Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فكرة التطهير... لماذا يحتاج البشر إلى الغفران؟

على رغم التقدم العلمي الهائل في عصرنا فإن ملايين الناس من حضارات وديانات عدة ما زالوا يمارسونها ضمن سياقها الروحي الأول

وفق بعض الشرائع السماوية يولد الإنسان مذنباً فحتى الطفل الصغير يحتاج إلى طقوس معينة للتطهير من الذنوب (بكس باي)

خلال تاريخه الطويل مع الروحانيات، ومنذ آلاف السنين طور الإنسان مفهوم التطهير من الذنوب كثيراً، إذ بدأت الفكرة ضمن سياقها المادي المباشر من خلال احتياج الإنسان إلى وسيط طبيعي مثل الماء والنار والتراب للخروج من عالم المعاصي إلى عوالم الغفران. وعلى رغم التقدم العلمي والتقني الهائل في عصرنا الحالي، فإن ملايين الناس من حضارات وديانات عدة ما زالوا يمارسون فكرة التطهير ضمن سياقها الروحي من خلال طقوس وشعائر مقدسة معروفة، مثل الحج والعمرة في الإسلام، و"التعميد" لدى المسيحية والمندانية، و"الميكفاه" اليهودية، و"النرفانا" الهندية.

طرق متباينة

وتتراوح هذه الطرق بين المكلف مالياً والشاق جسدياً، إذ تدرجت طقوس التطهير خلال قرون من الزمن لتنتقل من بعدها المادي إلى المعرفي والفكري، وبذلك انتقلت فكرة التطهير من التيمم بالتراب والوضوء بالماء لتصل إلى درجات فلسفية بالغة الصعوبة في بعض الأحيان.

في وقتنا الراهن وبسبب طبيعة العصر العلمية، أخذ مفهوم التطهير من الذنوب والمعاصي معنى مغايراً تماماً للبعد الديني أو لما كانت عليه الحال في الماضي. فالإنسان المذنب حديثاً هو الذي ارتكب جريمة يعاقب عليها القانون بمقتضى سلطة المجتمع، بالتالي يكون التكفير عن الذنوب من خلال تنفيذ العقوبة المقررة التي تراوح ما بين الغرامة المالية والحبس وغيرهما من العقوبات.

 

 

ويختلف مفهوم تطهير الإنسان من الذنوب الذي وضعته الأديان والشرائع السماوية وغير السماوية منذ آلاف السنين عن هذه الفكرة من حيث حصر العلاقة بين المذنب وربه. فكل الناس وفق المفهوم الديني الواسع خُطاة يجب تطهيرهم من الذنوب. وبذلك أعدت هذه الشرائع عبر التاريخ منظومة واسعة من الأفكار ذات الطبيعة الروحية والفلسفية التي تزعم القدرة على تطهير المذنبين كلياً ومن دون الحاجة إلى معاقبتهم. وتراوح تلك الطرق ما بين البسيطة والسهلة وغير المكلفة مالياً أو جسدياً، وبين تلك التي تحتاج إلى جهد كبير، وفيها قسط غير يسير من المشقة.

التعميد والحج

في الإسلام، تتراوح فكرة التطهير من الذنوب بواسطة التيمم بالتراب والوضوء بالماء وبين الحج. والحج هو أكبر طقوس التطهير في الإسلام وأكثرها كلفة مادية، وفيه مشقة جسدية خصوصاً لدى كبار السن، لكن هذه المشقة المادية والجسدية تدخل في حسابات الغفران، فتزيد من أجر الإنسان وثوابه. فالحج انتقال مادي من مكان إلى آخر، ويمكن القيام به في زمننا هذا من خلال السفر بالطائرة أو الانتقال عبر وسائل النقل البري أو مشياً على الأقدام في رحلة تصل إلى آلاف الكيلومترات أحياناً. وذلك لأنه مشروط بوصول الإنسان الى الكعبة في مدينة مكة بالسعودية، بصرف النظر عن المكان الذي يسكن فيه الإنسان.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وبعد أداء مشاعر الحج مباشرة يكون الغفران التام والكامل. وفي المقابل يمكن التطهر بالماء من خلال الوضوء خمس مرات قبل كل صلاة للحصول على ثواب تلك العبادة اليومية، وفي حال تعذر الحصول على الماء فإن التيمم بالتراب يؤهل المسلم لأداء صلواته اليومية.

