ملخص
تنتمي رواية "ذئب العائلة" للكاتب صهيب أيوب إلى أدب الضواحي البائسة، بناسها الفقراء والمهمشين ووقائعها المأسوية التي تفوق التصور. وقد اختار مدينة طرابلس اللبنانية وضواحيها المعدمة، مكانا لروايته وأحداثها.
لعل الملاحظة الأولى التي يخرج بها قارئ رواية الكاتب صهيب أيوب "ذئب العائلة" (دار نوفل 2024) تفيد بأنها ليست "نوفيلا" كما أشار التعريف الذي وضعته الدار على الصفحة الأولى، فهي رواية في كل ما يعني الفن الروائي من معايير، وليست البتة قصة طويلة أو رواية قصيرة بحسب مفهوم النوفيللا. وبدا واضحاً أن الدار عمدت إلى تصغير الحرف ورص الصفحات لتدرج الرواية في سلسلة "نوفيللا" التي أطلقتها حديثاً، وهي مشروع مهم بذاته.
""ذئب العائلة" رواية ولو اقتصرت صفحاتها وفق الطبعة المرصوصة على 150 صفحة، بل رواية فريدة بجوها وشخصياتها ووقائعها التي تدور في عالم شبه "سفلي"، مهمش ومنسي، عالم أطراف مدينة طرابلس، وأحيائها الفقيرة جداً، ومخيماتها التي تقع في جوار ضواحيها. وهي بلا شك، المرة الأولى يدخل روائي هذا العالم المحذوف والمهمل والمتجاهل والمسكوت عنه، حتى ليشعر القارئ الغريب عن طرابلس أو أطرافها، أنه إزاء رواية من روايات الضواحي المعروفة في السرد العالمي، أو حيال إحدى الروايات الأميركية التي تنتمي إلى ما يسمى "الواقعية القذرة" (ديرتي ريالزم) التي تجلت في بعض أعمال ريتشارد فورد (العاشق، حياة وحشية) أو شالرز بوكوفسكي (يوميات الجنون العادي) وبعض قصص ريموند كارفر. وقد لا تكون الرواية بعيدة من جو جان جينه "معركة بريست، يوميات سارق" ومحمد رشدي "الخبز الحافي" أو فيلم المخرج الإيطالي إيتوري سكولا "قذرون بشعون وأشرار" الذي أحدث ضجة في عام 1976.
وغالباً ما تتفرد هذه الروايات بكونها تدور في عالم واقعي قاس وفج، لا بطولة فيها ولا مثالاً، تحتفي بالبشاعة على كافة مستوياتها، المكانية والنفسية والاجتماعية، أشخاصها عمال بناء أو متسولون أو زبالون أو متبطلون، مثليون و"ترانس"، سكارى ومدمنون... ولعلها الأجواء نفسها التي تظلل رواية "ذئب العائلة"، مع فارق أن صهيب أيوب ينطلق من مناطق حقيقية بأحداثها وشخصياتها وأمكنتها، وقد أضاف إلى واقعيته نفساً شعرياً بدا واضحاً في بعض المقاطع والجمل، ربما من أجل التخفف من قسوة الجو السردي. وكان في إمكان أيوب أصلاً أن يطيل بعض الفصول، لا سيما التي تفيض بالشخصيات والوقائع، وأن يريح لعبة السرد فلا تبدو مشحونة ومكثفة.
أولى المفارقات في الرواية أن الراوي الأول الذي يدعى حسن السبع، أخرس، كأنه يتكلم بيديه أو أصابعه، لكنه العين التي ترى جيداً وتراقب. بل هو بمثابة "ذئب شرس" أو لعله "ذئب العائلة" كما يوحي عنوان الرواية، ولم يتح له المؤلف أن يؤدي دور الراوي إلا في الفصلين، الأول والأخير. وهو يرمي من حوله جواً من الشك واللايقين، فيقول إنه يسمى حسن الأخرس أو الأطرش، ولا هم. لكن الاكيد أنه ينتمي إلى جماعة الأموات - الأحياء، وأنه لا يعرف من تاريخ عائلته فإنها من البدو الرحل الذين حط بهم الرحال في ضواحي طرابلس.
