رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي ليس منصباً عادياً فرئيسه وأعضاؤه يُسمع لهم ويمارسون تأثيراً لا يستهان به في علاقات الولايات المتحدة بحلفائها وأعدائها، ولذلك عندما اتهم رئيس اللجنة السابق السيناتور بوب مينينديز بالتورط في مخطط فساد ورشاوى، لم تكُن التغطية الإعلامية عابرة وما زالت المتابعة مستمرة لمحاكمته التي بدأت في مايو (أيار) الجاري.
ومينينديز ليس جديداً على تهم الفساد، ففي 2015 اتهمته وزارة العدل بالضغط على مسؤولين كبار في إدارة الرئيس السابق باراك أوباما لاتخاذ إجراءات تخدم مصالح صديقه رجل الأعمال سالومون ميلجن، مقابل هدايا ثمينة ومئات آلاف الدولارات، لكن هذه التهم أسقطت عام 2018، بعدما فشلت هيئة المحلفين في التوصل إلى حكم.
لكن المثير في محاكمة السيناتور الأخيرة أنها لا تتمحور حول تهم الرشاوى المرتبطة برجال أعمال فحسب، بل تشابكت كذلك مع بلدان أخرى، والأغرب أن القشة التي قصمت ظهر السيناتور هي شركة متخصصة في اعتماد شهادات اللحوم الحلال المصدرة إلى مصر.
ويواجه مينينديز (70 سنة) منذ سبتمبر (أيلول) 2023، 16 تهمة جنائية، بما في ذلك الرشوة والابتزاز والعمل كعميل أجنبي وعرقلة العدالة، وإذا قررت هيئة المحلفين إدانته، فمن الممكن أن يقضي بقية حياته في السجن.
واتهم مينيديز بتقديم معلومات حساسة إلى الحكومة المصرية وعلى رغم استقالته من منصبه كرئيس للجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، إلا أنه رفض الاستقالة من مجلس الشيوخ ونفى ارتكاب أي مخالفات وتجاهل كذلك مطالب 30 زميلاً له بالاستقالة. وعلى رغم أنه لن يترشح لإعادة الانتخاب سيناتوراً ممثلاً للحزب الديمقراطي عن ولاية نيو جيرسي، إلا أنه يفكر بالترشح مستقلاً.
ولم تعلق القاهرة رسمياً على قضية مينينديز، وقال مصدر دبلوماسي مصري لـ"اندبندنت عربية"، "لا نعلق على مزاعم لم تثبت صحتها بعد ولا تزال قيد التحقيقات الداخلية في الولايات المتحدة الأميركية... هذا أمر داخلي لا شأن لنا به".
شركة اللحم الحلال
وبدأت السلطات الأميركية التحقيق في شؤون السيناتور بعدما تكشفت علاقته مع رجل الأعمال الأميركي المصري الأصل وائل حنا الذي كان يعاني تحديات مالية عام 2018 بعد محاولات تجارية فاشلة عدة. قرر حنا في 2017 تأسيس شركة صغيرة باسم IS EG Halal متخصصة في إصدار شهادات الحلال للحوم والدواجن المرسلة إلى مصر، ولم تكُن الطريق معبدة بالورد، إذ كانت مصر تتعامل مع شركات أخرى قديمة في المجال وأكثر خبرة.
لكن فجأة تحولت شركة حنا من منافسة لعمالقة السوق إلى شركة تحتكر هذه التجارة مع مصر، والفضل بحسب لائحة الاتهام والتقارير يعود لعلاقته مع السيناتور مينيديز التي بدأت من خلال نادين وهي صديقة قديمة لحنا، وقامت بتعريفه إلى السيناتور عندما كانت تواعده. ويُتهم مينيديز وزوجته نادين بمساعدة حنا في الحصول على صفقات حصرية مربحة مع الحكومة المصرية مقابل هدايا ثمينة.
