ملخص
علينا أن ننتظر ما بعد الانتخابات لنرى كير ستارمر على حقيقته. ربما يغير خطته المتعلقة برفع الضرائب وبالاتحاد الأوروبي.
في حين أن عام 2019 كان بلا شك عام تركيز الانتخابات العامة على مسألة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي "بريكست"، فإن هذا الملف لن يكون قضية رئيسة في انتخابات العام الحالي 2024.
سيقدم حزب "المحافظين" من جانبه بعض الادعاءات المعهودة في شأن استفادة البلاد من الحريات التي وفرتها المغادرة البريطانية للكتلة الأوروبية، لكنه سيتجنب تذكير نحو 60 في المئة من الناخبين، الذين يندمون الآن على ترك بلادهم الاتحاد الأوروبي، والذين يريدون الانضمام مرة أخرى إلى المنظومة، بأن الحزب كان مهندس السيناريو المتمثل بالضرر الاقتصادي الذي ألحقه ببلاده. ويبدو أن التوقعات بانخفاض التجارة بنسبة 15 في المئة وتراجع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة أربعة في المئة، أثبتت دقتها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حزب "العمال" وضع خططاً جذرية لإصلاح العلاقة مع الاتحاد الأوروبي، لكنه يتحاشى مناقشتها لتجنب تنفير الناخبين الذين أيدوا مغادرة بريطانيا للكتلة الأوروبية، لا سيما منهم أولئك الموجودون في مناطق "الجدار الأحمر" Red Wall (دوائر كانت محسوبة تاريخياً على حزب "العمال" لكنه خسرها لمصلحة "المحافظين" في انتخابات عام 2019). أما حزب "الديمقراطيين الأحرار" الذي احترق لكونه الحزب المناهض لخروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي في انتخابات عام 2019، فلا يتحدث الآن إلا بصورة غامضة عن إمكانية عودة بريطانيا إلى السوق الأوروبية الموحدة ذات يوم في المستقبل.
كنتُ في وقت سابق افترضتُ أنه إذا كان لدى حزب "العمال" أجندة خفية، فقد تنطوي على زيادة الضرائب، وبخاصة بعدما تبين أن "السجلات المالية للبلاد هي أسوأ من المتوقع". وهذا السيناريو لا يزال محتملاً على رغم قول زعيم الحزب المعارض كير ستارمر لإذاعة "راديو تايمز"، الجمعة الماضي، إن "الحزب قد سبق أن حدد المجالات التي يعتزم فيها تنفيذ زيادات ضريبية محتملة".
أعتقد الآن أن أفضل سر يحتفظ به حزب "العمال" هو المدى الذي يمكن أن يذهب إليه في تعزيز أواصر علاقات المملكة المتحدة مع الاتحاد الأوروبي. ولنكن منصفين، فقد نجح رئيس الوزراء الحالي ريشي سوناك في جعل العلاقات مستقرة، وحاز استحساناً خاصاً من مسؤولي الاتحاد الأوروبي الذين لم يستسيغوا رئيس الوزراء السابق بوريس جونسون. ومع ذلك، فقد يذهب ستارمر إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير: فهو يرى بحق أن المملكة المتحدة ستكون غير قادرة على تحقيق النمو الاقتصادي الكافي لإنقاذ الخدمات العامة، من دون كسر الحواجز مع أكبر شريك تجاري لها.
وعلى رغم أن أداء حزب "العمال" كان جيداً بين الناخبين المؤيدين للمغادرة البريطانية في الانتخابات المحلية التي أجريت في مايو (أيار) الجاري، فإن كير ستارمر سيرفض المناشدات التي يوجهها إليه مؤيدو أوروبا المحبطون داخل حزبه، أن يكون أكثر انفتاحاً في الإفصاح عن نياته في هذا الصدد خلال الحملة الانتخابية. وسيلتزم ستارمر الذي يتسم بالحذر الدائم بموقفه الدفاعي القائل إنه "لا عودة إلى السوق الموحدة أو الاتحاد الجمركي أو حرية تنقل الأشخاص". ومع ذلك، فمن خلال المحادثات مع وزراء حكومة الظل "العمالية"، بات من الواضح بالنسبة إلي أن ستارمر سيتولى قيادة الجهود الرامية إلى إحداث نقطة تحولٍ في العلاقات، من دون أن يتجاوز عملياً الخطوط الحمراء التي رسمها.
ويأمل داعمو أوروبا داخل حزب "العمال" في أن يصار أقله فترة الأعوام الخمسة الأولى من ولاية حزبهم، إلى إعادة النظر في مسألة الاتحاد الجمركي، أو السوق الأوروبية الموحدة خلال فترة حكومية ثانية. ومع ذلك، لا يوجد أي نقاش، حتى بصورة خاصة، حول إمكانية العودة إلى الاتحاد الأوروبي. يبدو أن هذه المسألة ستبقى في عهدة الأجيال المقبلة للتفكير فيها أو اتخاذ قرار في شأنها.
وستتحول استراتيجية حزب "العمال" من الخطة الأصلية التي كانت تقضي بأن تتم عام 2025 - 2026 مراجعة الصفقة التجارية الهشة التي أبرمها بوريس جونسون. وبدلاً من ذلك، يهدف الحزب إلى توسيع نطاق الاتفاق الأمني المقترح بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى ما هو أبعد من مسائل الدفاع والشرطة والعدالة، ليشمل الأمن الاقتصادي والحد من الحواجز التجارية. ويمكن أن يشمل ذلك التعاون في مجالات مثل المناخ والطاقة وسلاسل التوريد والمواد الخام الحيوية، بما يتماشى وقواعد الاتحاد الأوروبي على أساس كل قطاع على حدة، وتقديم خطة تنقل للأفراد الذين تتفاوت أعمارهم بين 18 و30 سنة على رغم أن ستارمر رفض سابقاً اقتراحاً لـ"المفوضية الأوروبية" في هذا الإطار.
