات العامة والاقتصاد والعلوم الاجتماعية.
ولم تخل النقاشات من بعض التباينات خصوصاً حول البند المتعلق بالسلاح غير الشرعي وسط إصرار "التيار الوطني الحر" (برئاسة النائب جبران باسيل) على التمييز بين سلاح "حزب الله" كـ"سلاح مقاومة" وكل سلاح آخر متفلت، واعتماد صيغة تفتح باب النقاش ولا تشكل تحدياً للحزب.
وكشف مصدر في لجنة صياغة الوثيقة عن أن مسألة سلاح "حزب الله" بقيت في مربع التوافق المبدئي، وأن البحث عن صيغة متماسكة وضعت في عهدة البطريرك الماروني بشارة الراعي من دون تنازل من أي من الفرقاء المشاركين عن ثوابته، وأكد المصدر الذي رفض الكشف عن اسمه أن الأجواء إيجابية وأن مبدئية حصر السلاح بيد الدولة غير قابلة للنقاش.
في المقابل قال ممثل "التيار الوطني الحر" النائب جورج عطا الله إنه اقترح في آخر اجتماع عقد في بكركي أخيراً صيغة جديدة للبند المتعلق بالسلاح رفض الكشف عن مضمونها، مؤكداً أنها حظيت بموافقة جميع الحاضرين، لكنه فوجئ في اليوم التالي برسالة أرسلت على مجموعة اللجنة تطلب التريث.
وعن الوثيقة وبمعزل عن بند السلاح "المعلق" قال أحد واضعيها لـ"اندبندنت عربية"، "هي رؤية وطنية إنقاذية متماسكة تستهل على المستوى المسيحي لتتوسع وطنياً، والهدف منها إنقاذ لبنان من براثن محاولات تغيير هويته. أما مضمونها فيستهل بفهم طبيعة اللحظة الحاسمة التي يعيشها لبنان، مع تحديد طبيعة الأزمات السيادية والاقتصادية والاجتماعية والدبلوماسية وفي المحصلة الكيانية الوجودية، لتنتقل من ثم إلى تأكيد ضرورة التلاقي والشراكة تحت سقف الدستور والسيادة الناجزة، لتعرج على الثوابت في الحرية والتعددية والسيادة والدبلوماسية النشطة في الحياد الإيجابي، ودعم قضايا العدل وحصرية السلاح بيد الدولة اللبنانية، وتنفيذ الإصلاحات البنيوية والقطاعية، وكل ذلك في تطبيق لمندرجات اتفاق الطائف وصون صيغة العيش معاً، وتنتهي إلى مسار معالجات يحتاج إلى توسع في المرحلة اللاحقة".
عام من التحضيرات
ورب قائل إن لبنان ليس في حاجة إلى نصوص جديدة في وجود دستور كاف وواف، لكن أحد واضعي وثيقة بكركي والعاملين عليها يجيب "في عرف من واكب تاريخ لبنان الحديث والمعاصر يعلم أن الحاجة إلى بوصلة في المفاصل التاريخية أكثر من مفصلية".
وفي أروقة مقر أبرشية انطلياس المارونية في قرنة شهوان (جبل لبنان)، الذي استضاف عام 2001 التكتل السياسي المسيحي لتجمع القوى السيادية المناهضة للوجود السوري والذي كان يعرف بـ"لقاء قرنة شهوان"، انطلق منذ عام مسار البحث عن رؤية إنقاذية لأزمة لبنان. وبدأ بهذا المسار راعي أبرشية انطلياس المارونية المطران أنطوان بو نجم بمباركة من البطريرك الراعي. وعمل بو نجم مع لجنة مصغرة من الاختصاصيين في الدستور والقانون والسياسات العامة والاقتصاد والعلوم الاجتماعية، وكان الهم في كل اللقاءات التحضيرية وطنياً بامتياز وفق ما أكد مصدر في اللجنة، ومقاربة صون الهوية اللبنانية برسالة الحرية والأخوة التي كانت في صميم الوجدان الوطني على مدى أكثر من 100 عام، وحرص واضعو الوثيقة بصيغتها الأولى على الغوص في مسببات ما يواجهه لبنان أكثر منه تشخيص العوارض الذي بات القاصي والداني يعلم مضامينه، واعتمدوا مقاربة تبتعد عن تدوير الزوايا والرماديات، واستغرق العمل التحضيري الصامت والبعيد من الإعلام أكثر من عام بمنهجية علمية، استهلت بالإصغاء إلى كل القيادات المسيحية ومن ثم ممثليهم.
الكل شارك باستثناء "المردة"
فبعد عام على الاجتماعات التحضيرية التي انتهت بمسودة أولى للنص، رأى البطريرك الراعي أن المسار ثابت، فحصلت لقاءات برئاسته في مقر البطريركية المارونية في بكركي لممثلي الأحزاب المسيحية (القوات اللبنانية، الكتائب، التيار الوطني الحر، الوطنيون الأحرار، الطاشناق، حركة الاستقلال ومشروع وطن الإنسان) وقاطعها تيار "المردة" على رغم محاولات حثيثة لتثبيت مشاركته لكنه آثر عدم الانخراط، وعلى رغم ذلك بقي التواصل مع رئيسه وقيادييه قائماً.