يستهل حسن كلامه في البداية معلناً اختفاء أمه، سعدية المحمد، ومعها زوجة أخيه والجارة الغريبة الأطوار وداد النابلسي. وهذا الاختفاء سيكون أحد المحاور الرئيسة في الرواية ذات الطابع البوليسي، التي تجري فيها حوادث قتل، وحتى اختفاء، غير قليلة. ففي هذا العالم السفلي، أو "المقبرة" كما يقول حسن، الحياة نفسها معرضة لأن تختفي، تبعاً لتشظيها وتبعثر ناسها الذين يكونون في أحيان كثيرة أشباه أناس منهكين معدمين فقراء وقذرين. بل ينقل حسن عن أمه تشبيهها حياة العائلة بـ"الششمة" (الحمام)، وتصف أولادها في لحظات القهر بـ"البقر". ويعترف أن الشر يولد معهم (نولد أشراراً)، أما الخيرف "نتعلمه إذا أتيحت لنا الفرصة". ويجاهر بلا خجل أن أظافره قذرة وأنه وإخوته لا يستحمون إلا مرة في الأسبوع، وأن "أسناننا مسوسة"، ويصف الجارات بالقبيحات والبذيئات و"بعضهن داعرات".
وإذا كان حسن السبع أعلن في مطلع الفصل الأول اختفاء أمه، فهو في الجزء الثاني من هذا الفصل الأول، يفاجئنا صهيب أيوب بمقتل شمسة السبع، جدة حسن. يكتشف عامل التنك، جثة امرأة مقتولة وموضوعة في كيس بين ركام تلة من القمامة، تفوح منها رائحة كريهة. يتعرف إليها العامل عندما يرى رأسها، فيتصل بالمحقق سعيد الرطل، فياتي ويبدأ تحقيقه الفاشل والفوضوي. هذا التحقيق يسبغ على الرواية طابعها الخاص، حتى لتصبح تحقيقاً سردياً، حول الشخصيات والجرائم والأمكنة. ولئن بدا المكان الأول هو بناية العلبي، التي تتقاسمها شخصيات عدة في الرواية، فالأمكنة تتعدد بتعدد الشخوص الأخرى أو البشر الآخرين، وكلهم من البشر المهمشين، وبينهم محقق الشرطة سعيد الرطل الذي يشبههم تماماً.
سيرة الجدة القتيلة
في الجزء التالي ينقلنا أيوب مباشرة إلى أغسطس (آب) 1965 مسترجعاً سيرة جدته القتيلة شمصة، فنعلم أنها ابنة عشيرة من النور، كانت شابة، تحني الفتيات، عندما طلب يدها حمد الخضر، من كبير العشيرة وليس من عائلتها، فتوافق مكرهة وتتزوج، لكنها لا تلبث أن تهرب منه. نتعرف من ثم إلى أم شمسة التي تدعى "نجمة الصبح" والتي كانت انتحرت مطلقة الرصاص على نفسها على شاطئ البحر، ودفنت من غير أن يصلى عليها، عقاباً على فعلتها.
في هذه اللقطة السريعة أراد أيوب أن يكشف جذور الأشخاص الذين تحفل بهم روايته، والأمكنة التي يتنقلون بينها. كأنه شاء أن ينتقل من جيل إلى آخر، الأجداد فالأبناء فالأحفاد، الذين جميعهم، يواجهون مصائر مأسوية مماثلة، ويتوزعون بين أكثر من ماض ومكان. فشمسة مثلاً تنتقل من مخيم العبدة، منتفخة البطن من زوجها حمد، إلى طرابلس تاركة وراءها كل ماضيها، الخيمة والوبر والتقاليد. وفي طرابلس تبدأ حياة مختلفة تماماً. في هذه المدنية، تقع على الرصيف جراء ثقل حملها واقتراب ساعة الوضع، فيتنادى السائقون والمارة وبعض النسوة ويحملونها إلى مطعم قريب، فتضع في غرفة داخله، على يد امرأة مسيحية، توأمين. ومن ثم يتم نقلها إلى دار الخانكة، التي تؤوي النساء والأطفال. وهنا تكتشف نمطاً جديداً من الحياة اليومية، مع طفليها زياد وجلنار. زياد سيكون لاحقاً زوج سعدية المحمد، وهما والدا حسن الأخرس، وستكون جلنار عمته التي تقطن معهم في بناية العلبي، وستبقى وحيدة بعد اختفاء شمسة وسعدية.