وعلى رغم انتشاره الواسع يعد التعميد في المسيحية مقارنة بالحج الإسلامي وسيلة سهلة وغير مكلفة للتطهير من الذنوب، إذ يشترط فيه رش الماء على رأس الشخص أو غمسه في الماء، فيما تشترط بعض طرق التعميد أن يكون نهرياً، أي إنه لا يجوز إلا بغمس الإنسان في مياه الأنهار العذبة، ومن أشهر الديانات في هذا الصدد "المندانية"، وهي طائفة من أتباع يوحنا المعمدان، ويزعم كثيرون أنها الأقدم في هذا الطقس على الإطلاق، ويسمى التطهير لديهم "مسبوتاً".

سعادة أبدية

وفي "النرفانا" الهندية يولد الإنسان متعباً ويلاحقه العذاب الروحي من طفولته إلى وفاته، بسبب دورة الحياة الدائمة التي تتكرر من خلال الولادة والموت، والتي عبرت عنها هذه الفكرة من خلال مفهوم احتراق الإنسان داخلياً بسبب الجشع والكراهية والجهل، إذ تكون مهمة الإنسان في حياته إطفاء أو إخماد تلك الحرائق التي تسبب له والآخرين العذاب والشقاء.

وإذا تمكن الإنسان من السيطرة على تلك الأشياء الثلاثة فإنه يعيش سعيداً ومستقراً إلى الأبد، لكن التطهير من خلال هذه الطريقة بالغة القدم يعد الأقل كلفة من جميع الطرق المذكورة آنفاً. فالنار التي تطهر الإنسان رمزية ونابعة من الذات التي يجب إخماد شهواتها، وذلك للتحرر من منغصات الحياة وبلوغ الحال النهائية للخلاص، إذ يشبه الشخص الذي بلغ درجة "النرفانا" بـ"المطفأ" أو الإنسان الذي تمكن من الوصول إلى السعادة القصوى، ومن أشهر رموز هذه الفكرة بوذا وماني والمهاتما غاندي، وهؤلاء جميعاً من الرموز الكبرى في الثقافة الهندية.

 

 

ووفق بعض الشرائع السماوية يولد الإنسان مذنباً، فحتى الطفل الصغير يحتاج إلى طقوس معينة للتطهير من الذنوب. وفي طقوس التطهير الديني هناك دائماً وسيط مادي من الطبيعة مثل الماء والنار والشمس والتراب تكون مهمته الانتقال بالإنسان روحياً وجسدياً من عالم الخطايا والذنوب إلى عالم الغفران. ولذلك ورد مفهوم غسل الذنوب أو التطهير في غالب الديانات، بما في ذلك تلك التي نصفها بغير السماوية. ومن أشهر طرق هذا الطقس الروحي الوضوء بالماء والحج والتيمم بالتراب في الإسلام. أما في الديانتين المسيحية والمندانية فالتعميد هو أكثر تلك الطقوس انتشاراً. فيما تعد "النرفانا" الهندية الطريقة المعتمدة لدى البوذية والهندوسية.

عملية متكررة

ومن الجدير ذكره أن التطهير من الذنوب ما هو إلا عملية متكررة يمارسها الإنسان أكثر من مرة في حياته، وهي عملية سهلة وغير مكلفة لأن الأديان والشرائع السماوية وغير السماوية في عمومها جعلت منها وسيلة سهلة ومتاحة أمام جميع الناس.