وكان رئيس تيار "المردة" النائب السابق سليمان فرنجية، مرشح "الثنائي الشيعي" (حركة أمل وحزب الله) لرئاسة الجمهورية، زار البطريرك الراعي منذ نحو الشهر وبرر عدم مشاركتهم في الحوار المسيحي بالقول "نحن منفتحون على كل حوار ونعمل جميعاً من أجل أمان المسيحيين وليس أمنهم كما يطرح البعض، وهذا لا يتحقق بالتخويف وخلف المتاريس". واستمرت لقاءات بكركي مع ممثلي الأحزاب نحو أربعة أشهر قبل أن يلمس الراعي بداية توافق يمكن أن يسري نحو أفق وطني ولو أن البداية مسيحية، والهدف التوصل إلى توافق على ضرورة إطلاق حوار وطني بناءً على أسس الدستور بمنأى عن أعراف جديدة أو مستجدة لخدمة أهداف تعديل الصيغة والميثاق.
وحول هذا المسار قيل كثير، فالبعض نعاه في مهده وقاطعه، وثمة من اعتبره مبتوراً إذ بقي في مربع الحوار المسيحي - المسيحي، وثمة من تجاهله غير معول على فاعليته، لكن في المقابل أكد أحد المشاركين أن هناك من أصر على أن الذهاب إلى عمق الأمور هو أساس بنيوي في تشييد عمارة العودة إلى الدستور واستعادة السيادة وترميم ما انقطع ما بين مكونات الشعب اللبناني خصوصاً لناحية تلاقي من يؤمن بالحرية والتعددية والديمقراطية والميثاق والعيش معاً، وهذه وردت في جينات لبنان التأسيسية منذ دستوره الأول عام 1926 على قاعدة المواطنة التي تشتمل على التنوع، لكن الأمور في النهاية تبقى في خواتيمها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كيف علق ممثلو الأحزاب
عضو تكتل "الجمهورية القوية" (القوات اللبنانية) النائب فادي كرم ممثل "القوات اللبنانية" في لقاءات بكركي أكد أن "القوات" رحبت منذ البداية بالتلاقي والتفاهم وأصرت على أن تكون وطنية وليس فقط مسيحية. وأوضح كرم أنهم طالبوا بأن تكون الوثيقة المنبثقة عن الحوار واضحة ولا مواربة في نقاطها على صورة البيانات الوزارية، حتى لا تتحول إلى "طبخة بحص". ورفض كرم القول إنها ورقة مسيحية تعرض على الشركاء المسلمين، وشدد على أنها بمثابة طرح للشراكة كما تراه القوى المسيحية. واعترف النائب القواتي بأنهم سجلوا بعض الملاحظات على بعض النقاط وكذلك الآخرون، واصفاً مشاركة كل الفرقاء بالمرنة والإيجابية وبأن الجميع كان حريصاً على التعاون للوصول إلى صيغة قوية تناسب الطرح، وعبر كرم عن ثقة "القوات اللبنانية" بالبطريرك الراعي الذي سيترك له قرار وضع خريطة الطريق الوطنية لهذه الوثيقة عند انتهائها.
من جهته، أكد النائب غسان عطا الله ممثل "التيار الوطني الحر" في الاجتماعات أنهم شاركوا بفعالية بهدف أن تشكل الوثيقة التي ستصدر عن الاجتماع رؤيا للبنان المستقبل بصورة كاملة حتى لا تستمر النزاعات، وأن تجيب على كل الأزمات الحالية على صعيد الشرعية والسيادة والرئاسة واللامركزية والقانون، وكشف عن أنه في آخر اجتماع عرض النص النهائي على الحاضرين "وبنتيجة النقاش ظهر تباين في الآراء مع باقي الأطراف حول بند السلاح، فطرحت صيغة تضمنت عبارات لم يكن الحاضرون يتوقعونها، ولاقت موافقة الجميع"، لكنه فوجئ في اليوم التالي بطلب التريث بعد مراجعة الممثلين مرجعياتهم، وأوضح عطا الله أن "التيار الوطني الحر" طالب بأن ترفق الوثيقة بخطة عملية للتنفيذ وقد اقترح ورقة من 10 نقاط تضمن تطبيق بنود الوثيقة، "إذ لا يجوز أن تلتقي القوى المسيحية وبكركي وتصدر وثيقة تبقى حبراً على ورق".
الهواجس المسيحية في الظروف العصيبة
أما الأستاذ الجامعي في التاريخ والدراسات الثقافية حبيب مالك الذي انتدب عن "مشروع وطن الإنسان" الذي يترأسه النائب نعمت افرام فشرح أن هدف الوثيقة إيصال صوت الهواجس المسيحية بالظروف العصيبة التي يمر بها لبنان لجميع اللبنانيين والعالم "وقد طرحت في اللقاءات أمور كثيرة أساسية كيانية مثل التغني بأهمية دور ورسالة لبنان، وهذا أمر عظيم، لكن هذا الأمر قائم على الوجود الحر، والوجود الحر يسبق الرسالة أو الدور وهو شرط أساس لهما". وأضاف مالك "من الناحيتين الفلسفية والإنسانية العميقة فإن الوجود الحر هو الذي يميز لبنان، ومن هنا تنطلق فكرة الرسالة". وكشف مالك أن نقاشات حصلت أظهرت تبايناً في الآراء حول بعض المسائل "ولن أدخل بتفاصيلها بانتظار أن تعلن الوثيقة رسمياً وهي الآن بتصرف البطريرك الراعي وهو سيعرضها على السينودس وسننتظر إعلانها". وشدد ابن شارل مالك المشارك في صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أن الوثيقة ليست ورقة مسيحية لفرضها على باقي اللبنانيين، إنما هي محاولة لتوحيد الصف المسيحي حول بعض القضايا المطروحة تاريخياً في البلد بالنسبة إلى الوجود المسيحي الحر في لبنان تحديداً وفي الشرق، وهي تسجيل موقف على أن يليها حوار مع الآخرين.