خريطة سردية
يواصل أيوب رسم "الخريطة" السردية، راسماً في منحى آخر "خريطة" لطرابلس وناسها وأحيائها المعروفة والمجهولة. فشمسة ستواصل حياتها عاملة في بيت سلوم الحلو، المعروف بكونه أول من فتح فرنا في حارة الدكرمنجي، ويلتحق زياد وجلنار بإحدى المدارس، ويستخرج لهما سلوم الحلو إخراج قيد عائلي وهويتين، ويسجلهما على اسم عائلة الأم شمسة، من مواليد حلبا 1965. ينقذهما من مشكلة القيد المكتوم التي يعانيها آلاف اللبنانيين والدولة اللبنانية نفسها، والتي تمثل قضية وجودية هي قضية الهوية الضائعة.
أما الفصل الثاني الذي يحمل عنواناً غريباً هو "دولتشي فيتا" فيقدم شخصية في غاية الطرافة، شخصية حقيقية جداً وفانتازية جداً، شخصية من لحم ودم وفانتسمات ورغبات، بريئة ومنحرفة. إنها "دولتشي فيتا" نفسها الذكر والأنثى أو الترانس امرأة لم تتخل عن عضوها الذكرى رغم أنوثتها الظاهرة، ولا يضيرها أن تؤدي الدورين معاً.
تظهر "دولتشي فينا" في فترة ما بعد ترك زياد مؤسسة الخانكة، التي لا تحافظ على الفتيان حين يبلغون، فهي للنساء والأطفال. ينتقل زياد إلى العمل في فرن الحلو، ويتخذ لنفسه فيه قبواً، يقيم فيه وينام. لكن الانتقال ليس مكانياً بل هو وجودي أيضاً، فهنا تبدأ مرحلة جديدة في حياة زياد، لا سيما بعد أن يتعرف إلى مسلحي الأحزاب والميليشيات، في قلب طرابلس، ويصادق بعضهم. ويتعرف أيضاً إلى أجواء المومسات والملاهي والحياة الليلية. وفي "بيت سلوى" يلتقي "دولتشي فيتا" الترانس، الرجل المتحول امرأة، فتقع في حبه وتتدبر له بطاقات حزبية سياسية ودينية، تمكنه من حماية نفسه وسط المدينة المقسمة، بين الأحزاب والجماعات المتطرفة. حينذاك، كانت طرابلس (بحسب زمن الرواية المتعدد) تشهد أكثر من حرب وعلى أكثر من جبهة، حرب أهلية أو داخلية، حرب مع تيار المردة الزغرتاوي، حرب مع السوريين بخاصة عندما لجأ إليها أبوعمار ومنظمة التحرير. كانت "دولتشي فيتا" تكره نفسها، تكره ذكورتها، جاءت إلى طرابلس من مخيم البداوي وصارت تقيم في البانسيون. وذات مرة تقع بين أيدي مسلحين متطرفين، يطاردون المومسات والمتحولين، وكان يرافقها حبيبها الفران زياد. يعذب المسلحون "دولتشي فيتا" ويذلونها، لكنها تركع وتترجاهم أن يقتلوها ويتركوا زياد فهو بريء. أطلقوا رصاصتين على "دولتشي فيتا" فسقطت وأفلتوا سراح زياد وفي ظنهم أن القضاء على مصدر الإثم يكفي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تمثل شمسة شخصية المرأة القوية ذات الإرادة، وقد تمكنت تماماً من التخلص من ماضيها البدوي. وبعدما جمعت بعض الأساور والحلي، تقدم على بيع بعضها لتشتري شقة لعائلتها في بناية العلبي، "بطلة" الرواية. الشقة تصبح منزل زياد الابن الفران الذي تزوج في الـ23، من سعدية المحمد بلا حفلة ولا طبل وزمر، وأنجبا أولاداً منهم حسن، ومنزل شقيقته جلنار التي ستكبر، وفيها وتبقى وحيدة بعد خطف شمسة وسعدية.