ويكشف تقرير لـ "نيويورك تايمز" وفقاً لوثائق وزارة الزراعة الأميركية، عن أن الحكومة المصرية حتى عام 2019 كانت تتعامل مع أربع شركات أميركية تصدر شهادات الحلال للحوم والدواجن، لكنها قررت فجأة إلغاء تعاقداتها مع الشركات الأربع وبدأت التعامل مع شركة حنا في أبريل 2019، بعد أشهر من بدء الشركة عملياتها.
وتصف الشركة في موقفها الرسمي بأنها الكيان المرخص له حصرياً من قبل الحكومة المصرية للتصديق على الصادرات الحلال في جميع أنحاء العالم، وتشير إلى أن عملاءها هم الجهات الأجنبية الراغبة في تصدير الأغذية والمنتجات الأخرى إلى مصر والعالم الإسلامي، وتقول الشركة إن عدم وجود معيار عالمي موحد دفع مصر إلى أخذ زمام المبادرة في هذا المجال من خلال منح الحقوق الحصرية لشركة IS EG Halal.
ويقول المدعي العام إن الصفقة تمت بفضل مينينديز الذي ضغط على مسؤول في وزارة الزراعة الأميركية لعدم معارضة العقد على رغم المخاوف من نشوء ممارسة احتكارية تزعزع السوق وترفع الأسعار، وفي المقابل أهدى حنا السيناتور وزوجته أموالاً نقدية وسبائك ذهب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأخذت القضية منحى أكثر حساسية عندما اتهم الادعاء حنا بأنه وضع زوجة مينينديز في كشوف مرتبات شركته لوظيفة لا تتطلب منها العمل في حال سهل السيناتور تسليم مصر مزيداً من المعدات العسكرية الأميركية.
وتشير وثائق المحاكمة إلى أن الادعاء اتهم السيناتور بإعطاء حنا معلومات حساسة جداً عن السفارة الأميركية في القاهرة، ونقلها الأخير إلى مسؤول مصري وأن مينينديز كتب رسالة بالنيابة عن القاهرة، وطلب من زملائه في مجلس الشيوخ الإفراج عن 300 مليون دولار من المساعدات الأميركية لمصر، ثم حذف رسالة بريد إلكتروني تشير إلى أن زوجته طلبت منه كتابة الرسالة، كما يقول الادعاء.
ويرفض حنا تصوير علاقته مع السيناتور بأنها التي دفعت إلى حصول شركته على هذا الحق الحصري، وقال في التحقيقات إن هذه الشراكة مرتبطة بحقيقة أنه مسيحي، فعلى رغم أنه ليس خبيراً في اعتماد شهادات الحلال إلا أن الحكومة المصرية منحته الثقة لأنها تدرك أنه لا ينتمي أو يتعاطف مع جماعة الإخوان المسلمين التي تصنفها القاهرة منظمة إرهابية، مشيراً أيضاً إلى أنه استعان بخبراء في المجال.
السجن بقية حياته
في يونيو (حزيران) 2022، عثر المحققون الفيدراليون أثناء تفتيش منزل مينينديز في نيو جيرسي على 13 سبيكة ذهب وسيارة مرسيديس وأكثر من 480 ألف دولار مخبأة في ظروف ومعاطف وسترات وأحذية. وبعد عام وثلاثة أشهر، واجه السيناتور وزوجته والتاجران وائل حنا وفريد دايبس اتهامات رسمية. ويؤكد المدعي العام الفيدرالي في مانهاتن داميان وليامز أن هذه المضبوطات "عناصر من عملية الاحتيال".
ويرفض السيناتور الكوبي الأصل الذي يشغل عضوية الكونغرس منذ نحو ثلاثة عقود هذه الاتهامات ويعتبرها "مجرد مزاعم". وعن الأموال النقدية المضبوطة في منزله قال إنه "على مدى 30 عاماً سحب آلاف الدولارات نقداً من حساب التوفير الشخصي الخاص به واحتفظ بها لحالات الطوارئ بسبب تاريخ عائلته في مواجهة المصادرات في كوبا".