ومن الممكن في سيناريو مثالي لحزب "العمال" أن يشمل الاتفاق موضوع الهجرة، مما قد يؤدي إلى تحسين فرص "العمال" في بلورة اتفاق لإعادة المهاجرين إلى دول الاتحاد الأوروبي، مما يُنظر إليه على أنه الإجراء الأكثر فاعلية لوقف تدفق قوارب المهاجرين عبر "القنال الإنجليزي" إلى البر البريطاني. وقد قال لي أحد أعضاء حكومة الظل: "لا يمكننا مناقشة الأمر علناً الآن، لأن ’المحافظين‘ سيقومون باستغلاله، مدعين أننا سنقبل 100 ألف مهاجر من الاتحاد الأوروبي". ومن المرجح أن تظل الاستجابة المحلية لمثل هذا الاقتراح مصدر قلق كبير بعد الانتخابات، مما قد يعوق التقدم على هذا الصعيد.
وفي الواقع تتجاوز أجندة حزب "العمال" المخفية أهدافه المعلنة حتى الآن، كالاتفاق البيطري، والاعتراف المتبادل بالمؤهلات (قبول الدرجات المهنية والأكاديمية مما يسهل تنقل المهنيين والطلاب عبر الحدود)، وتسهيل جولات الموسيقيين في دول الاتحاد الأوروبي.
الذهاب أبعد من ذلك من خلال التفاوض على مزيد من الفوائد لن يكون بالأمر السهل. فالاتحاد الأوروبي يعمل وفق مبدأ "عدم الانتقاء" مما يعني ضمناً أن الدول غير الأعضاء في المنظومة لا يمكنها انتقاء المزايا التي تريدها في علاقتها مع بروكسل في حين ترفض مزايا أخرى. وسيحتاج ستارمر إلى تقديم ما هو أكثر من مجرد القدرات الدفاعية للمملكة المتحدة، كالقبول باختصاص قضائي محدود لـ"محكمة العدل الأوروبية" European Court of Justice في بريطانيا. وهذه خطوة من المرجح أن يقدم عليها.
إن حجم الأغلبية التي سيحظى بها حزب "العمال" سيكون لها تأثير كبير على القرارات والإجراءات التي يتخذها الحزب في المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي. فحصوله على غالبية كبيرة تأمل شخصيات بارزة في حزب "العمال" سراً في أن تصل إلى 80 مقعداً من شأنه أن يمنح كير ستارمر مزيداً من الثقة لمتابعة خطط طموحه من دون أن يقلق كثيراً على الانتخابات اللاحقة. وهذا من شأنه أن يطمئن الاتحاد الأوروبي إلى أن أي تغييرات ستُجرى، من المرجح أن تظل قائمة لفترة طويلة، ولن يُصار إلى إلغائها في أي وقت قريب من جانب حكومة "محافظين" مستقبلية.
هل يبدي الاتحاد الأوروبي تعاوناً من جانبه؟ إن الإرهاق الذي سببه خروج المملكة المتحدة من الكتلة الأوروبية يمتد إلى ما هو أبعد من الناخبين في بريطانيا، ولا يزال يؤثر على بروكسل عاصمة الاتحاد. إلا أنني أعتقد أن هذا الموضوع سيطغى عليه الخوف من رئاسة ثانية محتملة لدونالد ترمب في الولايات المتحدة، مما يدفع بكل من المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى تذكر من هو الصديق الحقيقي بدلاً من القيام بمنافسات وهمية. ومع انتخابات يوليو (تموز) المقبل في بريطانيا، ستتاح لكير ستارمر الفرصة لوضع أسس علاقات جديدة قبل الانتخابات الأميركية التي ستُجرى في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.
ولو كانت الانتخابات البريطانية ستُجرى في الخريف، لكان على زعيم حزب "العمال" أن يقدم عرضه المهم لزعماء الاتحاد الأوروبي خلال قمتهم في ديسمبر (كانون الأول) المقبل. أما الآن فقد يُعقد اجتماع لـ"الجماعة السياسية الأوروبية" European Political Community الأوسع (كيان سياسي نظري يضم جميع دول أوروبا ما عدا روسيا وبيلاروس)، في "قصر بلينهايم" في إنجلترا في الـ18 من يوليو، إذ يمكن أن تُجرى على هامشه مناقشة الاقتراح. وكان ستارمر قد احتفظ بعلاقات إيجابية مع كل من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتز (الذي كان من المقرر أن يلتقي به في برلين الشهر المقبل).
من المؤسف أن مسألة المغادرة البريطانية للاتحاد الأوروبي سيكون لها دورٌ ضئيل في حملة الانتخابات العامة في المملكة المتحدة. لكنني أدرك في الواقع السبب: فـ"المحافظون" سيستمتعون بفرصة رؤية ستارمر وهو يتبنى علناً مواقفه ومشاعره المؤيدة لأوروبا، فيما هو لا يريد أن يمنحهم أي حجة أو مادة للتصويب عليه.
وفي ما يتعلق بالاتحاد الأوروبي أخيراً، علينا أن ننتظر لنرى كير ستارمر الحقيقي. ويتعين على أنصار أوروبا أن يضعوا في اعتبارهم أنه لا تزال أمامه انتخابات للفوز بها، وأن المكافآت التي سيحصدها تستحق الانتظار.
© The Independent