وليس من الضروري أن يكون التطهير من الذنوب والمعاصي بالماء أو النار أو الشمس أو أي وسيط طبيعي، فـ"النرفانا" الهندية بمفهومها الشامل سلوك دائم ويومي من التقشف وإطفاء الشهوات في سبيل الوصول إلى السعادة والسكينة. ولا يتم ذلك إلا بتطهير الذات من خلال إخماد نيران الجشع والجهل والكراهية التي تسيطر على الإنسان.

وأصل كلمة التعميد من اللغة الإغريقية، وله جذور هندية وأوروبية وفق قاموس التراث الأميركي للغة الإنجليزية لهونون هاركوت (بوسطن – 2007)، وكلمة الإغريقية "بابتيموس" أخذت منها مفردة baptism الإنجليزية، التي تعني التعميد أو الغسل والغمس بالماء. ويعد هذا الطقس في المسيحية سراً من أسرار الكنيسة المقدسة، وهو طقس واسع الانتشار في أنحاء العالم كافة، غير أن أصوله تعود إلى اليهودية والمندانية في فترة الهيكل الثاني، وفقاً لمخطوطات البحر الميت، ويسمى الغسل أو التطهير يهودياً بـ"الميكفاه"، وهو مكان مليء بالماء يستخدم من أجل الاستحمام التعبدي.

 

 

بدورها قارنت الموسوعة العلمية الأوروبية الحرة (ويكيبيديا) طقس التطهير لدى معظم الديانات السماوية بما فيها الإسلام، الذي يعد الاغتسال فيه شرطاً لاعتناق الديانة والتطهر من الشرك والكفر.

ووفق معجم "الدخيل في اللغة العربية" للعلامة والمحقق الهندي فانيا عبدالرحيم مدير مركز الترجمات في مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة، فإن أصل كلمة "نرفانا" يعود إلى اللغة السنسكريتية أو الهندية القديمة. وهي تعني حرفياً "الإنسان المطفأ" الذي يبلغ الحال النهائية من الخلاص. و"النرفانا" في جوهرها مجرد فكرة فلسفية تؤدي إلى السعادة من خلال الإزالة النهائية للعناصر العقلية المزعجة في حياة الإنسان. وفي هذه الحال لا يحتاج الإنسان إلى وسيط بشري أو طبيعي مثل الماء أو الكاهن أو النار لكي يتطهر من ذنوبه وخطاياه بصورة دائم وأبدي.

خارج النص

ورد تفسير كلمة "baptism" في مراجع تعود إلى عام 1964 ضمن معناها الحرفي، وهو "الغرق"، مما يعني أن كلمة اليونانية، وكما وردت في كتاب "المعنى النظري والعلمي للعماد"، كانت مستخدمة خارج النص الديني في الهيلينية القديمة بمعنى الهلاك، الذي يحدث عند غرق السفينة. ومن هنا جاءت فكرة الغمس الجزئي أو الكلي بالماء عند التعميد، وبحسب طقوس خاصة بالديانة أو الطائفة التي تمارس التعميد. وإضافة إلى ذلك يدل استخدام كلمة قديماً ضمن معنى مغاير تماماً، وهو الهلاك، على وجود معنى مزدوج لفكرة التطهير. ومن هنا تعددت طرق التعميد وتنوعت وفق البيئة لكل شعب أو طائفة، ولكنها ظلت في سياق الخلاص.

الدليل على ذلك أن المندانية عاشت بجوار نهر الأردن وأخذت معنى التطهير من كلمة "يردنا"، وبالنسبة إليها فإن كل الأنهار هي نهر الأردن، إذ يشترط في تطهير المندانية الغمس في ماء الأنهار دون غيرها، كما أن أسلوب الغمس الثلاثي يوافق معنى الثالوث المقدس.

اقرأ المزيد

المزيد من منوعات