الزوجة المُلامة
وللحيلولة دون السجن، بنى محامي السيناتور حججه للدفاع عنه على إلقاء اللائمة على زوجته نادين (57 سنة)، وهي الاستراتيجية التي وصفتها "نيويورك تايمز" بـ "الضعيفة" في ضوء شهادة عميل الـ"أف بي آي" الذي استدعاه الادعاء للحديث عن المضبوطات التي عثر عليها في خزانة بمنزله.
وعلى رغم أن الخزانة كانت تحوي ملابس نسائية، إلا أن العميل قال إنه عثر أيضاً على سترة رجالية زرقاء معلقة في الداخل، ويحاول الادعاء من خلال هذه الشهادة ربط السيناتور بسبائك الذهب والرشاوى المزعومة الأخرى. وأصر العميل على روايته حتى بعدما ضغط عليه محامي مينينديز أثناء الاستجواب، وعرض صورة تظهر السترة المعلقة خارج الخزانة.
وفي صباح اليوم التالي، طلب الشاهد مراجعة شهادته بعد العودة لصور التفتيش، ووافق على أن السترة كانت معلقة خارج الخزانة.
وقالت "نيويورك تايمز" إن استراتيجية لوم الزوجة صادمة وغير تقليدية، لكنها ليست سابقة في قاعات المحاكم الأميركية، واعتبر خبراء قانونيون أن النهج ينطوي على أخطار كبيرة لأسباب منها أن هيئة المحلفين قد تنظر إليها على أنها إهانة.
وقال بول شيتمان، محامي الدفاع في نيويورك الذي يحاضر في كلية ييل للقانون، إنه ما لم يكُن هناك دليل دامغ يشير إلى زوجة المدعى عليه، فمن غير المرجح أن تكون هيئة المحلفين متعاطفة مع محاولته إلقاء اللوم عليها، مضيفاً أن "المرء يخشى أن تقول هيئة المحلفين إنك ارتكبت جريمتين، أخذت رشاوى وألقيت باللوم على زوجتك".
وبحسب لائحة الاتهام، قدمت نادين، زوجة مينينديز، مع صديق لها والمتهم معه حالياً وائل حنا، السيناتور الديمقراطي إلى مسؤولين أمنيين أجانب.
وصوّر الادعاء السيناتور الديمقراطي وزوجته على أنهما شريكان في شبكة فساد معقدة. ولم يتناول مكتب المدعي العام الأميركي للمنطقة الجنوبية في نيويورك بصورة مباشرة استراتيجية الدفاع، ولكن المدعية العامة لارا بومرانتز خاطبت المحلفين في بيان افتتاحي وقالت إن مينينديز "كان حذراً عندما كان يرتكب جرائم... وذكياً بما يكفي لعدم إرسال رسائل نصية كثيرة". وأضافت أن السيناتور استخدم زوجته كوسيط لتوصيل الرسائل من وإلى دافعي الرشاوى، وأحياناً طلب منها ألا توثق شيئاً كتابياً.
ويسعى محامو السيد مينينديز إلى تصويره على أنه يعيش بصورة منفصلة إلى حد كبير عن زوجته، وأنهما كان يستخدمان حسابات مصرفية وبطاقات ائتمان منفصلة. وخاطب المحامي آفي فايتسمان هيئة المحلفين في بيانه الافتتاحي، قائلاً إن نادين أخفت عن حبيبها مشكلاتها المالية قبل زواجهما ولم تعلمه بالأشياء التي كانت تطلبها من الآخرين، مشيراً إلى أنها "حاولت الحصول على النقود والأصول بأي طريقة ممكنة".
وذكر فايتسمان أن السيناتور مينينديز لم يكُن لديه مفتاح لخزانة غرفة نوم زوجته المغلقة، ولم يكُن يعلم أنها احتفظت فيها بسبائك ذهبية، مشيراً إلى أنها "خزانة نادين". وأضاف أنه "عندما تنظر داخل الخزانة، سترى أنها ممتلئة بكل ملابس نادين، ملابس نسائية".