"قتل الأب"
مفاجأة أخرى يحملها الفصل الثالث من الرواية تتمثل في جريمة "قتل الأب"، لكن من يقدم هنا على قتل أبيه هو حمد الخضر نفسه زوج شمسة، في لقطة "فلاش باك" تسترجع جزءاً من الماضي الجماعي من أسرة حمد الخضر الذي ينتمي أصلاً إلى قبيلة "الرياس". الابن حمد نشأ في قلب الغابة مثل الحيوانات، كما يقول، بصفته راوياً في هذا الفصل، ويضيف في لحظة حقد: "نزلت من جسم أمي كغائط"، هذه الأم التي عاشت ذليلة بيدها الواحدة، وعذابها اليومي. لعله ورث الخوف والحقد عن والديه، كما يقول. وفي جملته الأولى يعترف: "قتلت أبي في يوم عاصف". ويتضح أن قتله أباه ليس انتقاماً لنفسه منه أو تحدياً له تماماً، بل انتقاماً من "يدي الأب الضعيفتين ووجهه الصامت". قتله ليريحه من الحياة التي "تورط" بعيشها. وفي رأيه أن أباه كان "مجرد رجل يحتاج إلى الموت". بات يتألم له عندما بات يراه رجلاً مسناً بعينين سوداويين، قليل الكلام مثل الأم. أما مشهد القتل فيتراوح بين القسوة والحنان، مجتمعين كما في المآسي الإغريقية أو الشكسبيرية، "غرزت السكين في رقبته، مررتها على بطنه وفتحت معدته، نفر الدم وشعرت بسخونته لزجاً على وجهي...". ويضيف، "كأنه تركني أقتله لأتحسس دمه، لأستمتع بآخر حب بيننا (...) بحب كان لا يجوز أن نمنحه شكلاً إلا في حالة القتل". كأن فعل القتل هنا، قائم على التواطؤ المضمر بين القاتل والقتيل، بين الجزار والضحية، وكأنهما واحد (أنا الضحية وأنا الجلاد بحسب تعبير بودلير). بل إن الابن يعترف بعد القتل "دهشت من قدرتي على القتل، ظننت لوقت طويل أني مجرد جرذ لا قدرة له على قتل نملة". مشهد درامي مأسوي، فريد ويمكن أن تخرج منه لقطة مسرحية أو سينمائية رهيبة.
كان في إمكان صهيب أيوب أن يسمى روايته "بناية العلبي" فهذه البناية هي منطلق السرد ومرجعه، حقيقة ومجازاً. ولعلها تذكر بروايات عدة تدور أحداثها داخل البنايات، ومنها روايتان للكاتب حسن داود، الأولى "بناية ماتليد" التي افتتحت عام 1888 نمطاً روائياً غير مألوف في لبنان، والثانية" فرصة لغرام أخير" التي تدور خلال موجة كورونا. وكذلك رواية الكاتب ربيع جابر "طيور الهوليداي أن" التي تدور أحداثها في بناية العبد البيروتية. وطبعاً لا يمكن تناسي رواية "ممر ميلانو" للكاتب الفرنسي ميشال بوتور، أحد رواد الرواية الجديدة، وتدور أحداثها في بناية من سبعة طوابق. لكن بناية العلبي هي الحارة والمدينة (طرابلس) والضواحي والخيم، مثلما هي شاهدة على أزمنة عدة، بعيدة وقريبة، ومنها بلا شك زمن الحرب والمعارك التي خاضتها أحزاب وجماعات متعددة المشارب والمضارب. زمن الحواجز الطائفية والخطف والقتل... حتى أشخاص هذه البناية يبدون هم من طينة القدر الملعون، يخرج معظمهم من البناية ولا يعودون. ومنهم أيضاً عصام ابن سميح الدندشي وزوجته مرادي الذي التحق بإحدى الجماعات الأصولية في سوريا ليقاتل معها، فاختفى ولم يعد. لكن جهة أمنية كانت يسأل عنه باستمرار، مزعجة أباه.
تستحق رواية "ذئب العائلة" أن تلقى التفاتة طرابلسية، في مناسبة الاحتفال بطرابلس عاصمة للثقافة العربية 2024، فهذه الرواية هي رواية طرابلس التي لم تكتب سابقاً، طرابلس المهمشة والمهملة، بحاراتها الفقيرة وأحيائها المعدمة وناسها المنسيين الذين لا يبالي بهم أحد. لقد كسرت رواية "ذئب العائلة" الصورة الكلاسيكية والمركبة والمصطنعة التي شاعت عن طرابلس (كما عن بيروت في هذا القبيل)، وقدمت صورة مضطربة وبشعة بشاعة ما يسمى العالم السفلي، في سرد ينتمي بقوة إلى ما يسميه جورج باتاي "أدب الشر"، فالأدب بنظره لا ينفصل عن الشر في العالم، ومن مهامه أن يغوص في أعماقه لاكتشافه وإضاءته. إنها رواية فريدة حقاً، بجوها وعالمها وأشخاصها، بضحاياها وأشرارها. رواية جريئة من غير تصنع، حقيقية وقاسية، صادمة وإنسانية، بما تحمل من وقائع وشخصيات تعيش دوماً على حافة السقوط.