واستراتيجية الدفاع هذه استخدمها محامو الحاكم السابق لولاية فرجينيا بوب ماكدونيل الذي حوكم مع زوجته مورين، قبل نحو عقد بتهمة قبول أكثر من 170 ألف دولار في شكل قروض وهدايا من مسؤول تنفيذي يعمل في مجال المكملات الغذائية مقابل خدمات سياسية.
وفي مرافعته الختامية، قال محامي الحاكم إن ارتباط الزوجين كان مختلاً لدرجة أنه لم يكُن ممكناً لهما أن يدخلا في مؤامرة من هذا النوع، وألقى باللوم على السيدة ماكدونيل لأنها أصبحت مفتونة بالمسؤول التنفيذي وأنها ضللت زوجها ولم تخبره بأمور متعلقة بالمسؤول.
وخاطب المدعي العام وقتها هيئة المحلفين، قائلاً إن "السيد ماكدونيل على استعداد لاستخدام زوجته كبش فداء، وهي على استعداد للسماح له، من أجل تجنب الإدانات الجنائية". ودين الزوجان قبل أن تجمع المحكمة العليا على إلغاء الحكم عام 2016 وتضييق تعريف السلوك الذي يمثل "فساداً رسمياً".
سيناتور نافذ مع سيدة جدلية
وتظهر سجلات المحكمة أن نادين بحلول عام 2018، عندما بدأت مواعدة السيناتور كانت عاطلة من العمل ومتأخرة في مدفوعات الرهن العقاري. وتفيد سجلات الشرطة بأنها كانت متورطة في حادثة سيارة أدت إلى مقتل رجل يعبر الشارع. واعترف أحد رجال الأعمال بتزويد السيدة مينينديز بسيارة مرسيدس لتحل محل سيارتها المحطمة، والحصول على بعض الخدمات السياسية من السيناتور.
وترى "نيويورك تايمز" أن نجاح أو فشل هذه الاستراتيجية يعتمد على ما إذا كان بإمكان محاميه إقناع هيئة المحلفين المكونة من ستة رجال وست نساء بأن السيناتور الديمقراطي النافذ ورئيس لجنة العلاقات الخارجية سابقاً خُدع من قبل حبيبته وزوجته لاحقاً.
وولد مينينديز في يناير 1954 في مدينة نيويورك لمهاجرين كوبيين، ونشأ في يونيون سيتي بولاية نيو جيرسي، ودرس العلوم السياسية والقانون. وبدأ مينينديز رحلته السياسية في سن مبكرة، إذ انتخب لعضوية مجلس التعليم في يونيون سيتي عام 1974، مما جعله واحداً من أصغر الأعضاء بعمر 20 سنة. وشغل لاحقاً منصب عمدة المدينة من عام 1986 إلى 1992، وكان عضواً في الجمعية العامة ومجلس الشيوخ لولاية نيو جيرسي.
وانتخب لعضوية مجلس النواب عام 1992، ممثلاً للمنطقة الـ13 في نيو جيرسي. وعام 2006، اختير في مجلس الشيوخ من قبل جون كورزين الذي ترك عضوية المجلس لتولي منصب حاكم ولاية نيو جيرسي، ومنذ ذلك الحين أعيد انتخاب مينينديز مرات عدة.
واشتهر مينينديز بعمله في مجال السياسة الخارجية، وكان مدافعاً قوياً عن حقوق الإنسان والديمقراطية، وشغل منصب رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ وشارك في تشكيل سياسة الولايات المتحدة تجاه كوبا وإيران وفنزويلا. وهو مؤيد قوي لإصلاح الهجرة الشامل والحصول على الرعاية الصحية، ودعم فرض عقوبات على إيران وروسيا ودعا إلى تعزيز الإنفاق الدفاعي.